كان مطعم فيصل يقع مقابل مدخل الجامعة الاميركية في بيروت ولا أظن ان كثراً من الطلاب الذين دخلوا الجامعة خصوصاً من الاقطار العربية، لم يأكلوا في هذا المطعم. أضيف الى هذا ان اكثر الاساتذة العرب الذين درسوا في الجامعة لا بد انهم اكلوا على الاقل ثلاث او اربع مرات في هذا المطعم. المطعم كان اسمه فيصل وكنتُ أظن انا انه سمي على اسم فيصل الاول ملك العراق، لكنني عرفت في ما بعد ان صاحبه سماه باسمه هو. وكان شاباً وسيم الطلعة مهذباً لطيفاً لكن هو كان يشرف من بعيد. كان عنده طباخون يجيدون الطبخ العربي على نحو قلما يجاد في المطاعم التي من هذه الدرجة. والاكل متنوع على اكثر ما يمكن. فضلاً عن ذلك فإن فيصل لما كنت في الجامعة وعرفته كان يطعم الطلاب على اعتبار ان آخر الشهر تأتيهم النقدية من الاهل فيدفعون له. وهذا امر كان يسهل على الطلاب ? يسهل من جهة ومن الجهة الثانية يسمح لهم بأن يتمادوا في الاكل لانه مندفع في ما بعد. لكن اذكر نكتة للشيخ منير تقي الدين الذي كان يومها طالباً في الجامعة الاميركية في الدراسات العليا وكان يعد رسالة اقترحت انا عليه ان يكتبها موضوعها"استقلال لبنان". هذا الرجل كان شاباً طويلاً جميل الخلقة ومهيباً في الوقت نفسه، لكنه كان خفيف الدم. ولذلك كان في يوم من الايام بعد ان تغدى، كتب على ورقة كانت أمامه، وكنت الى جانبه:"قلم مطعم فيصل سيال يقيد مرات اكثر من اللزوم". أنا ترددت على مطعم فيصل في مناسبات عدة. كنت أدرّس في الصيف وكانت اسرتي تصطاف في سوق الغرب. لكن سواي من اساتذة الجامعة، خصوصاً الذين لم يكونوا متزوجين، كانوا تقريباً زبائن"دويمة"في مطعم فيصل. هذه كلها امور عادية. مطاعم كثيرة كانت تجيد الطبخ وكانت على مقربة من الجامعة تستفيد وتفيد. لكن مطعم فيصل كان مدرسة. غريب ان يقال عن مطعم في بلادنا انه كان مدرسة. هذا الامر معروف عن بعض المطاعم في لندن التي كان يلجأ اليها كتّاب وأدباء، وعلماء ومؤرخون وجغرافيون ومكتشفون. هذه اعرفها وهي تكاد تكون اندية اكثر منها مطاعم. اما ان يكون مطعم في رأس بيروت في شارع بلس مدرسة فأمر يحتاج الى بعض التوضيح. في الثلاثينات من القرن العشرين كانت الحركة القومية العربية على اشد فاعليتها وفي الجامعة بالذات. قامت هيئة ظلت سرية اسمها جمعية القومية العربية. هذه الجمعية هي التي تحدثت ودرست وكتبت ووضعت بالنهاية قانوناً او دستوراً لها في كتيب عرف باسم الكتاب الاحمر لأن غلافه كان احمر وضعه الدكتور قسطنطين زريق الذي كان يومها استاذاً قادماً حديث العهد من اميركا لكنه قبل ان يذهب الى الولاياتالمتحدة كان هو نفسه من دعاة القومية العربية. وبهذه المناسبة قلما نجد كاتباً او استاذاً او محاضراً في هذه الفترة من اواسط العشرينات الى اواسط الخمسينات من الذين كانوا يعنون بالشؤون العامة لم يكن له دور في القومية العربية اما تقبلاً او شرحاً او فهماً. فالجامعة الاميركية تخرج منها عدد كبير جداً من الطلاب العرب. لانه لم يكن مجال للتعليم العالي امام الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين سوى الجامعة الاميركية في بيروت. مطعم فيصل كان المتنفس الاخر لهذه الفئة. يعني هناك يستطيع الاشخاص الجالسون على طاولة واحدة ان يتكلموا في الموضوع. أنا أود لو ان هناك من يمكنه ان يكتب تاريخ هذا المطعم اذا كان ذلك ممكناً، ويذكر اسماء الذين اكلوا فيه من دكتور فاضل الجمال العراقي الى دكتور اسحق موسى الحسيني الفلسطيني وعدد كبير من الاساتذة والكتاب. هذه امنية ارجو ان يحققها احدهم. لكن هل هناك وثائق وسجلات حفظت؟ لما اقفل مطعم فيصل في ما بعد وأصبح مطعماً عادياً لما يسمى بالاكل السريع. مطعم فيصل يمكن اعتباره ملحقاً بالجامعة الاميركية. ثم فتح في اواسط الخمسينات، في ما اظن، مطعم كان على ناحية شارع بلس وجاندارك، كانت هناك من قبل قهوة بلدية، شاي وقهوة واركيلة ولعب طاولة الخ... وكنت انا اضطررت الى الذهاب اليها مرة او اكثر: الاولى لما وصلت الى بيروت سنة 1949 واردت ان استأجر بيتاً فقيل لي ايليا بخعازي السمسار تجده في القهوة، اذ ان هذه الامور كانت مألوفة في ذلك الوقت. فلا بد انني جلست في هذه القهوة مرتين او اكثر حيث تمتعت بأركيلة. هذه القهوة زالت وفتح شماعة مقهى سماه Uncle Sam. فيوم 4 تموز يوليو من تلك السنة وذلك بعد افتتاح المحل بوقت قصير، اعلن انه بمناسبة استقلال الولاياتالمتحدة فهو يقدم ذلك اليوم الشراب مجاناً لمن يأتي. فجاء نبيه فارس وقال لي تعال يا نقولا اليوم المشروب ببلاش في Uncle Sam. ذهبنا في الصباح، طلبنا زجاجتين صغيرتين من البيرة، كان اليوم حاراً استمتعت بها. قلت له يا نبيه يمكن الحصول على زجاجة ثانية؟ قال عيب. قلت انا مستعد ان ادفع ثمنها. قال لي مجرد ذكرك للثمن سيزعل صاحبنا قلت فلأجرب وقلت للكارسون جئني بزجاجة بيرة ثانية مع الفاتورة جاءت زجاجة البيرة الصغيرة وليس معها فاتورة وبعد لحظات جاء شماعة المحل وقال لي:"أي نحن لح نِزْوَر بقنينة بيرة لنقولا زيادة تكرم". هذا المطعم كان يؤمه كثيرون من اتباع الحزب القومي السوري في الجامعة الاميركية. قلما كان يذهب اليه قوميون عرب في جماعة وقد يذهبون افراداً. اذكر بهذه المناسبة انني كنت اتحدث مع انيس صايغ الذي كان قد انتهى من دراسته للبكالوريوس في الجامعة الاميركية. كنا نتحدث انا وهو امام مكتبة الجامعة الاميركية فجاء ذكر مطعم فيصل ومطعم انكل سام فقال انيس:"مطعم فيصل لطلاب الجامعة الذين يعملون للبكالوريوس وانكل سام للذين يدرسون الدراسات العليا. كانت نكتة لكن فيها شيء من الصواب لان انكل سام لم يكن يكتظ بالزبائن وقد رتبت المقاعد فيه بحيث لا يمكن الاكتظاظ لان هذه الكراسي لم تكن تنقل بل كانت مقاعد ثابتة. في مطعم فيصل كانوا مرات يجلبون كراسي اضافية. هذه الاماكن التي ذكرت في شارع بلس كنت عشيراً لها بمعنى انني رافقتها وكان لها في نفسي وفي حياتي دور كبير. والذي يدرس في الجامعة الاميركية ربع قرن ولا يتعرف الى مطعم فيصل كان لا يستحق ان يكون استاذاً في الجامعة. انا أتكلم عن اولاد العرب. اما الاميركان فكانوا قلما يذهبون لانهم لا يستطعمون بأكلنا. وكان مطعم فيصل مكاناً اطلب منه الاكل الى البيت عندما يكون عندي دعوة واحتاج الى اكل من الخارج وكان يعد الاكل ويبعث به الى البيت. نحن كنا نقيم في شارع جان دارك لم نكن بعيدين عن فيصل. وتكرم يا دكتور زيادة تكرم يا دكتور نبيه كان نبيه يعيش قريباً منه. من هنا جاءت هذه الصلة. وكان هناك مطعم صغير عربي اسمه مطعم جرجورة. مطعم جرجورة كان من الناحية الطعامية ممتازاً وقد أكلت فيه مرات كثيرة. هذا المطعم كانت تقوم بأوَدِه اسرة. هذه الاسرة هي التي كانت تبتاع الخضار واللحوم وهي التي كانت تعد الطبخات المختلفة مع المساعدين. وكبير الاسرة بول كان هو يشرف على كل هذا وعلى التنظيم في المطعم. لم يكن المطعم كبيراً ولم يزدحم عادة، لكنه كان مطعماً تستطيع ان تأكل فيه وانت مطمئن الى الذوق وانت مطمئن الى ان احداً لن يقول لك انتهى الوقت اخرج. كان جو مطعم جرجورة جواً لطيفاً انيساً يختلف عن جو فيصل الذي لم يكن في يوم من الايام هادئاً من دون ضجة في ما اعرف. يجب ان اذكر مكاناً آخر في شارع بلس هو افران الجامعة. لا ادري متى أنشئت هذه الافران، لكنني اعرف انها كانت موجودة لما جئت ولا تزال قائمة الى الآن. هذه الافران كانت تزود الناس والمطاعم بالخبز. كانت افراناً كبيرة ومتقنة. الى الآن لا يزال ابني باسم الذي درس في الجامعة الاميركية يقول ان احسن المناقيش التي يعرفها في بيروت تخبز في افران الجامعة وعندما يريد ان يستطعم بمنقوشة يبعث بمن يأتيه بها من هناك. ولما ذكرت له مرة اماكن اخرى قال لي:"ما لنا ومال الحكي انا ما بلاقي منقوشة طيبة الا عند افران الجامعة لا في بيروت ولا في غيرها". هذا التعصب للشيء الجيد هو امر عادي عند ابني رائد وباسم. ابناي متعصبان جداً لكل ما هو نظامي مرتب فكري يدعو الى الامام ويؤمن بالمستقبل ويكون العمل فيه منتظماً. ولذلك فهما من الناجحين في الاعمال التي يقومان بها. هذه على الهامش. لكن انا فضلاً عن مطعم فيصل الآن لا تزال علاقتي بشارع بلس قائمة على شيء واحد ان فيه مكتبة رأس بيروت وان فادية جحا تشرف عليها وتستحضر لي كل ما اريد من الكتب. هذا الحديث شهادة لا اكثر ولا اقل من شخص عمل في الجامعة ربع قرن واستمر يذهب اليها للعمل في المكتبة مدة طويلة الى ان اصبح لا يستطيع القيام بذلك فاصبح الاعتماد في الحصول على الكتب من طريق الآخر. ذكريات لطيفة. لكنني لا ازال آمل ان يكتب احدهم تاريخ مطعم فيصل. فليس في لبنان مطاعم كثيرة لها هذا التاريخ. هناك مطاعم قد يكون لها زبائنها من الادباء او الصحافيين لكن مطعم فيصل كان له صفة خاصة كما قلت: كان مدرسة. اقفل المطعم وزعلنا واصبح مكانه للطعام السريع Fast Food وبوظة وما شابه ذلك. لكن مكتبة رأس بيروت لا تزال شاهداً على اهمية شارع بلس خارج الجامعة الاميركية بطبيعة الحال.