هناك سلفيتان لا واحدة: الأولى متشددة ويمكن القول إنها تتجه لللتنابذ مع كل الآخر في شكل مغال. وهناك أخرى عقلانية جدالية منفتحة على الآخر بشروطها. ومع أن بعض المفكرين المعاصرين يوسعون من دائرة السلفية أو الأصولية - مع الفارق بينهما ? على رغم التداخل، فيتكلمون عن أصوليات أخرى كأصولية مسيحية، وأخرى ماركسية، وثالثة ليبرالية، ورابعة وضعية علمانية، كما فعل مثلاً روجيه غارودي في كتابه"الأصوليات". لعل من أهم الأمثلة على النوع الأول من السلفية منظمة الزرقاوي التي فاقت من حيث النوع الممارساتي الدموي والدعاوى العدواني ما اعتُبر أصلها أو مركزها"البنلادني". ومن الطريف الإشارة هنا إلى ما ذكره أحد النشطاء اليمَنيين المقربين من بن لادن وحارسه الشخصي لفترة معتبرة في سلسلة مقالات ومذكرات نشرتها يومية"القدس العربي"خلال السنة الجارية من أن هذا الأخير كان هدفاً للتكفير من إحدى التيارات التي كانت موجودة في أفغانستان خلال فترة وجود إمارة طالبان الأفغانية وأن أحد السلفيين السودانيين هاجم بن لادن وحاول قتله وهكذا فالأصولية المتشددة كالنار: إذا لم تجد ما تأكله من"الآخر المكَفَّر"تبدأ بأكل نفسها. أما الثانية العقلانية المعتدلة - فنجد أصفى مثال لها في التراث الإسلامي كما عبرت عنه سيرة وأفكار فرق إسلامية عدة من أهمها فرقة الأشاعرة وهي فرقة إسلامية سلفية تستعمل آليات الخطاب الكلامي والفلسفي القائمة على الجدل والمحاججة دفاعاً عن ثوابتها في مواجهة التيارات المضادة والمخالفة. ومعروف أن الدولة العثمانية - كما يسجل الباحث التراثي العراقي الراحل هادي العلوي - هي التي قضت وصفَّت فرقة الأشاعرة مع سائر الفرق والنحل الأخرى التي أنجبتها فترة المد الحضاري العربي الإسلامي في الأوان العباسي مع انها - الدولة العثمانية - تقوم على الفكر السلفي أيضاً ولكنها سلفية متعصبة ومنغلقة تعتمد سلطة الدولة للبطش بمخالفيها. وفي زماننا لا نعدم أن نجد تيارات تقليدية وكتاب ومفكرين سلفيين عقلانيين لكن وزنهم لا يضاهي أو يفوق عددياً وزن نظرائهم في الطرف السلفي المقابل. الترميز والتماهي: في هذه البسطة التحليلية سنحاول مقاربة مثل واحد على أسلوبين يعتمدهما الخطاب الأصولي التكفيري في الميدان الإعلامي تحديداً هما الترميز، أي اتخاذ رموز إسلامية، ومن فترة صدر الإسلام خصوصاً، لحالات وكيانات وشخصيات معاصرة، تندرج، استعمالاً، ضمن ما اصطلح على تسميته"التجربة الجهادية السلفية"المعاصرة. والأسلوب الثاني هو التماهي الذي هو بمثابة تواصل مع الأسلوب الأول ومنتوجه في آن واحد بحيث يتم استخدام رموز معينة وشديدة الخصوصية من التراث الإسلامي في بدايات الدعوة كمصدر للفاعلية الإعلامية والإيديولوجية للمجموعات المسلحة المعاصرة. سنتناول هنا بالتحليل، واقعة إقدام منظمة الزرقاوي على تشكيل فوج من الانتحاريين الذين يستعملون الأحزمة الناسفة أو العربات المفخخة في عملياتها الكثيرة التي خلفت الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف المدنين المسلمين من المذاهب الأخرى، وإطلاق اسم الصحابي الشهيد البراء بن مالك على تلك الأفواج ضمن"كتيبة البراء بن مالك"كما ورد في بيانات المجموعة المذكورة. هدفنا من هذه المحاولة هو إثبات أن الانتحاريين المعاصرين أساءوا بالغ الإساءة للصحابي الشهيد حين جعلوه رمزاً لعملياتهم الانتحارية وتماهوا معه في شكل تضليلي ولا تاريخي. مهمتنا إذاً تخليص رمزية وذكرى الصحابي الشهيد من محاولة إسقاط سياسية وأيديولوجية ذات أهداف تتنافى وسماحة الإسلام الحنيف ومع تقاليد العرب القتالية النبيلة قبل وبعد الإسلام، محاولين إرجاع المرموز به - البراء - إلى بيئته التاريخية وتجربته الجهادية التي لا علاقة لها بتجربة"الانتحاريين المعاصرين". فمن هو البراء بن مالك؟ البراء بن مالك: يخبرنا ابن كثير في"الكامل في التاريخ/ ابن الأثير ص374 النسخة الإلكترونية"بأن البراء هو أخو أنس بن مالك وكان صحابياً جليلاً لم يتخلف عن غزوة أو معركة من معارك بدايات الدعوة الإسلامية. ولعل أشهر مشاركة له كانت في معركة"الحديقة"التي هَزَمَ فيها المسلمون المرتدين بقيادة مسيلمة، وخلالها قام البراء رحمه الله بعمل قتالي هو أقرب إلى ما نسميه اليوم عملية فدائية شديدة الخطر والجرأة ولكنه خرج منها حياً ومصاباً بجروح عدة. مختصر الواقعة كما نقرأها في"الكامل"لابن الأثير أو في"تاريخ الطبري ص 658 النسخة الإلكترونية"تقول إن القتال قد احتدم بين المسلمين واتباع مسيلمة ثم انسحب المرتدون وتحصنوا في حديقة وأغلقوا بابها عليهم فطلب البراء من المسلمين أن يرفعوه فيلقوا به إلى داخل الحصن ليقاتل العدو ويفتح الباب، فرفض المسلمون أن يفعلوا في أكثر الروايات، ولهذا الرفض دلالاته المهمة وسنعود إليها. فما كان من البراء إلا أن اعتلى جدار الحصن أو الحديقة وألقى بنفسه وقاتل المرتدين وتمكن من فتح الباب واقتحم المسلمون الحصن وقضوا على العدو. تورد المصادر أيضاً أن البراء شارك في معارك الفتح والتحرير الإسلامي في العراق ولكن الخليفة عمر بن الخطاب اشترط على قيادة الجيوش عدم تأمير البراء على أي مجموعة من المقاتلين ولكنه ترك له الحق في أن يقاتل بمفرده ضمن الجيش. ونرجح أن الخليفة الفاروق إنما فعل ذلك لمعرفته بروح الإقدام التي لا حدود لها لدى البراء والتي قد تشكل خطراً على المقاتلين المسلمين في حال تأميرهم عليهم. ونعلم أن البراء تمكن في إحدى تلك المعارك من إنقاذ أخيه"أنس"الذي اصطاده المقاتلون الفرس بكلاليب حديد محماة كانوا يلقونها من أعلى حصونهم على المسلمين حيث تعلق بالكُلاّب وفك عتلته الحامية حتى احترق لحم كفيه وأنقذ أنس. استشهد البراء بن مالك في معركة"تستر"قرب الأحواز الحالية حيث كان يقاتل ضمن جيش البصرة الذي بعثه أبو موسى الأشعري بأمر من الخليفة الفاروق إلى جانب جيش"الكوفة"الذي بعثه سعد بن أبي وقاص لمواجهة جيوش الساسانيين هناك وكان النصر حليف العرب المسلمين. هذا هو البراء بن مالك: صحابي جليل، ومقاتل مقدام في شكل غير طبيعي، غير أن هذا ليس كل شيء، فلكي نفهم عبارة"في شكل غير طبيعي"علينا أن نأخذ بالحسبان أن هذا الصحابي الجليل ? كما يوثق ابن الأثير والطبري وغيرهما - كان يعاني من عارض صحي معين، يصفه لنا ابن الأثير في معركة"الحديقة"بقوله وكان البراء بن مالك، إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد عليه الرجال ثم يبول، فإذا بال ثار كما يثور الأسد، فأصابه ذلك، فلما بال وثب وقال: إلي أيها الناس، أنا البراء بن مالك! إلي إلي! وقاتل قتالاً شديداً... مصدر سابق أما الطبري فهو أكثر تحديداً من ابن الأثير في وصفه للحال، حتى إنه يشخص العارض الصحي النفسي لهذا الصحابي ويسميه"العرواء"، ففي تاريخه"تاريخ الأمم والملوك"نقرأ ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وكان إذا حضر الحرب أخذته العرواء حتى يقعد عليه الرجال، ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله، فإذا بال يثور كما يثور الأسد - فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال، فلما بال وثب، فقال: أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك، هلم إلى!. هذا ما قاله الطبري وابن الأثير، هما مَن هما من السمعة والمكانة في التراث الإسلامي، بمعنى، أن الأمر لا يتعلق بتشويهات وإسقاطات معادية، بل بحال إنسانية لم يتردد المؤرخان المسلمان عن إيرادها. وأكثر الظن أن البراء كان يعاني من نوع من الصرع، غير أن من المعروف أن المصاب بالصرع يدخل في حال من الوهن والضعف الشديدين بعد النوبة الصرعية التي تنتابه الأمر الذي يعطي لحال البراء خصوصيتها وقد يحيلها إلى مرض أو عارض صحي آخر. البناء على التشابه: محاولة السلفيين الانتحاريين المعاصرين لترميز البراء بن مالك ومن ثم التماهي معه تنطلق من استغلال واقعة جرأته المتناهية التي تجلت في قيامه بإلقاء نفسه داخل الحصن المعادي خلال معركة اليمامة"الحديقة". في هذا الفعل وجد التكفيريون وجهة شبه قوية مع الأعمال الانتحارية التي يقوم بها أفراد خلاياهم والواقع أن الحال مختلفة، ففي كل فعل عسكري فدائي خطير يظل ثمة احتمال بالنجاة مهما بدا ضعيفاً ولكنه موجود وهذا ما حدث في حال البراء الذي أصيب بعدد كبير من الجراح ولكنه ظل على قيد الحياة وشارك في معارك أخرى. نلاحظ أيضاً ومع أنه نجا ولكن المقاتلين المسلمين رفضوا تلبية طلبه بأن يرفعوه ويرموه إلى داخل الحصن والأكيد انهم رفضوا ذلك لأنهم وجدوا في هذا الفعل شبهاً بالانتحار الذي يرفضه الإسلام ويحرمه تحريماً تاماً. كما يمكن أن نتوقف عند واقعة رفض الخليفة عمر بن الخطاب تأمير البراء على أي مجموعة من المقاتلين ومنها يمكن أن نستنبط ماذا كان سيفعل الخليفة الفاروق مع أي قائد أو أمير يبعث في عصرنا بشبان مسلمين مزنرين بالأحزمة الناسفة ليفجروا أنفسهم بين جماهير المسلمين الأبرياء في الشوارع والأسواق والمساجد والحسينيات بل وحتى استهداف المحتلين في أوساط مكتظة بالمدنيين المسلمين على اعتبار هؤلاء المسلمين من"المترسين"أو"المتمترسيين"الجائز قتلهم وقتالهم وفق بعض الفتاوى السلفية التكفيرية المعلنة. خلاصات: تشطب التكفيرية المعاصرة على خصوصية حال البراء بن مالك الصحية وتهمل تماماً موقف المسلمين المعاصرين له والمشاركين في المعارك التي خاضها ولا تلقي بالاً لأمر الخليفة الفاروق بعدم تأمير البراء وأخيراً وليس آخراً تحاول أن تجعل من حادثة عسكرية جريئة فعلاً قام بها البراء وعاد منها منتصراً وحياً وبين عملياتها التي ليس ثمة أي احتمال للعودة حياً لمن يقوم بها. إن التكفيرية الانتحارية تسلخ جزءاً من حال لتجعل منها رمزاً"إسلامياً"لممارسة انتحارية تستهدف المسلمين الأبرياء لأسباب طائفية معلنة ومن ثم تتماهى مع الرمز لتقدم نفسها على اعتبار أنها"مجاهد مسلم"هو البراء بن مالك نفسه. وهي في كل هذا إنما: تضلل المسلمين المعاصرين الراغبين فعلاً في جهاد عدوهم الذي يحتل بلدانهم ويقمع شعوبهم، وهي ثانياً تسيء بالغ الإساءة لصحابي شهيد شجاع حين تجعل منه انتحارياً، وثالثاً فهي تزوّر التاريخ الإسلامي تزويراً فظاً ومسبباً لقتل الأبرياء عوض أن يكون هذا التاريخ مهمازاً وقاعدة وكنزاً غنياً من البطولات والتضحيات لشباب اليوم الراغبين حقاً وفعلاً لقتال وجهاد المحتلين أينما كانوا. إن مسؤولية كبيرة تقع اليوم على الكتاب الإسلاميين العقلانيين وعلماء الدين المسلمين المعروفين ورجال السياسة وقيادات المقاومة والجهاد غير الانتحاري، للقيام بما يجب القيام به لتفكيك وتحليل وفضح هذه المحاولات التي تقوم بها بعض المنظمات التكفيرية الانتحارية للترميز والتماهي الأيديولوجية والحزبية لأبطال الإسلام فالسكوت عن هذه الأفعال صار لا يقل خطورة عن القتل بالعمليات الانتحارية ذاته.