خطاب التطرف شكل من أشكال خطاب العنف الذي سبق أن تحدثت عنه، في هذه الصحيفة، مؤكداً طابعه القمعي الذي يتجسد به العنف ابتداءً من تراكيب اللغة التي سرعان ما تتحول إلى أفعال عنف، موجَّهة إلى النقائض التي يسعى هذا الخطاب إلى إزاحتها، أو استئصالها، أو ترويع المؤمنين بها، كي يخلو له الحضور، وتكتمل له الهيمنة، ويغدو هو الخطاب الحاكم في الثقافة والسياسة، والوعي الاجتماعي، فضلاً عن الفكر الديني الذي ينتجه البشر حول الدين، أو نتيجة تأويلات وعمليات تفسيره التي تهدف إلى تحقيق مصالح الجماعات المُؤَوِّلة أو المفسِّرة. ولا فارق بين التطرف والتعصب في مدى الاقتران بالعنف، أو آليات القمع، فكل تطرف تعصب لموضوعه، وكل تعصب تطرف في المدى الذي تصل به الممارسة إلى حَدِّها الأقصى الذي يغدو إرهاباً، يقرن الفكرة الجامدة بالفعل القمعي، ويصل ما بين تصلب الإيمان الأعمى بهدف من الأهداف والعنف الممارس على الآخرين لفرض هذا الهدف، أو تحقيقه بالترويع والتنكيل. وإذا كان التطرف - لغة - هو الوصول إلى الحد الأقصى في مدى ممارسة الفكرة، أو المبدأ، أو الرأي، ومجاوزة الاعتدال فيها، فإنه الوجه الآخر من التعصب الملازم للحد الأقصى من انغلاق مدار الإيمان بفكرة، أو مبدأ، أو رأي. والصلة بين التعصب والتطرف هي صلة السببية التي تجمع ما بين الفكر والممارسة، الاعتقاد وسلوكه، ولكن من المنظور الذي يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد، خصوصاً في الدلالة القمعية التي لا تخلو من عنف الفرض عنوة، أو قهر الآخرين على الإذعان والتسليم القسرى بما يراه المتعصب، أو يدعو إليه المتطرف، أو يراه ويدعو إليه الاثنان اللذان يمكن أن يكونا مفرداً بصيغة الجمع، أو جمعاً بصيغة المفرد، في تجاوب المعتقدات والأفعال التي تجاوز الفرد إلى الجماعة، والجماعة إلى المجموعات. وفي اللغة، فإن الطّرْف هو حرف الشيء، ومنتهى كل شيء. ويقال طَرَفَه طَرْفاً: لطمه بيده، وطَرَفه عنه: ردّه وصرفه، وطَرَفَ الخيلَ: رَدَّ أوائلها على أواخرها. وتطرف عليهم: أغار. وكلها مدلولات لا تفارق صفة العنف الملازم لدال"التطرف"ومشتقاته. أقصد إلى الصفة نفسها التي تنطوي عليها دوال"التعصب"ومشتقاته في اللغة، خصوصاً حين تتكرر دلالات الثبات والتثبيت، الجمود والتجميد، في موازاة دلالات الشد، والإكراه، وانغلاق المدار الذي يجمد على ما فيه، مكتفياً بنفسه، رافضاً غيره، ومستأصلاً كل مختلف أو اختلاف. ويبدو ذلك واضحاً في قولهم: عَصَبَ الشيء بمعنى شَدَّه، وعَصَبَ الناقة بمعنى شَدَّ فخذيها لتَدِرَّ، وعَصَبَ به القوم اجتمعوا وأحاطوا به، وعَصَبَ الريق الفم بمعنى يَبِسَ عليه، وعَصَبَ الرجل بيته أقام فيه لا يبرحه. وقد سبق لي أن أوضحت - في دراسة سابقة - أنه إذا كانت"العصبية"تعني الرجوع إلى الأصل العرقي للقبيلة، وجعله معياراً للتحسين والتقبيح بين أبنائها، ومن ثم معياراً لإقامة تراتب قسري بين البشر بوجه عام، فإن هذا المعنى العنصري يتجلى على المستوى الفكري في العودة، أو الإعادة القسرية، إلى أصل اعتقادي، موازٍ للأصل العرقي الذي يتأوله من يدعو إليه، محيلاً التطرف فيه أو التعصب له إلى معيار حاسم لإثبات القيمة الموجبة أو نفيها وتأكيد القيمة السالبة، بحسب درجة الالتصاق بالأصل العرقي أو الاعتقادي، ومدى الاتحاد به، أو العودة بكل شيء إليه. والقيمة الموجبة قرينة العودة إلى أصل ثابت، جامد، ترتد إليه الأشياء، كما ترتد المعلولات إلى عِلّتها الأولى في حركة متقهقرة دوماً، منغلقة أبداً، حركة لا تخلو من معنى الثبات على أصل واحد، وفرضه قسراً بالمعنى الذي"يتعصب"السيد بالناس من حوله، ليصيروا عصبة له، تماماً كما يتعصب المستبد الذي لا يقبل له شريكاً بالتاج على رأسه، مستكفياً به في ملكوته المطلق أو في تأويلاته التي يوازي إطلاقها انغلاقها على نفسها وإغلاقها لإمكانات الانفتاح على غيرها. هذه الدلالات المتشابكة للتعصب يتكامل بها معنى التطرف في خطابه الذي ينبني على عناصر تلح على الإجماع القسري، وتستأصل إمكان الاختيار الذي قد يخرج على المدار المغلق للمتعصب به، ولذلك فخطاب التطرف - أو التعصب بلا فارق يذكر، من المنظور الذي أطرحه - هو تجسيد لحالة معرفية، مؤدلجة بالمعنى الذي يجعل من الإيديولوجيا وعياً زائفاً يوهم معتقديه بسلامته، حالة معرفية تجمد فيها الذات الفاعلة في الخطاب، وبالخطاب، على ما أدركته، وترفض أن ترى سواه، أو تمنح غيره حق الوجود، أو حتى تسمح للغير أن يرى غير ما تراه. وبقدر ما تجمد هذه الذات على إيمانها المطلق بما تراه يقيناً، وحقيقة لا حقيقة غيرها، فإن حَدِّية إيمانها تنفي عنها صفات النسبية أو احتمال الخطأ، فالحقيقة التي تحتكرها هذه الذات، وتتعصب لها وبها هي يقين مطلق، لا يقبل النسبية أو يعترف بها، ولا إمكان للزيادة على ما اعتصب به وله، سواء بالتعديل أو الإضافة، أو حتى المرونة في الممارسة، فالإثم الأكبر ، في ما تراه هذه الذات، وتخايل به - هو وضعها، أو وضع يقينها، موضع المساءلة التي تعني ، في ما تعني - إلغاء، أو - على الأقل - التقليل من شأن مكانتها الأسمى، ومن ثم التهوين من وضعها الأعلى الذي يتنزل على غيره ولا يتنزل عليه غيره، فهو الوضع الأمثل الذي يهبط من ذات أعلى إلى ذوات أدنى، عليها السمع والطاعة، التصديق والإذعان، ومن ثم الاعتصاب بما تراه هذه الذات والعمل بمقتضاه، وذلك في المدى الذي يصل إلى الحد الأقصى في الإلغاء القسري والاستئصال القمعي لكل اختلاف أو مغايرة أو مناقضة أو حتى مهادنة. وإذا كانت العقلانية أعدى أعداء التعصب والتطرف، خصوصاً من المنظور الذي يجعلها قرينة النسبية المعرفية والتجريب بكل احتمالاته، وحق الخطأ بكل فوائده، فإن الاختلاف أو الخروج على إجماع المجموعة المعتصبة بمركزها، أو المتعصبة لمعتقدها، هو الذنب الذي لا يمحوه سوى الاستئصال والبتر، خصوصاً في المدار المغلق الذي لا يعرف سوى الإجماع والطاعة والإذعان والتصديق والاتباع والتقليد، ويفرضها فرضاً بالعنف المعنوي والمادي الذي يصل إلى حده الأقصى على نحو باتر، فوري، لا يعرف التردد أو المهادنة أو التأني في إصدار الحكم الجاهز سلفاً. ولذلك فإن صفات المرونة والمطاوعة والنسبية وقابلية التحقق من السلامة والقياس على إمكانات المستقبل الواعدة التي يقترن بها خطاب العقل هي الأهداف التي يستبدل بها خطاب التطرف نقائضها، فيحل التصلب محل المرونة، والجمود محل المطاوعة، والتصديق الأعمى محل الشك أو إمكان التحقق من الصحة بواسطة الفعل الخلاّق للمساءلة. ويستبدل القياس على ماض ثابت، مُتَخيَّل ومؤوَّل، مغلق ومؤدلج، بالقياس على حركة الحاضر الصاعدة أو إمكانات المستقبل الواعدة. وعندما يقترن خطاب التطرف بالدين، أو يدعي صفاته، أو تتشكل مقولاته بتأويلات بشرية للدين، تهدف إلى أن تضفي عليه صفات التميز والشرعية، في مدى التأثير الذي يصل بين الكلمة والفعل، فإن خطاب التطرف يتحول إلى خطاب إرهاب ديني، لا على سبيل نسبة الإرهاب الى الدين، وإنما على سبيل نسبة التبرير الديني لهذا الخطاب إلى فاعليه، أو منتجيه من المجموعات التي تتأول نصوص الدين لخدمة أغراض غير دينية، وأهداف بشرية لا تخلو من معنى الهيمنة المرادفة للاستبداد السياسي في أفظع صوره، بعيداً عن الجوهر السمح لنصوص الأديان التي لا تهدف - في النهاية - إلا إلى إسعاد البشر والارتقاء بحياتهم إلى آفاق"السعادة القصوى"التي تحدث عنها فلاسفة الإسلام قديماً. وإذا كانت نصوص الأديان"حمّالة أوجه"في ما يقال، خصوصاً من حيث علاقة النصوص باحتمالات تفسيرها، فإن تأويل هذه النصوص بما يحقق مصالح المتأوّلين، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، يعكس رؤيتهم للكون ونظرتهم إلى وضعهم أو دورهم فيه - أقول إذا كانت نصوص الأديان"حمالة أوجه"فإن الاختلاف في تفسيرها وتأويلها أمر حتمي تفرضه طبيعة الإدراك والفهم الذي يتوجه بالتفسير إلى هذا الهدف المعلن أو ذلك الهدف المضمر، أو ينحرف بالتأويل إلى ما يبدو تبريراً للعنف والقمع، في حالة خطاب الإرهاب الديني.وهي الحالة التي يؤدي التخييل الإيديولوجي فيها دوره، فيقيم اتحاداً وهمياً بين النص المؤوّل والمجموعة التي تتأوله، وذلك بما يتيح لها الإنابة عن الدين الذي تختزل شموله في مدار مغلق من تأويلاتها المتعصبة. والنتيجة هي تكفير هذه المجموعة - في أحوال تعصبها أو تطرفها - لأي اختلاف معها، أو عنها، فيبدو الأمر كما لو كان كل اختلاف معها أو عنها خروجاً على الدين وعصياناً له أو تهجماً عليه، فهي إياه في المخايلة الإيديولوجية التي تحل بها جماعة التطرف محل الدين، أو تتطابق معه بالمعنى الذي يستبدل تعصبها وتطرفها بتسامحه وشموله الإنساني الذي لا يعرف التعصب أو العنف القمعي المقترن بعمليات الإرهاب الوحشي التي لا نزال نتابع آثارها الدامية على امتداد العالم. وليس"التكفير"مجرد لفظة أو صفة في هذا السياق، وإنما هو حافز على فعل العنف ومبرر لممارسته التي تهدف إلى استئصال من يوصم بوصمة التكفير. والمسافة ما بين إطلاق الصفة التي تغدو حكماً، وتنفيذها، هي المدى الزمني الذي تتحول به الكلمات إلى أفعال، والتحريض إلى تنفيذ. وهو المدى الذي يستبدل السلاح بالكلام، والقنبلة بالصفة التي صارت سيفاً مرفوعاً على كل الرقاب، وليس المخالفين فحسب. وطبيعي أن تصبح تهمة"التكفير"سهلة الإطلاق في المناخ الذي يؤكده ويتأكد به خطاب التطرف، خصوصاً حين يغدو إرهاباً دينياً. أعني إرهاباً يسعى إلى إزاحة نقائضه بتدميرها، وعلى رأسها قوى المجتمع المدني وطليعته الفكرية التي تستبدل العقل بالنقل، والابتداع بالاتباع، وقيم الاختلاف بمبادئ الإجماع، والقياس على وعود الزمن المقبل بالانغلاق في قياس قسري على زمن مضى وانتهى. وإذا كانت الدولة الدينية القائمة على التعصب هي الهدف النهائي الذي يسعى إلى تحقيقه خطاب التطرف، في منحاه المتمسح بالدين، فإن العدو المباشر لهذا الخطاب هو الدولة المدنية القائمة على التنوع الديني والعرقي، والحرية الفكرية والسياسية، فضلاً عن الحراك الاجتماعي المفتوح المقرون بالمساواة وعدم التمييز بين الطوائف والطبقات، وذلك في موازاة العدل الاجتماعي والانفتاح على متغيرات التقدم في الكوكب الأرضي الذي تحوّل إلى قرية كونية بالفعل. ولا شك ان في كل فساد أو استبداد يصيب الدولة المدنية، في أي مرحلة من مراحلها، أو أي جانب من جوانبها يتحول إلى تبرير مضاف - على المستوى التخييلي - للحديث عن فساد الدولة المدنية بإطلاقها، والوصل بينها - مهما كانت إمكانات إصلاحها، واحتمالات تقدمها - والجاهلية المعاصرة، المحكوم عليها سلفاً بالدمار والفناء. وتتمثل أولى خطوات القضاء على الدولة المدنية في الدور الإرهابي الذي يمارسه خطاب التطرف لقمع الطليعة المثقفة، المدافعة عن قيم المجتمع المدني - المتقدم والعادل - ضد استبداد الدولة التسلطية، وتصلب العلاقات الاجتماعية، وتخلف الموروثات الثقافية جنباً إلى جنب جمود الخطاب الديني المقترن بانحدار أدوات التعليم والتثقيف والإعلام. وهو وضع يكشف عن المأزق الذي يجعل الطليعة المثقفة واقعة بين مطرقة التطرف التي تريد سحقها وسندان الدولة التسلطية والمجتمع الجامد الذي لا يكف عن تقييد حركتها وحصارها. ولذلك فضحايا الدول التسلطية والمجتمعات المتصلبة المنغلقة لا يقلون، كمياً أو كيفياً، عن ضحايا تحول خطاب التطرف إلى أفعال عنف تهدف إلى استئصالهم بعد تكفيرهم، فالطليعة المثقفة في هذا الزمان الرديء، خصوصاً الطليعة المتمردة على كل شروط الضرورة، أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار، والمحارب الذي عليه أن يواجه - في وقت واحد - أكثر من عدو في أكثر من جبهة، وألا يتوقف عن المقاومة في كل الجبهات، أو يهادن في جبهة ليتفرغ لأخرى، أو يضع أولويات تستقوي بها الأخطار الممكنة في كل مجال مؤجل. وتتجسّد المفارقة الموجعة لتصاعد عنف خطاب الإرهاب الديني في اقترانه بالإسلام الذي يبرأ من كل قمع أو قهر أو إكراه. وللأسف، فقد نتج هذا الخطاب، في إمكانات عنفه التدميري، داخل بعض الدول الإسلامية التي أدّت إليه لأسباب يمكن رصدها، وعوامل لا سبيل إلى تجاهلها، وصَدَّرته إلى غيرها الذي أعاد تصديره إليها، فكانت هذه الأقطار صانع الإرهاب وضحيته، وذلك في متواليات تصاعده التي بدأت منذ السبعينات. ولا جدال في أن قوى أجنبية، غير إسلامية، أسهمت في تأكيد خطاب الإرهاب الديني، واستخدمته لتحقيق مصالحها التي اقترنت بالقضاء على إمكانات المدّ الشيوعي، وذلك على نحو ما فعلت الولاياتالمتحدة التي يعود إليها الفضل في تدريب الكوادر الأولى للقاعدة، والإسهام في تمويل مجاهدي أفغانستان. وهي مسؤولية لا تُعفى منها الأقطار الأوروبية التي استضافت قيادات الإرهاب، ومنحتهم الأمن والحماية وإمكانات العمل الأوسع. ولكن العوامل الخارجية، في النهاية، لا تنفي العوامل الداخلية، أو تقلل من شأنها، فخطاب التطرف هو نتاج داخلي بالدرجة الأولى وليس نتاجاً خارجاً صدَّره إلينا الآخرون، فنحن الذين صدَّرناه إليهم، واتفقنا معهم على استغلاله لتحقيق أهداف مشتركة. أقصد إلى أن الإرهاب الديني المتمسح بالإسلام ثمرة لحزمة من العوامل والأسباب المتضافرة، المقترنة بالاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي والجمود الثقافي، فضلا عن الأزمات الاقتصادية الخانقة التي اقترنت بفساد دول سعت إلى استغلال الدين لستر عورات فسادها، فأشاعت - من دون أن تدري - خطاب التطرف في منحاه الغالب الذي يحشر الدين حشراً في كل شيء، ويرجع إليه كل ما هو من أمور دنيانا التي نحن أدرى بها. وكانت النتيجة الإسراف في التديين الذي خلق مناخاً مؤهلاً للتعصب والتطرف اللذين اقترنا بخطاب العنف في مجالاته المتعددة.