تتحول الأصولية إلى نزعة قمعية خالصة لا تتردد في ممارسة العنف العاري على خصومها، عندما تعمل في حماية أو في خدمة دولة تسلطية تمارس العنف نفسه على كل المستويات. عندئذ تغدو الأصولية الوجه الفكري لهذه الدولة بالقدر الذي يتحول الفكر الأصولي في فعل ممارسته إلى أداة من أدوات الدولة القمعية التي تمنحه شرعية الوجود ومبرر البقاء. ذلك ما حدث للأصولية الماركسية عندما أصبحت نزعة قمعية مع انتشار الجدانوفية التي كانت علامة على الدولة الستالينية وتجسيدا لإيديولوجيتها التسلطية. وأفضت هذه الأصولية إلى نتائج مشابهة من حيث الجوهر للنتائج التي أدّت إليها والتي لا تزال تؤدي إليها بل التي سوف تظل تؤدي إليها ما بقي المبدأ الفاعل قائما الأصولية القومية والأصولية الدينية على مستويات الممارسة المختلفة، سواء بواسطة الأفراد الذين ينقلبون بالمعتقد النظري إلى دوغما عملية، أو بواسطة الدولة التسلطية التي نعاني من نماذجها في العالم الثالث، أو بواسطة المجموعات المتطرفة الموازية لسلطة الدولة والمعادية لها في آن. وتجمع بنية الوعي الأصولي بين هذه الفئات في لوازمها التي تبدأ بانغلاق الوعي الذاتي على ما يعتقده الحق المطلق، والتعصب لهذا النوع من الاعتقاد بما يؤدي إلى عدم التسامح مع المختلف أو المغاير، ومن ثم عدم التكيف مع الجديد أو المتحول من المواقف والأحداث والأفكار. وهي البداية التي تستبدل بصفات التعصب صفات التطرف في اتجاهها الحتمي إلى ممارسة العنف القمعي الذي لا بد أن يقارفه الوعي الأصولي أو ينتهي إليه، في محاولته توسيع مجال ما يعتقده واكتساب المزيد من الأتباع أو الأشباه. وتحوّل الكلمة إلى فعل من أفعال العنف، أو تحفيز الكلمة على هذا الفعل الذي يستبعد المغاير ويستأصل المخالف، عملية متكررة تصل بين طوائف ومجموعات الأصولية المدنية والدينية حتى في اختلافها العدائي. والتشابه وثيق يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد في النتائج الثقافية التي يؤدي إليها انقلاب الأصولية المدنية إلى أصولية دينية أو شبه دينية، أو العكس، نتيجة تعصب التأويل المذهبي الذي ينتهي إلى ممارسة العنف الذي تتكاثر ضحاياه. ولا فارق بين الأصولية الماركسية والأصولية القومية من هذا المنظور، فكلتاهما الوجه المدني للأصولية الدينية في الآلية التي تفضي إلى القمع، وتؤدي إلى تزايد الضحايا في كل مجال من مجالات الممارسة. وأحسب أن أول ما يلفت إليه الانتباه، في سياق هذه العملية، هو المجال الذي يستبدل الإيديولوجيا بالعلم، تأكيدا للهوية الإعتقادية من المنظور الديني في الأصولية المتأسلمة، أو من المنظور السياسي في الأصولية المتمركسة. ومثال ذلك التشابه الدال بين دعاوى الثقافة الوطنية التي اقترنت بالعمل على إيجاد علم ماركسي خالص نتيجة الأصولية الجدانوفية، في اقترانها بعملية أدلجة العلم التي تولاها أمثال ليسينكو في العلوم البحتة، والدعاوى المشابهة التي تنطوي عليها النزعة الأصولية المعاصره لأسلمة المعارف. وهي النزعة التي مورست ممارسة فعلية، كان لها نتائجها العملية السلبية المرتبطة بالديكتاتورية العسكرية التي انقلبت على الحكم المدني في باكستان. وكان ذلك في عهد الجنرال ضياء الحق الذي رعت حكومته مثلما فعلت حكومة ستالين الدعوة إلى أدلجة العلم، ومن ثم الترويج لعلم إسلامي خالص مناقض للعلم الغربي المسيحي، الأمر الذي ترتب عليه بعض ما ترتب على نزعة أدلجة العلم في الاتحاد السو÷ياتي، خصوصا حين تحوّل مفهوم العلم الماركسي الخالص إلى سلاح قمعي للبطش بالعلماء المدافعين عن حرية العلم وضرورة فصله عن الإيديولوجيا. وكانت نتائج هذه الأدلجة متشابهة في لوازمها الفكرية ما بين الاتحاد السو÷ياتي وباكستان، ذلك على رغم اختلاف المنطلقات الظاهرية وأنواع الشعارات العلنية وحجم الخسائر الضخم الذي كان أقل في الباكستان لسببين: أولهما قصر عهد الجنرال ضياء الحق بالقياس إلى طول عهد ستالين، وثانيهما ما ظلّ يقوم به المستنيرون من علماء الباكستان المسلمين إلى اليوم من مقاومة لهذه الأدلجة. والدور الذي قام به أمثال برويز أمير علي هودبوي في مجال العلوم البحتة جدير بالتقدير من كل العلماء المدافعين عن عقلانية المفاهيم العلمية وضرورة الاستقلال بها عن كل أشكال الأدلجة الأصولية. فقد قام هذا العالم بتسليط الضوء على تشابه دعاوى أدلجة العلم ما بين الأصولية الماركسية في الاتحاد السو÷ياتي والأصولية المتأسلمة في باكستان، موضحا النتائج الفاجعة الملازمة لهذه الأدلجة في تجلياتها المختلفة، وذلك في كتابه الذي صدر بالإنكليزية في لندن سنة 1991 بعنوان "الإسلام والعلم: التزمت الديني والكفاح من أجل العقلانية". وهو كتاب يبدأ من النتيجة التي انتهى إليها عالم الباكستان الشهير محمد عبدالسلام الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء حين قال: "ما من حضارة في الكوكب الأرضي ضعف فيها العلم اليوم كما ضعف في أرض الإسلام. ولا شك في أن لهذا الضعف مخاطره التي لا يمكن التهوين منها لأن البقاء المُشَرِّفَ لأي مجتمع من المجتمعات، حسب شروط عصرنا، يعتمد اعتماداً مباشراً على قوته في العلم والتكنولوجيا". ويتفق محمد عبدالسلام، في تقديمه للكتاب، مع برويز أمير علي في أفكاره الأساسية، مؤكدا أن التزمت الديني وروح عدم التسامح عاملان أساسيان مسؤولان عن قتل مشروع العلم الذي ازدهر قديما في حضارة الإسلام، وأن العلم لا يزدهر إلا إذا توافر له عدد من الممارسين يكفي لتأسيس جماعة تعمل في سكينة، وفي ظل دعم كامل بكل ما تحتاج إليه من بنية تحتية تجريبية ومكتبية، فضلاً عن استطاعة كل عالم من أعضاء هذه الجماعة أن ينقد عمل غيره نقداً علنيا، وتلك شروط غير متوافرة في عالم الإسلام اليوم. ويضيف محمد عبدالسلام إلى ذلك أن مشكلات العلم وأشكاله ذات طابع عالمي يسهم فيه علماء الكوكب الأرضي كله من دون تمييز، وأنه لا وجود لعلم تنتسب هويته إلى دين بعينه أو إلى نظرية سياسية دون غيرها، فليس هناك "علم إسلامي" أو "علم هندوسي" أو "علم يهودي" أو "كونفوشي" أو "مسيحي" أو "ماركسي" أو "رأسمالي" إلا عندما تسيطر نزعات التزمت التي تستبدل الأصولية بالوعي النقدي المفتوح. وهي النزعات التي يرى محمد عبدالسلام أنها تسيء أبلغ الاساءة إلى العلم في الأقطار الإسلامية، وتلقي بظلالها السلبية على صورة الدين الإسلامي في أعين العالم. وينهض برويز أمير علي بتفصيل هذه الفكرة في كتابه الذي يبين عن الدور الذي تقوم به نزعات التعصب الأصولي في تقويض المفاهيم العقلانية للعلم، ويكشف بالأدلة والوثائق عن أن دعوى العلم الإسلامي التي أطلقها الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق كانت نوعا من الخداع السياسي، وأن الذين أسهموا بقصد أو بغير قصد في هذا الخداع من العلماء يجب أن يخجلوا مما فعلوه باسم العلم، شأنهم في ذلك شأن أشباههم الذين ساعدوا في "مركسة" العلوم البحتة في الحقبة الستالينية التي كانت حقبة انغلاق أفضى إلى تأخر مسيرة العلم واضطهاد العلماء. فالعلم لا علاقة له بمناورات السياسة أو بحث الأنظمة التسلطية عن أقنعة دينية تخفي بها سوأتها، ولا تقدم لعلم تراقبه مؤسسة دينية أو تتدخل في حريته رقابة المتزمتين دينياً أو المتعصبين سياسياً. وتؤكد النتيجة النهائية التي توصل إليها برويز أمير علي في كتابه أبعاد المماثلة بين الأصولية الماركسية والأصولية الدينية من منظور النتائج التي تترتب على أدلجة العلم بمعناه العام أو الخاص، سواء من حيث الآثار السلبية المدمرة التي تخلفها الممارسة العملية في الواقع الفعلي للمجتمع، أو اللوازم التي يلجأ إليها خطاب كلتا الأصوليتين في التعامل مع المخالفين في الحوار الثقافي العام. وإذا كانت كل واحدة من الأصوليتين وجها موازيا لنظيرتها في عملية قمعية واحدة تعوق الإبداع الذاتي للعلم باسم العقيدة السياسية مرة والعقيدة الدينية أخرى، فإن كلتا الأصوليتين تفرض اللوازم اللغوية نفسها في الخطاب المعبر عن كل منهما. والنتيجة هي عدم اختلاف دلالات تعميم "التبعية" أو "الانحراف" أو "الخيانة" أو "الضلالة" أو "الجاهلية" على المجتمع كله في كلتا الأصوليتين، سواء في دوائر العلوم الطبيعية والإنسانية الخاصة أو في المجالات الثقافية العامة. والوثوقية اليقينية التي يصاغ بها التعميم في خطاب هذه الأصولية أو تلك هي الوجه الآخر من تضخم الذات التي لا يخامرها الشك في ما تقول، أو انتفاخ الضمير المتنفخ الذي ينطق الخطاب أو ينطقه الخطاب في تراكيبه الجازمة التي لا تخلو من متضمنات الأمر والنهي والزجر، ومن ثم مولدات العنف الذي يمارسه الخطاب على من يتلقاه أو يستقبله. أما الخصوصية التي يشير إليها الخطاب في كلتا الأصوليتين، أو الهوية النقية التي يؤكدها، فهي نوع من التخييل الذي يردنا، في حالة الأصولية الماركسية، إلى إيديولوجيا وطنية منغلقة على حضورها المتعالي المكتفي بنفسه، المستقل بقوانينه الذاتية عن القوانين العامة للعالم أو القوانين الخاصة للجدل الماركسي في المادية الجدلية ذاتها. وليست هذه الإيديولوجيا الوطنية بعيدة عن معنى الهوية الدينية المكتفية بنفسها في عدائها لغيرها في الأصولية الدينية، أو بعيدة عن معنى الهوية القومية النقية الخالصة من كل أثر أجنبي أو شائبة غربية. ولا أحسبني في حاجة إلى التفصيل في تحرير الفارق بين النظرية أو المعتقد وتأويلهما الحدِّي الذي ينقلب إلى أصولية، فالفارق بين الأصل الذي تبدأ منه الأصولية تأويلا والنهاية التي تنتهي إليها ممارسة هو الفارق بين ممكنات التسامح ومحددات التعصب، وبين احتمالات التعدد في التفاسير وفرض تفسير واحد لا مرونة فيه، وهو الفارق بين انغلاق الأنا على نفسها والانفتاح على غيرها. والأمثلة العملية على ذلك ما نراه حولنا من مجلى عربي للأصولية المتمركسة في الكتابات التي ورثت عن النزعة الجدانوفية تحيزات القواعد الإلزامية نفسها. ونقطة البدء في هذه القواعد هي الدعوة إلى ثقافة وطنية معادية للنزعة الكوزموبوليتانية، ثقافة هي نوع من الإيديولوجيا الوطنية على الطريقة الجدانوفية في عدائها لكل ما ليس معها أو يختلف عنها. وعلامة هذه الأصولية الجديدة نفي الآخر وقمع المختلف وإدانة المباين شأن كل أصولية، ولكن بواسطة خطاب يستبدل بمفردات التكفير الاعتقادي للأصولية الدينية مفردات التخوين السياسي لأصولية مدنية يفضي مبناها إلى القمع نفسه. ولا فارق كبيراً في السياق الأدبي للأصولية المتمركسة بين "الشكل التابع" أو "المضمون المنحرف" الذي يفضي إلى "الاستعمار الثقافي" وبين "بدعة" الشكل أو "ضلالة" المعاني التي تفضي إلى النار في الأصولية الدينية. فدال التحريف الفكري في الأصولية الأولى هو الوجه الآخر من دال الانحراف الاعتقادي الذي يستهل ممارسة العنف في الأصولية الثانية. والجامع المنظور الضيق للعقل الأصولي الذي يقيم تطابقاً تخييلياً بين وعيه المحدود والحقيقة التي لا يمكن سجنها في المدار المغلق لهذا الوعي. وتسلط ضمير المتكلم المفرد أو الجمع للأنا التي تنوب عن "الفرقة الناجية" واحد بين الأصوليتين، خصوصا من منظور الثنائية المتعادية التي توقع صفة النجاة على دائرة الأنا وصفة الهلاك على دوائر الآخر - الآخرين، سواء بالمعنى الديني الاعتقادي الذي يقصر "الإيمان" على من ينتسب إلى الفرقة الناجية مقابل "كفر" من ينتسب إلى غيرها من الفرق الضالة، أو بالمعنى المدني السياسي الذي يقصر صفة "الوطنية" أو "التقدمية" على من ينتسب إلى مثال الفرقة نفسها مقابل صفة "التبعية" أو "العمالة" التي تلصق بالمنتسب إلى غيرها من الفرق المضادة. ومصداق ذلك في أصولية الخطاب المتمركس ما قرأناه، ولا نزال نقرأه، من عداء استحواذي لشرائح الطبقة الوسطى البرجوازية التي تختزل، عادة، في كتلة مصمتة، أحادية الاتجاه والبعد، تنطبق عليها قسرا الصفات السالبة التي سبق انطباقها على البرجوازية الأوروبية في التحليل البليخانوفي أو الجدانوفي . وهو التحليل الذي يختزل اختزالاً آلياً بعد انتزاعه من سياقه وعلاقاته إلى الدرجة التي لا يقبل معها مسمى "البرجوازية العربية" فى تأويلها الشائه سوى صفات السلب والاتهام والشجب الذي يجعل منها سبب كل المصائب والكوارث، ابتداءً من فشل مشروع النهضة العربية وانتهاءً باختلاف الأوزان أو اختلال الايقاعات في شعر مدرسة أبوللو على سبيل المثال؟! ولا يفارق هذا النوع من الأصولية المطابقة بين القانون الخاص والقانون العام في وجود الإبداع الثقافي، واستبدال الأول بالثاني، أو العكس، في النظرة التي ترجع بكل شيء إلى نزعة اقتصادية آلية، نزعة لا ترى التنوع الخلاّق في الوعي الثقافي العام للأمة، أو إمكانات المغايرة بين مكونات هذا الوعي، أو حتى تاريخية كل مساق من مساقاته، الأمر الذي يترتب عليه تسييس كل شيء في ثقافة المجتمع بصورة مباشرة، غير تاريخية، معتمدة على فهم حرفي في الأغلب الأعم لأفقر صور نظرية الانعكاس أو تعاليم الواقعية الاشتراكية في صياغتها الجدانوفية. والمثال الأخير على ذلك ما يذهب إليه بعض كتابات هذه الأصولية في تفسير أثر السيطرة الاستعمارية الأوروبية في نشأة الطبقات الوسطى العربية وتكونها وتطورها، حيث يقال إن تبلور هذه الطبقات في أحضان الاستعمار أدّى بها إلى التشبه به، ومن ثم التطلع إلى تحقيق حلم الدولة الرأسمالية العالمية التي تسيطر على سوقها. غير أن هذا الحلم كان حلماً مشوهاً لأنه تبنى المفهوم الأوروبى للدولة الرأسمالية وتماثل معه تماثل التابع مع المتبوع، فكانت النتيجة التبعية الاقتصادية التي كانت سبباً مباشراً للتبعية السياسية والفكرية والإبداعية. ولذلك أصبح الفكر تابعاً كالاقتصاد التابع ونتيجة مباشرة من نتائجه. ولم ينل نقدنا الأدبي شرف الاستقلال بموضوعه ومنهجه مع هذه التبعية الاقتصادية، فظل أسير التبعية الذهنية التي غدا معها النقاد عملاء للغرب الاستعماري بأكثر من معنى. وتعذر نتيجة لذلك إمكان صياغة نظرية وطنية مستقلة في النقد الأدبي أو صياغة فلسفة قومية خالصة. ولم يعرف إبداعنا حرية الوعي المستقل في سياق المحاجة الأصولية لهذه الكتابات، فاكتفى باستعارة الأشكال الإبداعية الأجنبية التي فرضها الغرب الرأسمالي على الطبقات المتشبهة به، فكانت المحصلة النهائية تبعية الإبداع المحلي للإبداع العالمي، ومباينة الأشكال المستوردة للمحتوى القومي الذي عجز عن التجسد فيها، ومن ثم تحول الأشكال الأدبية للرواية والقصة القصيرة والمسرحية وغيرها إلى أشكال تابعة تعمل على تشويه المضمون القومي ومسخه.