يمكن أن يفضي تأمل ثوابت خطابات العنف إلى إبراز الخصائص التكوينية الأكثر دلالة في هذه الخطابات، خصوصاً من حيث تمثيلها طبائع الاستبداد في اقترانها بالأصولية الفكرية في كل مجال تتجلى فيه. والعنف قرين هذه المجالات في دائرتين أساسيتين: دينية ومدنية، تعكس العلاقة بينهما أنواعاً من الصراع الذي اتخذ بعضه شكل الصراع بين "الأخوة الأعداء" في رواية كازنتازاكيس التي سبق أن أشرت إليها. أما الدائرة الدينية فيقترن فيها عنف الخطاب بنواتج التعصب التي تصل في مداها إلى الانقلاب على الدولة المدنية، والعمل على تقويضها، وإقامة دولة دينية تنهض على أطلالها. وتقترن لوازم العنف في هذا المستوى بالممارسات الخطابية التي تتوسل بمفردات التخويف والإرهاب التي ترتبط بجحيم العذاب في الدنيا والآخرة في العلاقة بالمخالفين، في مقابل مفردات التخييل والإغواء في خطاب الأتباع الذين تكتمل غوايتهم بالمخايلات التي تشير إلى نعيم الدنيا والآخرة. وشيئاً فشيئاً، في تصاعد الممارسة، ينتقل العنف من مفردات اللغة إلى معطيات الواقع، فيستبدل الرصاصة بالكلمة. ويحدث ذلك في تداعيات عمليات الاستئصال القمعي التي تبدأ بالمفكرين المدنيين، أو المثقفين المدافعين عن الدولة المدنية، أو المبدعين الذين يمارسون حرية الإبداع بصفتها حرية تتمرد على نواهي الأصولية وقيودها الجامدة. وهي بداية مبررة، لأن هؤلاء جميعاً هم حراس المجتمع المدني، ودعاته إلى مبادئ الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية والإبداعية، والمدافعون عن قيم الحرية والعدالة والتقدم والابتداع في مقابل المبادئ المتحجرة للاتِّباع والنقل والتقليد والإذعان والطاعة العمياء. وإيمان هؤلاء بحرية الفكر الذي لا يتوقف عن مساءلة نفسه في الوقت الذي يسائل غيره هو الطرف المناقض لمبادئ الأصوليات المتمسحة بالدين. أعني المبادئ التي لا تفارق الاتِّباع الجامد والتقليد العاجز وكراهة المساءلة المنهيّ عنها كالشك، بصفتها علامتين من علامات بدع الضلالة المفضية إلى النار. ولذلك تبدأ الأصوليات المتمسحة بالدين، عادة، بالهجوم على الرموز الثقافية الديموقراطية العقلانية والإبداعية للمجتمع المدني. والمثال الساطع على ذلك نجيب محفوظ الذي بدأ الهجوم عليه بالكتابات الأصولية التي لم تتوقف عن اتهام رواياته بالكفر، في تصاعد تحولت معه الكلمة إلى الخنجر الصدئ الذي انغرس في رقبة هذا الكاتب العظيم، وكاد يودي بحياته لولا ارتعاشة يد الشاب المضلَّل الذي تحوّل إلى أداة لتنفيذ الأحكام المسبقة بالتكفير. وهي الأحكام التي تناثرت كالوباء في مجتمعاتنا العربية، وفارقتها إلى الخارج لتحدث جريمة الحادي عشر من أيلول سبتمبر في نيويورك وغيرها من الجرائم التي لا تزال قائمة على امتداد العالم. وأسمح لنفسي أن أستطرد - في هذا السياق - لأنتقد أصحاب النظرة ذات البعد الواحد الذين يتوقفون فحسب عند لوم العالم الغربي لسوء ظنه بالإسلام، ووصمه بالإرهاب. وهي تهمة باطلة بالطبع لأنها تقوم على عدم التمييز بين الدين الإسلامي في ذاته - بما ينطوي عليه من تسامح ومجادلة بالتي هي أحسن واحترام للاختلاف - والمتطرفين من أتباعه. شأن الإسلام في ذلك شأن غيره من الديانات التي لم تمنع سياقاتها التاريخية - في علاقاتها بالشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية - من وجود المتطرفين الذين لا تزال بعض فئاتهم تمارس الإرهاب الديني على غيرها من الفئات والأديان. ولكن التوقف عند هذا الجانب وحده، وإلقاء الاتهام على الغرب وحده، تبسيط للحقيقة، ونظر إلى زاوية واحدة من زواياها. وفي الوقت نفسه، نكوص عن النقد الذاتي الذي لا بد أن يبدأ بإدانة التطرف الموجود في تيارات فكرية شائعة في الأقطار العربية، والدور التدميري الذي لا تزال تقوم به. والنظرة المنصفة لا بد من أن تدين التحيز الغربي وسوء طوية بعض فئاته التي يقابلها - في ما ينبغى أن نعرف - وجود فئات مغايرة منصفة مدافعة عن الإسلام والمسلمين في الوقت الذي تدين ما لدينا من أصوليات متطرفة، تميل إلى ممارسة العنف العاري باسم الدين الإسلامي البريء من العنف. ويكون ذلك بالكشف عن هذه الأصوليات، في أفعال عنفها العاري الذي يبدأ بعنف الخطاب اللغوي وينتهي بعنف الإرهاب المادي. والاهتمام بعنف الخطاب اللغوي في علاقته بالفكر الأصولي مسألة بالغة الأهمية في هذا السياق، فهو اهتمام يكشف عن الدوافع المحركة للإرهاب المادي، والمقولات الفكرية التي تنتجه وتكون سبباً مباشراً أو غير مباشر لجرائمه المنكرة. وتقترن ضرورة تأكيد هذا الجانب بحقيقة أن دوافع القمع المادي وأسبابه تراوغ في الإبانة عن نفسها أحياناً، إما على سبيل التقيَّة أو غيرها، وتتخفى وراء أقنعة مخايلة، تخفي الوجه البشع وراء القناع، أو تدس السم في العسل. وكما يظهر ذلك في الدائرة الدينية لخطاب العنف في ثقافتنا المعاصرة، عبر ممارساتها المتنوعة، فإنه يظهر في الدائرة المدنية للخطاب نفسه عبر ممارساته المناظرة. أعني الممارسات التي ينتجها ويعيد إنتاجها مثقفو المجتمع المدني الذين يؤمنون ضمناً، أو صراحة، بالدولة المدنية، ويرون فيها الفضاء الطبيعي لأنشطتهم أو أفكارهم. ومن ثم يرفضون الدولة الدينية بصفتها دولة قائمة على التعصب الذي يقضي على مبادئ المواطنة المقترنة بالعدالة والمساواة، والحرية المقترنة بالتعددية الفكرية والسياسية. ولكن هذه الممارسات، في مواجهتها استبداد الدولة المدنية ذا التاريخ الطويل، تأخذ منه بعض طبائعها على نحو غير واعٍ في كثير من الأحيان. وإذا كان عنف الاستبداد السياسي للدولة المدنية التسلطية ينعكس على أجساد ضحاياه الذين يقعون في براثنه، ولا يستطيعون فكاكاً من دوائر قمعه المادي، فإن هذا العنف ينعكس بما يشبه الآلية نفسها على عقول المثقفين الذين يكتوون به على نحو مباشر أو غير مباشر، فيعيدون إنتاجه كما تعيد المرآة توجيه الإشعاع الواقع عليها، فيمارسون، بدورهم، الاستبداد على أنفسهم، ويوقع كل واحد منهم بغيره ما هو واقع عليه، وذلك في ما يشبه تراجيديا المقتولين القتلة التي تحدث عنها شعر صلاح عبدالصبور. والنتيجة هي غلبة العنف في خطاب هؤلاء المثقفين، وشيوع النزوع إلى تصلب الرأي الذي سرعان ما يتحول إلى أصولية. ولا يبعدنا هذا الوضع عن العنف الذي يقع على التيارات المدنية للثقافة من أصوليات التيارات الدينية المعادية، فينتج العنف عنفاً مضاداً، تبرزه ردود أفعال تيارات الثقافة المدنية في مواجهة أصولية التيارات الدينية. وإذا كان لكل فعل رد فعل، موازٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه، فإن عنف الاستجابة في الخطاب الثقافي المدني يغدو لازمة منطقية لعنف المثير، أو عنف الممارسة المقترنة بالخطاب الأصولي بكل ما ينبني عليه من تطرف وقمع. والنتيجة هي تحول العنف إلى صفة ملازمة للخطاب المدني والديني في المجال الثقافي الذي يتصارع فيه الخطابان، ولا يكفَّان عن التصارع في دائرة الفعل ورد الفعل. وهي دائرة ملازمة للدوائر المولِّدة للعنف في كل تجلياته الأصولية التي لا تقبل الاختلاف أو الحوار، والتي تزداد عنفاً باستحكام الأزمات الاقتصادية ووطأة الديكتاتوريات السياسية. وسبق لي أن أوضحت أن شيوع تجليات الأصولية في الخطاب الثقافي العام نتيجة رسوخ طبائع الاستبداد بكل دوافعها التي تبدأ من السياسة ولا تنتهي بالفكر، ونتيجة تجذّر هذه الطبائع في اللاوعي الجمعي، حتى لا وعي أولئك الذين يثورون على الاستبداد، حاملين معهم، من غير أن ينتبهوا، بذرة حضوره الجمعي وعنصره التكويني الفاعل في الوعي المجاوز للفرد. وفي تقديري أن هذه الطبائع من منظور موازٍ، هي السبب في الازدواجية التي لا نزال نلاحظها، إلى اليوم، بين الشعارات الثقافية المعلنة والممارسات الفعلية المناقضة، وبين مبدأ الرغبة في قبول حق الاختلاف ومبدأ الواقع الذي ينقض مبدأ الرغبة ويحارب إمكان تحققه. وقس على ذلك، أولاً، دعاوى القوميّ الذي يهدف إلى الوحدة الشاملة، لكن شريطة ألا تكون وحدة التنوع التي تسمح بالاختلاف والحوار الذي يغنيها. وقس على ذلك، ثانياً، المتصلِّب الماركسى الذي يتحدث عن جبهة ثقافية تضم الفصائل الوطنية على اختلاف توجهاتها، والذي يرمي غيره، في هذه الفصائل، بالتبعية الثقافية والفكرية للآخر الأجنبي ومن ثم العمالة له والخيانة للوطن الذي يختزله المتعصب الماركسي في حضور تأويله الواحد الأحد مع أن أفكار هذا الماركسي نقل عن أجنبي آخر واتِّباع لمجلى من مجالي أصوليته التي سبّبت الكوارث بممارساتها الجدانوفية. وقس على ذلك، ثالثاً، المثقف اللامنتمي سياسياً ظاهرياً على الأقل الذي يعلن، صباح مساء، أهمية الاختلاف والحوار، فإذا اختلف مع أحد، أو اختلف معه غيره، يندفع إلى الاتهام والتجريح وممارسة عنف الخطاب في أبأس مفرداته. وقس على ذلك، رابعاً، الأستاذ الجامعي الذي يتظاهر بديموقراطية الحوار، متباهياً بذلك أمام طلابه وزملائه، مع أنه يشكك في كل اجتهاد غير اجتهاده، ولا يقبل الاختلاف من طلابه، رافضاً أن يتيح لنفسه إمكان الحوار الخلاّق مع زملائه، بعيداً من مفردات الاتهام أو التشكيك أو الاستعلاء التي تغدو علامات على حواره. وقس على ذلك - أخيراًً - كثرة الكتابات الغالبة على هذه الصحيفة أو تلك المجلة التي تدافع عن الحرية قولاً، لكن سرعان ما ينقلب هذا الدفاع العام إلى دفاع خاص عن حرية هذه الصحيفة أو تلك المجلة في النيل من خصومها، وتحقيق المصالح الخاصة برئيس تحريرها أو المجموعة المتحكمة فيها. ولا فارق جذرياً - في مفارقات هذا الوضع الفكري - بين مدّعي الاعتدال الديني الذي تتحول المقولات المضمرة لكتاباته إلى نقيض لهذا الاعتدال، وكذلك مدَّعي الاعتدال الماركسي أو الاتزان القومي - البعثي أو الناصري - الذي يدعو ظاهرياً إلى التعاون مع الآخرين والحوار معهم مع أنه في أعماقه لا يتوقف عن النظر إليهم بصفتهم الأعداء، الأعداء الذين مهما قدّموا من عون ومساعدة وتعاون أساسه الاحترام المتبادل، يظلون في منطقة الأعداء الذين لا بد من البطش بهم في النهاية، أو انتهاز أية فرصة للنيل منهم. وذلك سلوك يبدو متجاوباً أو موازياً لسلوك غالبية الأحزاب السياسية الحاكمة التي تدعو إلى الحوار مع المعارضة وهي تنكره في أعماقها، وإلى احترام الاختلاف أو الديموقراطية التي ترفضها في التحليل النهائي للسلوك ودوافعه ولوازمه. وأتصور أن هذه الموازاة تتبادل التأثر والتأثير بين الأطراف المعادية في الظاهر، وتسهم - بطرائق مباشرة وغير مباشرة - في إشاعة خطاب العنف الاجتماعي والثقافي والديني. وهو خطاب لا يختلف في تحمل وزر آثامه المعتدل المخادع والمتطرف الواضح. هذه الآثام تتحد في دوافعها الفكرية، ومقدماتها التي تؤدي إليها من أكثر من زاوية، وذلك على النحو الذي يقيم اتحاداً - في الآليات العقلية والدوافع العصبية - ما بين المتطرف الديني الذي يرمي المخالفين له بالكفر والمتعصب الماركسي الذي يرمي المخالفين له بالخيانة. وقس عليهما المثقف القومي الذي لا يرى سوى طريق واحد، قمعي في الغالب، لتحقيق ثلاثية الحرية والوحدة الاشتراكية، فتهمة التبعية الجاهزة على لسان الثاني، المستعدة للانطلاق دوماً، بسبب أو من دون سبب، وعلى نحو مجَّاني في غالبية الحالات، قمعي في كل الحالات، هي الوجه الآخر من نزوع المتعصب الديني إلى اتهام مخالفيه بالضلالة المفضية إلى النار. ووجه الشبه في الآليات العقلية وضيق الأفق العصابي الذي يدني بالمتعصب الماركسي والمتطرف الديني إلى حال من الاتحاد، هو الحال نفسه الذي يؤسس للتشابه بينهما والمتعصب القومي الناصري أو البعثي.