بقدر ما كانت كارثة العام السابع والستين هي البرهان العملي على تفاقم جرثومة الخلل الذي انطوت عليه دولة المشروع القومي، في أبنيتها التسلطية، كانت الكارثة نفسها مفاجأة صاعقة، أعادت الفكر العربي إلى طرح سؤال التغير من جديد في علاقته بسؤال المستقبل الذي بدا مخيفاً قائماً، دفع الكثيرين إلى الإحباط واليأس والتراجع المذهل، ومن ثم الانقلاب من النقيض إلى النقيض. وكان من نتيجة ذلك رفض المشروع القومي بدل نقده، والسعي إلى إحلال نقائضه محله بدل التمييز بين عناصر المشروع في ذاتها ودولته التسلطية التي انحرفت به عن أهدافه المقترنة بأحلام الحرية والاشتراكية والوحدة. وهي الأحلام التي لا تزال مشروعة، وعادلة، وواعدة، شريطة أن تجد الصيغ العصرية المتطورة لتجسيدها على أرض الواقع الذي ازداد تعقيداً. وأتصور أن انهيار دولة المشروع القومي في العام السابع والستين، وما ألقاه هذا الانهيار من ظلال قاتمة على المشروع القومي نفسه، كان واحداً من العوامل الأساسية التي أدّت إلى صعود مشروع الدولة الدينية التي كانت ممثلة في المنطقة العربية بمعنى من المعاني، لكنها كانت واقعة موقع الهامش بالقياس إلى المركز الطاغي لدولة المشروع القومي التي تشظت مركزيتها مع هزيمة العام المشؤوم، والتي تنحَّت بعد هزيمتها عن موقع المركز الذي تسابق إليه غيرها المضاد لها. وفي هذا السياق، ارتفع شعار "الدولة الدينية" التي تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً في نوع صاعد من الاستجابة إلى هزيمة الدولة التسلطية للمشروع القومي. وبقدر ما كانت رغبة تحقيق "الدولة الدينية" خلاصاً من التغير الجذري الذي اتخذ شكل الكارثة الشاملة، في العام السابع والستين، كان الحلم بهذه الدولة بحثاً عن نوع مباين من المستقبل الذي يستعيد عصراً ذهبياً موجباً كله، في تخيلاته التأويلية أو تمثيلاته الخطابية. ولكن، لأن كل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة، ومخالف له في الاتجاه، ولأن التمرد الاتِّباعي على النقيض يستبقي بعض ملامحه على نحو معكوس، فقد كان رد الفعل المضاد للدولة التسلطية المنتسبة إلى المشروع القومي منطوياً على نوع موازٍ من التسلطية المساوية في القوة، والمخالفة في الاتجاه، لكن المتشابهة في الآليات. أقصد إلى الأصولية التي يتخذ نسقها علامات سميوطيقية تقتصر على الحجاب واللحية والجلباب القصير، وله مظاهره السلوكية التي ترتبط بإيقاف العمل في مواعيد الصلاة، ومنع الاختلاط بين الرجل والمرأة في مجالات التعليم والعمل، والنفور من الجديد الذي لا يزال يوصف بأنه بدعة مفضية إلى الضلالة. وتتجاوب العلاقات الدلالية والمظاهر السلوكية مع قواعد اعتقادية تستبدل النقل بالعقل، والاتِّباع بالإبداع، وذلك بكل ما يلازم هذه القواعد الاعتقادية من قواعد معرفية تقيس الحاضر المتغير على المتخيل من الماضي الثابت، فلا تقبل سوى التشابه الذي ينسخ الأصل الثابت في الوجود والرتبة. ويستكمل هذا الطابع الحصري عدّته بالعنف الخطابي الذي يسعى إلى استئصال المخالفين معنوياً ومادياً. ولقد تزايد صعود هذا الخطاب الأصولي بعد كارثة العام السابع والستين، والسقوط المدوي للدولة التسلطية للمشروع القومي، وما نتج من هذا السقوط من تغيرات تركت الفضاء العربي خالياً، فتعالت أصوات دعاواه، مقترنة بمشروع بديل، يعد بتقديم ما عجزت المشاريع السابقة عن صنعه، فأصبحنا نسمع من يقول: "حديث الحل الإسلامي هو حديث الساعة داخل العالم الإسلامي وخارجه، هو القضية التي تشغل بال الذين يرجون والذين يخشون، بعدما فشلت كل الحلول البديلة... وبعدما بدا أن كل القوى قد تآكلت أو استكانت... سكتت كل الأصوات، وبقي أنصار الحل الإسلامي وحدهم في الساحة". وقد اقترن الصعود العنيف لتجليات هذا الخطاب بطفرة ما بعد حرب 1973، وفي السياق المتصاعد الذي تجاورت فيه الطفرة مع إعلان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران سنة 1979 وهي غدت نموذجاً عند من أطلقوا على أنفسهم تيار "اليسار الإسلامي". وقد كان مفهوم "الاستغراب" الذي صاغه حسن حنفي، في كتابه المعروف بالاسم نفسه، هو الموازي الفكري لتصورات "اليسار الإسلامي" عن العلاقة بالآخر الأجنبي. وهي علاقة انطوت على معنى الرفض الذي كان نوعاً من الثأر للهزيمة المتكررة في مواجهة الآخر الأجنبي، وآلية دفاعية في مواجهة حضارته الغازية أو المغوية. وقد تجلى ذلك في كتابات حسن حنفي التي هي نموذج لغيرها من الكتابات التي انطوت على آلية رد الفعل الثأري إزاء الآخر الغربي من ناحية، وإزاء المختلف المحلي الذي أصبح موصوماً بالاتِّباع والتبعية في آن. ومهما يكن من أمر، فقد اتسع بشعار "الدولة الدينية" تحالف السادات مع الإخوان المسلمين الذين جمعهم والسادات العداء للاتجاهات المدنية: القومية والليبرالية واليسارية، والذين سرعان ما انقلبوا على السادات نفسه عندما خرج على قواعد التحالف معلناً خروجه في شعاره: "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة". وتحول التحالف إلى صراع على السلطة، وصل إلى ذروته باغتيال السادات نفسه سنة 1981 بأيدي الجماعات التي لم تتوانَ في نشر الأفكار الأصولية نفسها في حدودها القصوى التي كانت وصولاً بمدى لوازم أفكار الإخوان المسلمين إلى ذروتها القمعية. وكان ذلك جنباً إلى جنب مع تصاعد خطاب عنف لمجموعات التطرف الديني التي أصبحت موازية للدولة المدنية ومعادية لها، في الكثير من الأفكار التي أشعلتها نيران التطرف والتعصب باسم الدين، والتي شهدت أحداث عنف قمعي سقطت ضحاياه من المدنيين الذين كان على رأسهم المثقفون المدنيون من أمثال فرج فودة في مصر، وعبدالقادر علولة في الجزائر. وأخيراً، جار الله عمر في اليمن. وكان ذلك في متوالية العنف التي بدأت منذ السبعينات، في مصر على سبيل التمثيل، متجسّدة في جماعة الفنية العسكرية شباب محمد سنة 1974، والتكفير والهجرة سنة 1977، والجهاد التي أعيد بناؤها التنظيمي سنة 1979 لتقوم بتنفيذ عملية اغتيال السادات التي كانت أخطر عملية عنف سياسي شهدها تاريخ مصر الحديث. ولم تنقطع متوالية العنف بوفاة السادات، وظلت مستمرة تنشر آثارها المدمّرة التي لم تنته، وتتسع بدوائر نفوذها عبر عمليات التغلغل المتصل في مؤسسات المجتمع المدني وتحويلها إلى مؤسسات تضامنية تعمل في خدمة هذه الجماعات، أو - على الأقل - تتجاوب معها بما يحقق أهدافها المرتبطة بالقضاء على الدولة المدنية. وكما وجدت هذه الجماعات ما يدعمها في أموال النفط، وأشكال العون المختلفة من الأصولية المقترنة به، وجدت ما يدعمها بالقدر نفسه في التحالف مع الولاياتالمتحدة التي استخدمت هذه الجماعات للقضاء على التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، في كانون الاول ديسمبر سنة 1979، بعد أشهر معدودة من قيام الثوة الإيرانية في شهر كانون الثاني يناير من العام نفسه، وبعد أن صاغت الولاياتالمتحدة استراتيجيتها الجديدة لاقتلاع الوجود السوفياتي ولوازمه الاعتقادية من شرق آسيا على أساس من استخدام الجماعات الأصولية، وتشجيعها بالتعاون مع الحلفاء العرب على الحرب في أفغانستان لإنهاء الوجود السوفياتي الذي كان لا بد من إبعاد نفوذه عسكرياً وفكرياً. وكانت النتيجة تتابع الانتصارات المتصاعدة للخطاب الأصولي على امتداد السبعينات والثمانينات، الامتداد الذي لم تقطعه كارثة غزو العراق للكويت سنة 1990، مجسدة ذروة التسلط القمعي لدولة عربية في أفقها القومي، ولا التحالف الدولي المضاد بقيادة الولاياتالمتحدة الذي انتهى بانكسار العراق في شباط فبراير سنة 1991، فقد تصاعد الخطاب الأصولي وتزايد نفوذه، واتسعت دوائره، وأخذت المجموعات الممثلة له في الاصطدام بحلفائها المرحليين، واحداً بعد الآخر، في المتصل المتدافع الذي بدأ باغتيال السادات في تشرين الاول أكتوبر 1981، وانتهى بكارثة تفجير مبنى بُرْجَيْ التجارة العالمية في نيويورك، في ايلول سبتمبر سنة 2001. وكان ذلك في عشر سنوات أفضت نتائجها المتتابعة - في مدى الممارسة العملية للأصولية الدينية المتطرفة - إلى تراكم الضحايا الذين وصلوا إلى ما يزيد على خمسة آلاف في كارثة برج التجارة العالمية وحدها. ولا يزال شعار "الدولة الدينية" قرين خطاب يتبنَّى رؤية بعينها للعالم، رؤية هي إجابة عن سؤال المستقبل الذي انبثق من كارثة العام السابع والستين، مقترناً بمتغيراتها التي دفعت إلى صوغ إجابة السؤال بالعودة إلى الماضي مرة أخرى، في عصره الذهبي دينياً، لكن من خلال تأويل، اكتسب تشدده من وطأة الحروب الصليبية والخطر المغولي. وقد وجد هذا التأويل تجسيده الحاسم في تجلياته المعاصرة، ابتداء من التيار الذي كانت تمثله تعاليم بن باز، مروراً بمجموعات التطرف الديني التي وصلت إلى الحد الأقصى القمعي من الفكر السلفي، وانتهاء بخطاب "القاعدة" التي لا يزال يترأسها أسامة بن لادن. وهو خطاب ينبني على العداء للآخر، وتكفير المختلف الخارجي في الملة نفسها، وتسليط سيف الردة على رقاب من تسقط عليهم تهمة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فكانت النتيجة شيوع الأصولية الدينية التي أشاعت بذورها كارثة العام السابع والستين، ولوازمها وتوابعها وموازياتها في آن، الأصولية التي ترفض الاختلاف، ولا تقبل أي خروج على الأصل السابق، في مداها الاتّباعي الخالص، وفي ممارساتها القمعية التي تعمدت بالنار والدم. وقد تحولت أحداث الحادي عشر من ايلول إلى نقطة حاسمة من التغير الذي بدأ مع رد الفعل المباشر الذي تزايد إيقاعه منذ غزو العراق وإزاحة صدام حسين. وقد اقترن هذا التغير بتحولات بالغة التأثير في العالم كله عموماً، وفي المنطقة العربية خصوصاً. ولا تزال هذه التحولات تمضي في طريقها الذي يتجه إلى فرض خرائط مغايرة، وتحالفات جديدة، ورعود مقبلة بالكوابيس المنذرة. ومرة أخرى، يحدث التغير الكارثي الذي يبدو مفاجئاً للفكر السائد، صادماً لآلياته الإذعانية، متحدياً إجاباته الدفاعية، فارضاً بقوة دفعه سؤال المستقبل الملبّد بالغيوم المهلكة.