حافظ صدام حسين على بغداد عاصمة سياسية ومدنية مركزية في بنية الدولة بعدما تسلم وحزبه الحكم جراء سلسلة انقلابات جرت في العراق إبان فترة اطلق عليها صفة الاستقلال الوطني. وعمل صدام على تجيير الرمزية التاريخية للمدينة ضمن قالب الشعارات التي ترافقت مع ارتسام خريطة الصراعات التي خاضها في المنطقة، ولم يفسح المجال لأي مدينة ان تلعب الدور الموازي او المعادل او المقارب لدور العاصمة. وهذا ليس مديحاً للديكتاتور، فهو حكم العراق عموماً بمجموعة من اقاربه، كانوا اشبه بعصابة قادمة من الأرياف لتنتقم من مدينة اشمل وأعمق من كل مقدرات القبيلة، ولتسخر كل المقدرات للقائد الملهم. اما الآن، وبعد نحو عامين على سقوط نظام صدام، والسيطرة الأميركية على كل المرافق العسكرية والمدنية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية لم ينجح الاحتلال في إعادة بناء الاعتماد التمثيلي لمركزية العاصمة سياسياً وإدارياً وثقافياً. وبغداد اليوم، وهي المكان المفترض ان يدار منه الحكم في العراق، تدخل في ازمة العلاقة بين المركز والأطراف، حيث استقوت الأطراف على المركز مستفيدة من ضعف الدولة وإدارتها المرتبكة وشتاتها، ودخلت هذه الأطراف في لعبة البديل مستفيدة من الإمكانات التي تغريها وقد تتيح لها تأسيس مركزيتها وتثبيتها. وفي المقابل اخذت تترسخ وبدرجة من القوة الاستقلالية الكردية وبتسارع حراكها السياسي المنطلق من شبكة المصالح الذاتية للجماعة الكردية في العراق والتي أفادت مبكراً من كل محطات ضعف السلطة المركزية وحماقاتها، خصوصاً بعد عقوبات عام 1991، وبلورت ثوابتها قبيل الاحتلال فكانت اكثر اهلية وجاهزية من بقية الأطراف متكئة على مؤسسات الحكم الذاتي، من حكومة وبرلمان، وعلى الرعاية الأميركية المبكرة مع ضمانات لعدم التدخل من جانب دول الجوار تركيا وإيران. وفي المقلب الآخر، اي الجنوب العراقي الذي استعاد حيويته الاجتماعية والسياسية بسرعة لم يتوقعها الأميركيون، ظهر التموضع الكثيف للنجف في القرار الأهلي العراقي وفي نقاطه المفصلية، وكاد ان يلغي فيها النجف دور الحكومة المركزية، التي لجأت إليه موقع النجف ليخرجها الحكومة من عنق الزجاجة التي ادخلت نفسها فيها بسبب مسلسل حساباتها الخاطئة. اجتازت النجف حدود المكان او الحيز الجغرافي والحجم الديموغرافي، مستفيدة من مخزون حضور تاريخي في مفاصل العراق الكبرى، ازداد عمقاً بمحاولة النظام تهميشها أو إلغاءها، ما كان كشفاً وتوكيداً إضافياً لأهميتها النوعية، وانفتحت على الفضاء العراقي الواسع، فاستطاعت ان تضع حدوداً للطموحات الانفصالية عند الأكراد، عندما ساعدت في توفير ضمانات لمكتسباتهم وحقوقهم وتمثيلهم من دون ان تكون هادفة الى تغذية النزوع الى الاستقلال والانفصال لديهم، وإن كان هذا النزوع يتغذى من ضعف الدولة التي لا تدخر النجف وسعاً في تقويتها ولكنها، أي الدولة، ما زالت تشكو من ضعف بنيوي لا تفيد معه النيات الطيبة. كما استطاعت النجف ان تتجاوز اجندة الأعمال الحكومية، بعدما عجزت الأخيرة وانحصر وجودها داخل المنطقة الخضراء منفصلة الى حد كبير عن الواقع الأهلي المحيط والمحبط بعد سنتين على سقوط النظام وقرابة ستة اشهر على تشكيل الحكومة وأدائها المضطرب، فيما سارع الشمال الى توطيد اسس الحكم الذاتي، وتكريسه بحيث قد يكون الذخيرة المستقبلية للاستقلال كهدف مضمر يظهر في الخطاب والفعل الكرديين كلما سمحت لهما او اضطرتهما الظروف للظهور. أصرت النجف على النقد البنّاء للحكومة المركزية ونأت بنفسها عن الدخول في جدل المحاصصة التي غرق فيها اطراف المسرح السياسي وهي اليوم امام الاستحقاق الذي اصرت عليه لتكرس التفويض،الذي منحه لها الشعب العراقي، من طريق الانتخابات التي قد تسقط بسببها اطراف عراقية اخرى لم تراع في سعيها لتحقيق مصالحها ودورها، لا المدينة المركز والعاصمة ولا الأطراف الأكثر قدرة على الحراك خارج لعبة المتطلبات الأميركية. وإذا ما فازت النجف كما هو متوقع بالوافر من المقاعد النيابية وأصبح الوضع الكردي اقوى بفعل الانتخابات، فقد يعمد الأميركيون الى ادخال العراق في مسار صراعي مختلف يقف فيه الأميركيون مع آخرين من غير الشمال والجنوب، أو إدخاله في مسار التجزئة على اساس جاهزية مؤسستين تشريعيتين تامتي الأهلية والشرعية في الشمال والجنوب، مع وضع خاص للغرب السنّي يجعله في المجال الحيوي ومدى السيطرة الأميركية. كاتب لبناني.