يواصل العراق حشد قواته العسكرية في خطوط التماس مع المناطق الكردية الخارجة عن سلطاته وسط تكهنات مفادها أن الولاياتالمتحدة تستعد لتوسيع حربها ضد الإرهاب. وما يفاقم مخاوف بغداد أن التكهنات نفسها تشير الى إمكان أن تعتمد واشنطن في حربها المقبلة ضد العراق على الجماعات الكردية والعراقية المعارضة كما اعتمدت على التحالف الشمالي من العرقيات غير البشتونية لمواجهة طالبان في أفغانستان. في الوقت نفسه، تواصل بغداد محاولاتها لإقناع الأحزاب الكردية بالدخول في حوار سياسي من أجل حلّ المشكلة الكردية سلمياً. واللافت أنها بدأت تلوّح بإمكان موافقتها على الحكم الفيديرالي للأكراد في إطار عراق موحد. وهذا، أيضاً، وسط تكهنات بأن بغداد تشعر بضعف جبهتها الداخلية وإمكان تعرض مصيرها للإنهيار إذا لم تبادر الى قطع الخيوط بين الأكراد وواشنطن قبل حصول الضربة العسكرية المحتملة. واللافت ايضاً أن الأكراد الحائرين بين واشنطنوبغداد، ينتقدون توجيه ضربة أميركية الى العراق. لكنهم يؤكدون في الوقت نفسه عدم استعدادهم للتخلي عن واشنطن. ويتحفظون عن حوار مع بغداد. وفي الوقت نفسه يحرصون على الإحتفاظ بخيط غير مرئي من التعاون معها. لماذا هذا التناقض والتردد؟ يرد الأكراد على هذا السؤال بالقول إنهم يعانون من صعوبة بالغة في وضعهم السياسي والجيوسياسي على مستويات عدة: أولاً، ليسوا متأكدين مما إذا كانت الولاياتالمتحدة جادة بالفعل في إطاحة النظام في بغداد أم أنها تريد فقط إجبار الرئيس العراقي على التعاون مع المفتشين الدوليين وتطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن. وهناك أيضاً شكوكهم في نيات الإدارة الأميركية حيال مستقبل العراق. إذ يرجحون أن واشنطن ليست في وارد تغيير النظام السياسي العراقي برمته، وفي إتجاه يسمح لبقية التكوينات القومية والاثنية بالمشاركة في الادارة السياسية للعراق. لهذا فإن المشاركة الفعلية مع الأميركان في دفع العراق نحو هذا المصير، قد لا تعني سوى التضحية بالحرية النسبية الحالية على مذبح مستقبل غامض. وما يزيد الشكوك في هذا الصدد أن الولاياتالمتحدة تتجنب تقديم أي دعم سياسي للحقوق الكردية، مكتفية بالقول إن دعمها لا يتجاوز حدود التعاطف الانساني مع الأكراد. ثانياً، ما يزيد الطين بلة، أن مشكلة الأكراد ليست مع الولاياتالمتحدة وحدها، بل مع كل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن مثل فرنسا وروسيا والصين. فهذه الدول لم تبدِ حتى الآن أي تفهم خارج إطار التعاطف الإنساني مع المشكلة الكردية. بل الأسوأ أن بعضاً منها يمارس ضغوطاً خفية ومعلنة على الولاياتالمتحدة لإقناعها بإلغاء الحماية الجوية للأكراد على اعتبار أن هذه الحماية لا تنبع من إرادة دولية متفق عليها. وثالثاً، يشعر الأكراد بضغط إقليمي شديد في إتجاه دفعهم الى أحضان الحكومة العراقية وإقناع الولاياتالمتحدة برفع الحماية المخصصة للمناطق الكردية شمال خط العرض 36. فتركيا الحليفة الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تشعر بإمتعاض شديد من وجود الأكراد خارج قبضة السلطة المركزية العراقية، وهذا على رغم أنها تخصص قاعدة إنجرليك لإيواء الطائرات الأميركية والبريطانية التي تتولى أعمال المراقبة والحماية في شمال العراق. والواقع أن الإمتعاض التركي مردّه الى مخاوف أنقرة من أن يؤدي إستمرار الاستقلال الذاتي الكردي الى قيام دولة في شمال العراق، ما يعكس تأثيرات سلبية على دولتهم ووحدتها وأمنها الإستراتيجي. لذلك لا يتردد الأتراك في الضغط على الأحزاب الكردية للتوجه صوب بغداد حين لا تفيد ضغوطهم على واشنطن لإلغاء الحماية. وفي الوقت عينه، لا يترددون عن تطوير علاقاتهم الاقتصادية والتجارية مع الحكومة العراقية وتشجيعها على فتح حوار سياسي محدود مع الأكراد بهدف إعادتهم الى حماية السلطة المركزية. أما ايران فإنها لا تشعر بالإطمئنان من استمرار الدعم الجوي الأميركي للأكراد لأن أوساطاً ايرانية لا تزال تشكك في نيات واشنطن وترى أن الأخيرة تخطط لإنشاء "اسرائيل ثانية" في خاصرة بلادهم. والأرجح أن طهران تتخوف أيضاً من أن يؤدي جرّ الأكراد الى دائرة المشاركة في ضرب العراق الى إنتشار القوات الأميركية والبريطانية والتركية على حدودها الغربية بعدما انتشرت تلك القوات على حدودها الشرقية في أفغانستان. وهذا في حال حصوله سيزيد من المحاصرة العسكرية الأميركية لايران من كل الجهات. لذلك تفضّل طهران ألا ينغمس أكراد العراق في المخططات الأميركية، بل انها تلوّح بعدم ترددها في معاداتهم إذا توفرت أدلة تشير الى تعاونهم مع واشنطن ضد العراق. مع هذا كلّه، يحرص الأكراد على أن لا تترجم موقف النأي عن واشنطن بأنها نكران لجميل الولاياتالمتحدة أو تعبير عن الرغبة في إلغاء الحماية. فأميركا على رغم مواقفها غير الواضحة تجاه المشكلة القومية الكردية في العراق تظل القوة الوحيدة التي أنقذتهم من حرب إبادة جماعية أطلقها ضدهم الرئيس العراقي بين عامي 1986 و 1990، والقوة الوحيدة التي هيأت أمامهم فرصة حرية نسبية لاا يزالون يتمتعون بها، والوحيدة، مع بريطانيا، التي تصر على استمرار حمايتهم جواً من أي إعتداء محتمل. لكن ماذا عن العراق والحوار مع الرئيس العراقي وإمكان التفاهم معه؟ في محاولة لإيجاد جواب مقنع عن هذا السؤال لا بد من الأخذ في الإعتبار أن الرئيس العراقي أثبت طوال السنوات الماضية أنه غير قادر على حل المشكلة الكردية بشكل سلمي أو تلبية الحد الأدنى من الحقوق القومية للأكراد. ففي عام 1970 بادر الزعيم الكردي مصطفى بارزاني الى الإتفاق معه في الحادي عشر من آذار مارس. لكن بعد أقل من أربع سنوات مرّغت بغداد المبادرة في أوحال حرب مدمرة لم تنته إلا الى تشريد نحو ربع مليون كردي خارج العراق وتدمير مئات القرى وتهجير نحو مليون آخر منهم الى مناطق خارج مواطنهم الاصلية. والواقع أن بغداد لم توقف سياستها في تدمير العنصر الكردي على رغم جولات التفاوض بين الطرفين في 1978 و 1979 و 1984 و 1990 و 1992 والتي إنتهت الى الدماء، لا لشيء الا لانعدام الاستعداد لدى الرئيس العراقي للإعتراف بالخصوصية الكردية والتعامل معها بواقعية والسماح للاكراد بالعيش في هدوء وسلام وكرامة. في هذا الإطار، إعتبر المصدر الكردي أن تدمير أربعة آلاف قرية كردية في عام 1987 وإستخدام الغاز الكيماوي ضد حلبجة في ربيع 1988 وشن حرب الأنفال التي راح ضحيتها نحو 180 ألف إنسان خلال اقل من شهرين في صيف العام نفسه، ومن ثم الحملة التدميرية التي شنتها لاقوات العراقية في ربيع 1991، تمثل الحل الواقعي لدى الرئيس العراقي للمشكلة الكردية. لهذا لا يرى الأكراد صدقية كافية في دعوات الرئيس العراقي للحوار والتفاهم. بل يشعرون في الوقت الراهن بأن دعواته الأخيرة للحوار انبثقت من ضعفه وشعوره بأن الولاياتالمتحدة بدأت تضيّق الآفاق أمامه. وهذا في حال حصوله لا يعني طرح طوق النجاة له، أو إعطاءه الفرصة للقفز على أزماته والعودة الى تدميرهم لاحقاً. لكن مع هذا، لا يفضل الأكراد هدم كل الجسور مع بغداد أو قطع صلاتهم نهائياً مع النظام العراقي. فالمشكلة الكردية لا يمكن حلها إلا في إطار العراق. ثم هناك الخشية الكردية من إنتقام عراقي مدمر في حال رفض دعوات الحوار كلياً. وفي هذه الحال هناك إحتمال ان يفضل الأميركيون عدم الرد الجدي أو الفاعل على الإنتقام العراقي نظراً الى حسابات كثيرة بينها أن واشنطن لا تفضل في العادة الدخول في معارك يكون توقيتها وإختيار مكانها من تحديد أعداءها. ثم هناك إحتمال أن تأتي الضربة الأميركية، في حال حصولها، جزئية أو محدودة وغير ذات بعد سياسي يهدف الى إطاحة النظام وإقامة نظام ديموقراطي جديد. وفي هذه الحال قد تلجأ بغداد الى فرض حصار إقتصادي شديد على المناطق الكردية، هذا إذا لم تلجأ الى تدمير المنطقة عسكرياً. فيما تبدو الحال على هذا التعقيد، لا يجد الأكراد مناصاً من مواقف وسطية بين الولاياتالمتحدةوالعراق. فلا موقف أميركا يقنعهم بالذهاب الى النهاية مع شعارات إطاحة صدام حسين. ولا العراق بوضعه الحالي يقنعهم بالتعامل الجدي مع دعوات الحلول السلمية. وفي الحالين، لا يعتقد الاكراد بأن مصلحتهم تقضي بإنغماس كلّي مع الولاياتالمتحدة وشعاراتها غير الواضحة، ولا بتورط كلّي مع صدام حسين ودعواته المبهمة. إذن لا بد من الامساك بالعصا من وسطها. * كاتب كردي عراقي.