مَثَلُ إنسان يعيش بين مدينتي طرطوس وبانياس سنة 2004، وإنسان آخر جاره، وآخر جار جاره ليكونوا مئات أو ألوفاً. بعضهم لا يملك من تراب الوطن السوري أكثر من عشرات من الأمتار لا تصلح لشيء إلا لوقوف شاعر عليها، في طريق سفره من بيروت إلى قصّابين، ويتأمل البحر. فأن يقيم هذا الإنسان، أو جيرانه، بيتاً بلاستيكياً للزراعة المحمية يعيش منه ونأكل من إنتاجه برغبتنا وقبولنا، إذ لا خضار في الشتاء إلا من زراعة محمية - أن يفعل هذا الإنسان ذلك، فيعتبره شاعرنا المسافر هزءاً بالأرض وسيصعد إلى منبر جريدة ليهزأ منه ومن جيرانه أصحاب"جيوش"-"الغزو"الفاتك الذي يُسَرْطنُ قلب هذه الأرض - الأمّ، بل انهم مجرمون حقيقيون"لو استطاعوا أن يلتهموا الأرض بما عليها ومن عليها، لما ترددوا"هكذا حرفياً. كل هذا لأنهم حدّثوا أسلوباً قديماً في الزراعة، أسلوباً نشأ عليه أدونيس، فاعتبرهم أجرموا بتغييرهم مشهدياته التي يحبها، فلم يعد يرى جمالاً في هذه القرى، إذ تشابهت مع المدن التي لا تملك جمال بريّاته. فكيف لهم أن يستحدثوا أساليب عيشٍ مشروعة من دون مراعاة حساسيات أدونيس البريّة. من يعلن نفسه مدافعاً عن الحيوان أو بعضه يمتنع عن ارتداء ملابس مصنوعة من جلده أو منه، وربما يغالي بعضهم ويمتنع عن أكل اللحوم رأفة بالحيوان أو قرفاً من زنخة طعمه. لكن أدونيس يأكل من نتاج البيوت البلاستيكية التي يعتبرها"باختصارٍ، فنّ قتل الطبيعة"، وهي"تدبيرٌ خاصٌّ ليس إلاّ نوعاً من الفن في قتل الإنسان نفسه قتلاً بطيئاً". يأكلها على رغم أنه كاد يسمع عند مروره بها"شهقات الحقول"، وكاد يرى"الشجر يبكي"، يأكلها في الوقت الذي يمكنه ألا يفعل ويكتفي بما تنتجه أو تخبئه ضيعته قصابين للشتاء. ليس مزارعو ما بين طرطوس وبانياس وحدهم الذين يسممون الطبيعة ويخنقون البيئة، بحسب المقال، بل كذلك"أولو الأمر، وأعوانهم المثقفون"وجميع ذكور مدينة جبلة ما عدا خمسة أسماء وثلاث نقاط من جمعية العاديات. أما نساؤها فبريئات من إثم التخريب والتشويه والتوسيخ لكونهن، فقط، خارج دائرة الفعل. فدورهن يقتصر على إكمال المشهد الجمالي .... إنسان جبلة وما بين طرطوس وبانياس هو من طينة إنسان النظام وإنسان المعارضة نفسها. هذه المعارضة لا تحظى باعتراف ولا باحترام أدونيس، لأنها لا تطابق الصورة المغلوطة للمعارضة في ذهنه. فهو يرى أنه"لا يصحّ، في أي حال، أن تقوم المعارضة بممارسات تقوم بها السلطة التي تعارضها...". وكأن السياسة تقوم على الجمال والشعر وليس على المصالح والمنافع وتقاسم الثروات والنفوذ، وكأنها عمل في الأخلاق. ربما يخطئ الشخص في سَوق المحاكمات وقراءات التاريخ، وربما يغضب أو يستثار فيقول ما تمليه عليه أناه المخدوشة. هذا رد فعل الشخص. أما الشاعر، وبخاصة بمثل قامة أدونيس، فغير مقبول أن يكون رد فعله بهذا الحجم وبهذا العسف على اتهام مبهم وأن يعتبره"أشدّ هَوْلاً، وأكثر استهتاراً بالإنسان وحقوقه من السجن نفسه. ذلك أن السجن قيدٌ ماديّ محدود، في حين أن هذا الاتهام نوعٌ من"الحصار"، بل إنه نوعٌ من القتل". حال المعارضة السورية وطباعها أسوأ مما ساقه أدونيس بكثير. واعتراضي عليه ليس دفاعاً عنها ولا سببه الحساسية التي تقوم بين كل مهاجر أو مغترب أو مبعد أو منفي وبين مستوطن أو مقيم أو ممنوع من السفر أو محبوس، بل لأن السبب الذي أثار أدونيس واهٍ، أكاد أراه ذريعة. فالبيان الذي يستند إليه أدونيس صادر عن فرع المنظمة العربية للدفاع عن حرية الصحافة والتعبير في سورية، وهي منظمة وهمية وزعته على أكثر من موقع على الانترنت، أحدها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان وهذه موقعها مصر، وليس كما كتب أدونيس"الفرع السوري لمنظمة حقوق الإنسان، الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان - فرع"المنظمة"في سورية". أدونيس لم يخطئ بقراءة الأسماء والعناوين ولا بكتابتها. فلا أحد يخطئ في هذا. فالمنظمة التي أصدرت البيان ليس لها عنوان سوى موقع على الانترنت قيد الإنشاء تكلفته أقل من عشرة دولارات، وليس لها عنوان جغرافي أو هاتف أو صندوق بريد ولا أسماء القيّمين عليها. فيمكن، وهذا المرجح، أن يكون صاحبها شخص واحد مقيم في مدينة خارج سورية، كباريس مثلاً. أحياناً، وكثيراً، نقول ما أورده أدونيس متأخراً في بعض مقاطع مداراته هذه، فننتقد معارضتنا أو شعبنا أو حتى نظامنا - مع تشديدي على هذه النا - ننسبهم إلينا أو ننسب أنفسنا إليهم، ونؤكد انتماءنا لهم. هذا لأننا سوريون. أما هو فقد نظر إلينا من موقع أدونيس: أراد لنا أن نكون أفضل حالاً وأن نتخلص من سوئنا، وأن نصلح زراعتنا وشواطئنا ومعارضتنا وسلطتنا وحجابنا، بعدئذ نتوجه إليه سافرين ليقبل انتماءنا إليه. كنت سأقبل، وما زلت، وكثيرين غيري، وربما جميع من سُجنوا في بلدي أن نعيش في باريس، أو غيرها، مُصَاني الحقوق المدنية على أن نُُسجن، حتى لو اتهمتنا معارضة ما بأبشع التهم، خصوصاً إذا كان رأينا فيها كرأي أدونيس بالمعارضة السورية. فنحن لم نجد، أن السجن عبارة عن"قيد مادي محدود"، بل ذقنا فيه طعم المهانة والإذلال والضعف والحرمان والفشل والبرد والعذاب والانكسار وتهدم الأحلام كلها بأل التعريف، وبعده عرفنا الجوع والمنع من السفر ومن التجوال ومن العمل وكذلك من الشعر. السجن هو البدايات والنهايات، هو الأصول: أصل الألم وأصل الشوق، أصل الذل وأصل المَهانة، لا يقرن بسواه ولا يقارن بغيره، هو العدم والخواء. إن حقّ لي أن أستبطن مقال أدونيس لقرأت فيه: في زمن العولمة والعالمية على بعض الأوطان والشعوب أن تكون من دون شاعر عالمي، كما يحق لشاعر أن يتعولم من دون شعب أو وطن. لؤي حسين