تكاد تكون صورة أدونيس هي الصورة الأكثر التباساً في مرايا الثقافة السورية اليوم، فهذا الشاعر الكوني المولود في قرية "قصابين" على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، طالما أبحرت سفنه خارج سياق المعجم الشعري السوري. وتعززت هذه القطيعة بعد قرار فصله من عضوية اتحاد الكتاب العرب عام 1995، إثر مشاركته في مهرجان غرناطة 1993، واتهامه بالتطبيع. لكن صاحب "أغاني مهيار الدمشقي"، لم يلتفت كثيراً لفحوى هذا القرار، فهو لم يكن يوماً ما، جزءاً من تفكير هذه المؤسسة، وربما ابتهج لطي اسمه من قوائم أعضاء الاتحاد، ليواصل تيهه الفردي في منفاه الاختياري "باريس"، بعد رحلة تراجيدية بين أكثر من عاصمة عربية وعالمية، ولكن من دون أن يقطع صلته بمسقط رأسه "قصابين" هذه القرية الساحلية الصغيرة، التي شيّد فيها قبل سنوات بيتاً ومكتبة وقبراً، ربما كي تكون ملاذه الأخير. ولعل الاحتفالية الاستثنائية التي أقامتها بعثة المفوضية الأوروبية في دمشق أخيراً، طوال أسبوع كامل، أثارت أسئلة عدة، عن مثل هذا الاحتفاء الذي بدا بالنسبة الى البعض مفاجئاً، إذ كان مجرد ذكر اسم صاحبها في منبر إعلامي سوري، يعتبر خطاً أحمر. واللافت في كلمة فرانك هيسكه، سفير المفوضية الأوروبية، انه اعتبر أدونيس أوروبياً، وأن اللقاء معه "سيسمح للسوريين التعرّف إليه في شكل أفضل، وأن يثمّنوا عمل أحد أبنائهم السوريين الأكثر شهرة اليوم"، وهو بذلك يستند الى قول لأدونيس: "أوروبا هي وجهي الآخر، هي أناي الأخرى، فبيني أنا الضفة الشرقية للمتوسط وبين ضفته الغربية ثمة وحدة انطولوجية، فأنا هو هذا الأنا وهذا الآخر مجتمعين". مهما يكن الأمر تجاه الهوية المزدوجة لهذا الشاعر، فإن إعادة اكتشاف أدونيس، أم إعادة الاعتبار له رسمياً، أثارت غبطة لدى جمهور عريض من المثقفين السوريين. واختار صاحب "الثابت والمتحوّل" فضاء معمارياً تراثياً هو "قصر العظم" في قلب دمشق القديمة، كي يكون مكاناً للقاء الأول بين الشاعر وجمهوره المتعطش الذي جاء قبل نحو ساعة على موعد الأمسية، ليحجز المقاعد، ومع ذلك بقي نصف الحضور تقريباً بلا مقاعد، فتابع الأمسية واقفاً. هكذا دخل أدونيس القاعة العريقة بين صفين من الشموع، وجلس وراء طاولة خشب تعكس صورته في مرايا معلقة على الجدار المقابل، وظهر في الصورة عازف القانون عماد ملقي الذي رافقه موسيقياً في إحياء الأمسية. افتتح أدونيس الأمسية بعبارة موحية قالها مرة شارل فيرولو: "لكل إنسان في العالم وطنان: الوطن الذي ينتمي إليه، وسورية"، وبهذه العبارة أكّد مرة أخرى هويته المزدوجة وحيرته بين ضفتي المتوسط، وبين أدونيس، وعلي أحمد سعيد إسبر، والسبب ذاته قاده الى قراءة قصيدة قديمة له بعنوان "عبدالرحمن الداخل صقر قريش"، هذا الأمير الأموي الذي غادر دمشق هارباً، ليؤسس لاحقاً دولة الأندلس، وتلتها قصيدة شهيرة هي "قبر من أجل نيويورك" كان كتبها عام 1971، لكنها بدت هنا وكأنها في سياق احتجاجي على رمز أميركا اليوم. واختتم الأمسية بقصائد حب من ديوان جديد غير منشور تحت عنوان "أول الجسد، آخر البحر"، ليدخل في فضاء آخر، متوغلاً في تضاريس الجسد واحتدامات الأعضاء في رحلة مكابدات صوفية تتجاذبها ريح الحواس والمطلق. الأمسية الثانية، استضافها المركز الثقافي الفرنسي، وقرأ أدونيس قصائد أخرى بمشاركة الشاعر الفرنسي آلان جوفروا، الذي قرأ هو الآخر قصائد بالفرنسية تستمد فضاءاتها من الشرق كقصيدته "اليمن، إحساس بالسعادة" وأخرى بعنوان "أدونيس، شاعر في عالم اليوم". أما اللقاء الثالث مع صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" فكان في قاعة المحاضرات في مكتبة الأسد الوطنية، في ندوة بعنوان "أدونيس الشاعر والمفكر"، أدارها حسان عباس، وقدّم خلالها فيصل درّاج ومحمد جمال باروت ومحمد علي الأتاسي شهادات في تجربة الشاعر. وقال فيصل درّاج في شهادته "الواحد والمتعدد": "إن موضوع الإبداع عند أدونيس هو خروج على الواحد وتمرّد عليه وتجاوز لزمن والدخول الى زمن غير مسبوق". وأضاف الناقد الفلسطيني المعروف "لكل زمن إبداع يأتي به المفرد، وللأزمنة كلها "إبداعات" لا تختزل الى بعضها، مما يجعل النص الأصل، الذي جاء به زمن معين، نصوصاً / أصولاً، في أزمنة لاحقة". وأشار الى"أن أدونيس قد كسر النسق الشعري المتوارث، واستمر فيه بخبرة شعرية جديدة، تؤكد على اللايقين بصفته فضيلة كبرى". واختتم شهادته بقوله: "إن أدونيس صاحب أسئلة خلافية، قد نتفق معه أو لا نتفق، إلا أنه سيظل صوتاً شاسعاً للحرية". وأوضح محمد جمال باروت في شهادته "موقع أدونيس التأسيسي في صوغ النظرية الشعرية العربية الحديثة"، ان أدونيس "امتاز بفاعليته النقدية التكوينية للنظرية الشعرية العربية، إذ كان أول من حاول أن يبلور في شكل ديناميكي مفهوماً نظرياً منظومياً للشعر العربي الحديث، في مرحلة أزمة النموذج الكلاسيكي الشعري العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ويتكثف هذا المفهوم برمته في مفهوم الشعر/ الرؤيا. وهو ما قاده الى إعادة النظر جذرياً بالأسس المعرفية التي قام عليها المفهوم الكلاسيكي، وبالتالي، يضيف الناقد السوري، اتجه الى تقويض النموذج المعرفي والأصولي، وتأصيل نظرية فكرية لا تتأسس على مرجعية سابقة، إنما تتجاوزها الى قطيعة كاملة، سواء في قصائده الرؤيوية الطويلة، أم في قصائده القصيرة التي تنهار فيها الثنائيات بصفته شاعر الومضات والبروق والحدوس. فلغة أدونيس هي لغة التحولات الداخلية العميقة الملتهبة، وبالتالي فإن دخوله فضاء الصوفية كان نوعاً من صوفية المعرفة وليست صوفية المريد، وهو بهذا المعنى، حرر النص الموروث من قداسته المزعومة، وتمرّد على التصورات الكلانية باتجاه أزمنة ابداعية مفتوحة على ضفاف لا نهاية لها، تنسف اليقينيات الجاهزة، وتتطلع الى جمالية المحتمل". وذهب محمد علي الأتاسي في شهادته "التباس دمشق في شعر أدونيس وحياته" الى ضفة أخرى من ضفاف أدونيس وأطيافه المتعددة، وقال: "لم يعش أدونيس إلا سنوات متقطعة وصعبة في مدينة دمشق، لكن هذه المدينة سكنت ولا تزال نصه الشعري كرمز وكمجاز وصورة. وهي حاضرة كذلك في سؤال الهوية الذي طالما شغل الشاعر في ترحاله المستمر بين البلدان والثقافات"، وأضاف: "دمشق في شعر أدونيس أكثر من كلمة وأبعد من جغرافيا، وأوسع من مكان، إنها الزمن المفتوح على تألق المعاني والتباسها وهي الجرح الغائر في النص الأدونيسي حتى عتبات اللامرئي بصفتها الممكنة والمستحيلة، فهي في المآل الأخير مدينة التماهي مع الهوية والخروج عليها". واستعاد الناقد السوري في شهادته صورة أدونيس الأولى التي تعود الى عام 1944، حينما جاء بالقمباز الريفي من قريته الى مدرسة "اللاييك" في طرطوس، قبل أن يغادرها الى دمشق لدراسة الفلسفة في جامعة دمشق، والتعرف عن كثب الى هذه المدينة العصية والمضطربة آنذاك أوائل الخمسينات، وليكون من أوائل ضحايا تلك المرحلة السياسية التعسفية، إذ زُجّ في "سجن المزة" عام 1954. وهكذا كان عليه بمجرد خروجه من السجن أن يغادر الى فضاء أكثر رحابة، هو فضاء بيروت. فدمشق كانت سجناً روحياً وفكرياً بالنسبة إليه. وفي بيروت أسس مع يوسف الخال "مجلة شعر"، ولاحقاً تفرّد أدونيس بإصدار مجلة "مواقف"، ومن بيروت الحرب الأهلية غادر الى باريس ومنها الى نيويورك وبرلين وجنيف، وظل بالنسبة الى دمشق مجرد عابر سبيل. ويوضح محمد علي الأتاسي أن صورة دمشق، لم تظهر في أشعار أدونيس حتى عام 1960 في ديوانه "أغاني مهيار الدمشقي"، وإن ظهرت على حافة اللغة قبل هذا التاريخ بأطياف مختلفة وتشكلات ذاتية كانت تنصهر في حركية النص. ولم تبرز صورتها الواضحة إلا عام 1965 في ديوانه "كتاب الهجرة والتحولات" عبر شخصية "عبدالرحمن الداخل"، هذه القصيدة التي كلما ألقاها في أمسية يتهدج صوته ويبكي، ولهذا السبب اختتم الناقد شهادته بقوله: "ادخلها وتصالح معها شعراً وحرية ودموعاً". وفي ختام الندوة، أجاب أدونيس عن أسئلة الحضور وعلّق بقوله: "سعادتي مزدوجة، أولاً بوجودي بينكم بعد غياب أكثر من نصف قرن عن جمهور دمشق على رغم انني لا أنكر أن دمشق حاضرة باستمرار في مشاعري وفكري وهمومي اليومية، أما الوجه الآخر لسعادتي فهو يعود الى مستوى القراءات النقدية الرصينة والعميقة التي استمعت إليها، والتي أعطتني أكثر مما أستحق". وأضاف ان "الحقيقة ليست وصفة جاهزة، وهي لا تأتي من نص، إنما هي اكتشاف مستمر لا ينتهي، مثلها مثل الهوية التي هي أيضاً ليست جاهزة، إنما تتشكل في ما سنعمل، فالوجود الحقيقي للإنسان، ليس وراءه، وإنما أمامه، والعالم أيضاً ليس منتهياً، فهو متحرك على الدوام، فليس هناك من يزعم أنه يعبّر عن الأشياء تعبيراً نهائياً وحقيقياً". واختتم تعليقه بقوله: "أحسب نفسي كتلة من التناقضات، وعلى هذا الأساس، أنظر الى دمشق على أنها أكثر من مدينة، إنها رمز، ودمشق هي الأمة، وهي الأمة، وهي ثالثاً "الأَمْة"، وبين التوصيفات الثلاثة لها، أنا غارق وعاشق وكاره وضائع".