أفرجت الرقابة السورية أخيراً عن"مخطوط"الشاعر محمد الماغوط بعدما نام نحو ثلاث سنوات في أدراجها. لكنّ شاعر"حزن في ضوء القمر"والدار الناشرة المدى لم يشاءا ان يخوضا معركة ضد الجهاز الرسمي ولا ان يستغلا الامر اعلامياً، بل إن الماغوط نفسه استفاد من حال"الحجر"ليضيف الى المخطوط صفحات كثيرة هي من احدث ما كتب. والمخطوط الذي يصدر رسمياً خلال ايام وعنوانه:"شرق عدن... غرب الله"يضم قرابة سبعمئة صفحة، وهي المرة الاولى يصدر الماغوط كتاباً في هذا الحجم. ولم يقصد الماغوط في عنوانه أي معنى ديني او سياسي وقد ورد العنوان بعفوية تامة في أحد نصوص الكتاب. يحضر محمد الماغوط في هذا الكتاب، شاعراً وناثراً وكاتب مقالات وتبلغ سخريته اللاذعة ذروتها مصحوبة بنزعة عبثية وهجائية... يكتب الماغوط المقالة كما لو انه يكتب قصيدة ويكتب القصيدة كأنها مقالة. لم تبق من حدود بين هذين النوعين لديه، فتداخلا بعضهما في بعض حتى بات من الصعب الفصل بينهما. والماغوط أصلاً كان اول من أدخل النبرة المباشرة الى قصيدة النثر العربية منصرفاً الى الهموم اليومية التي تشغله كأنسان من هذا العالم. لكن الانسان ما لبث ان اصبح مواطناً يعاني ويكابد ويحتج ويتمرد. وهذا ما تشي به قصائد الماغوط الجديدة ومقالاته التي دأب على كتابتها في العقد الاخير وما قبل. يطغى الطابع النثري الصرف على نصوص الماغوط الاخيرة ويبدو الكثير منها اقرب الى"التعليق"الصحافي، لكن هذه النصوص لا تفقد العصب الداخلي الذي طالما ميّز نثر الماغوط عموماً، عطفاً على السخرية الشديدة التي تخفي مقداراً من المرارة والألم واليأس. والسخرية هذه قادرة وحدها على اضفاء"نكهة"خاصة جداً على هذه النصوص التي يكتبها الماغوط بحرية تامة وجرأة وعفوية. فهو لا يوفر قضية ولا أمراً ولا حدثاً ولا سيما تلك التي تعنيه كمواطن عادي مثله مثل سائر المواطنين. ولا يوفر الماغوط حتى نفسه فيمعن في السخرية من صورته كما لو كان شخصاً آخر. انها السخرية الاليمة والعبثية التي تجعل من الكتابة اداة لمواجهة مآسي العالم وكوارث العصر وكل ما يهدد الانسان اياً يكن. في احد النصوص يسمي الماغوط نفسه صفراً قائلاً:"هكذا بدأت وهكذا سأبقى". ويقول في نص آخر انه كان مهيأ نفسياً وطبقياً ليصبح حداداً او نجاراً او خياطاً... ولكن ليس"نجماً أدبياً"، هو الذي لا يملك في هذه الدنيا كما يعبّر"سوى هذا العقل الريفي البسيط". ثم يعلن عجزه عن"استيعاب العالم"وما يحوي من اجهزة ورادارات... ولم يوفر الشعر وقصيدة النثر من هجائه داعياً الى كسر القاعدة"لضرورة النثر". وكسر القاعدة لدى الماغوط يعني المضي في الكتابة الحرة، الكتابة التي لا مقاييس جاهزة لها ولا معايير مفروضة عليها من الخارج. ولا ينسى الشاعر نزار قباني فمأساته الكبرى برأيه انه كتب عن حرب السويس والعدوان الثلاثي... بقلم حمرة. وإذ يهزأ من"الصمود"على الكراسي و"التصدي"لمن يقترب منها، يعلن ان اجراس الثورة لم يبق منها"سوى الصدى". ولم يفته ان يسخر حتى من"الهلال الخصيب"داعياً الى حصره في مدينة واحدة هي بيروت. يكتب محمد الماغوط من خارج الكتابة بصفتها قضية، فهو كما يعترف لم يعد يحرّضه على الكتابة سوى"الصغائر والترهات العابرة". فالكتابة في نظره لم تبق لديها رسالة ولا مقام ولا"برج عاج"، اضحت الكتابة تخبطاً في وحول العالم ومستنقعات الحياة. انها حال من المواجهة المريرة للقدر الشخصي واليأس والوحدة... ولا غرابة أن يقول الماغوط:"انا لا اكتب بل انزف". وفي احد النصوص يرسم صورة سريعة للواقع السوداوي الذي يعيش فيه الآن: المصعد الذي يستخدمه عندما يعود فارغ، المدخل فارغ، المطبخ فارغ والزجاجات والاقداح والغرف والأسرّة..."انها سيبريا"يقول قاصداً حياته المغرقة في العزلة. يشعر قارئ كتاب محمد الماغوط الجديد ان ليس كلّ ما يقرأه جديداً حقاً، بل هو يتذكّر الكثير مما كان قرأه سابقاً سواء في دواوين الشاعر أم في كتبه النثرية. لكنّه يشعر حتماً بقدرة الماغوط الفائقة على كتابة نفسه، شاعراً وناثراً، من دون أن يقع في شرك الرتابة. هناك دوماً في نتاج محمد الماغوط ما يغري القارئ ولو تكرّرت بعض الأفكار أو المواقف أو العبارات. لعله سرّ الماغوط، هذا الشاعر الذي لا يشبه سوى نفسه.