إن الذي يتأمل الواقع العربي ويقلب في دفتر أحواله السنوية لن يجد عناء في تحديد المشكلات التي تعاني منها الدول العربية مجتمعة وطبيعة التحديات التي تواجهها، داخلية أو خارجية، سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، إقليمية أو دولية. فعلى مدار العقود الماضية، لم يواجه العالم العربي مأزقاً متعدد الجوانب مثلما هي الحال الآن، ورغم أنه قابل أزمات، صغيرة أو كبيرة، كنكبة فلسطين 1948، أو هزيمة حزيران يونيو 1967، أو اجتياح لبنان 1982، أو غزو العراق للكويت 1990 أو احتلال العراق 2003، إلا أن عام 2004 شهد"تدهوراً"شديداً للوضع العربي سواء بالنسبة الى القضية الفلسطينية أو المسألة العراقية أو الأزمة السودانية أو المعضلة الإصلاحية أو العلاقات العربية - العربية. وتعرض السطور المقبلة"بانوراما"سريعة لأوضاع عام مضى، لاستخلاص الدروس واتخاذ العبر، بأقدام ثابتة وأعين مفتوحة، ورؤية مستقبلية، على النحو الآتي: أ- القضية الفلسطينية: إذا كان الوصف الشائع للقضية الفلسطينية بأنها قضية"الفرص الضائعة"التي لم يقتنصها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي لطي صفحة مليئة بالصراعات والتوترات وخلق حالة من الهدوء في المنطقة، إلا أننا في العام المنصرم لم نجد"بصيصاً"من الضوء للخروج من النفق المظلم الذي تمر به القضية، خصوصاً في ظل حكومة إسرائيلية متشددة وتعثر للحوار الفلسطيني الداخلي. وبرحيل ياسر عرفات، انتهت مرحلة، وبدأت مرحلة جديدة، وهذا لا يعني إطلاقاً"شخصنة"القضية، ولكن نتحدث عن مرحلة كاملة من النضال الوطني، نجح خلالها في تحويل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين ينبغي التعامل معهم على أسس إنسانية، إلى قضية شعب يناضل من أجل تحرير وطنه المحتل. وقد بدأت مؤشرات تلوح في الأفق بترتيب البيت الفلسطيني عندما صوت الفلسطينيون باختيار أبو مازن رئيساً لهم في انتخابات اتسمت بالنزاهة والشفافية واثبتت أن الفلسطينيين أهل لإدارة دولة ديموقراطية، ونحّوا خلافاتهم جانباً، في الوقت الذي سلك أبو مازن طريقاً مختلفاً عن السائد في الحقبة العرفاتية حيث يؤيد المقاومة السياسية ويرفض عسكرة الانتفاضة ويؤمن بالتفاوض على ثوابت"كان لا يمكن المساس بها". وتبقى الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي، ولكن الاحتمال الأرجح هو أن تتجه الحكومة الإسرائيلية إلى تنفيذ خطة الانسحاب من غزة وتفكيك أربع مستوطنات شمال الضفة الغربية، من دون الالتزام بتنفيذ خطة خريطة الطريق التي تتصادم تماماً ورؤية الحكومة اليمينية الإسرائيلية والتي أعلنت 14 تحفُّظاً بشأنها. ب- المسألة العراقية: استمرت الأوضاع في العراق تشهد تدهوراً بما قد يفضي إلى تفكك الدولة العراقية وهو ما يجعلها ساحة لقوى، وجماعات العنف والإرهاب، خصوصًا ان الخبرة السياسية تؤكد على أن مثل هذه الجماعات تنشط في الكيانات التي تتحلل فيها الدولة، كما في الصومال وأفغانستان . ثم أن الحديث عن بناء نظام ديموقراطي في العراق على أنقاض نظام صدام حسين ليشكل نموذجاً تحتذي به دول المنطقة أو يؤثر فيها حسب نظرية"الدومينو"ينطوي على قدر كبير من التبسيط، ليس لاستحالة بناء الديموقراطية في العراق، ولكن لأن هذه العملية معقدة، ولها معطياتها وشروطها الداخلية التي يتعين توافرها وإنضاجها، وهو ما يستغرق فترة زمنية طويلة نسبياً، وبخاصة في دولة مثل العراق تتسم بتعقد تركيبتها العرقية والدينية والطائفية والجغرافية ورسوخ الكبت والإحباط والإهانة في آن. وهو ما يتضح في ضعف وهشاشة المجتمع المدني في العراق، وتشرذم المعارضة العراقية، أي أن أي نظام يأتي إلى السلطة ويكون موالياً لواشنطن سينظر إليه من جانب الشعب العراقي على أنه نظام عميل فرضته الولاياتالمتحدة على العراقيين، الأمر الذي يؤدي إلى بروز حركات مقاومة داخلية ضده، وتستمر دولة العباسيين في دوامة من العنف والعنف المضاد. وفي هذا السياق، فإن هناك قضايا جوهرية بحاجة إلى حسم عبر توافق داخلي بين مختلف قوى الشعب العراقي وفئاته، وفي مقدمتها صياغة وإقرار دستور عراقي جديد يحدد طبيعة نظام الحكم، وشكل الدولة العراقية، بحيث يتم تدريجاً بناء المؤسسات السياسية، وإيجاد صحافة حرة، وتنمية الأحزاب السياسية، وإجراء الانتخابات العامة... الخ. وقد شهد العام المنصرم انعقاد مؤتمر شرم الشيخ للبحث في قضايا المستقبل العراقي من إعادة بناء المؤسسات السياسية وتحقيق المصالحة وإعادة إعمار العراق وبناء اقتصاده من جديد، لكن ما يؤخذ على هذا المؤتمر انه لم يضم مختلف القوى السياسية العراقية، وليس هناك ما يلزم الدول المشاركة بالوفاء بتعهداتها. ومن ثَمَّ، فإن المستقبل العراقي مرهون بحدوث تطورات إيجابية عبر ثلاثة محاور، الأول: تحقيق مصالحة عراقية حقيقية بين ألوان الطيف السياسي العراقي، بعد حقبة طويلة من الصراعات وتصفية الحسابات، وذلك من خلال عقد مؤتمر تشارك فيه كل القوى السياسية، والمحور الثاني يتمثل في ضرورة تحقيق الأمن داخل العراق عن طريق اتخاذ إجراءات بناء الثقة بين قوات الاحتلال والحكومة من جانب وقوات المقاومة من جانب أخر. أما المحور الثالث فيتمثل في إجراء انتخابات عراقية تحت إشراف دولي مثل الانتخابات الفلسطينية بمشاركة كل عناصر المجتمع العراقي من سُنّة وشيعة وأكراد وعدم تجاهل أي منهم وخصوصًا السُّنَّة الذين أعلنوا مقاطعتهم المسبقة لهذه الانتخابات. ج- الأزمة السودانية : خلال عام 2004 بات واضحاً أن إنهاء مشكلة الجنوب بالوصول إلى اتفاق مع الحركة الشعبية لن يُنْهي أزمة السودان، بعد أن حلت محلها أزمة دارفور التي اصبح التناول الإعلامي لها، والاتهامات الموجهة إلى الحكومة السودانية بشأنها، شبيهة إلى حد كبير بما كان يجري تداوله بخصوص أزمة الجنوب. وفي وقت قصير للغاية، تجاوزت أزمة دارفور إطارها المحلي، لتصبح قضية ذات أبعاد إقليمية، ثم تحولت إلى قضية ذات أبعاد دولية بعد أن تزايد أعداد النازحين المعرّضين للمجاعة حيث قاربت الوصول إلى مليون شخص. إضافة إلى ذلك بدأت الولاياتالمتحدة تضع شروطاً على رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتطبيع العلاقات معه، وتسوية أزمة دارفور، الأمر الذي وضع الحكومة السودانية تحت ضغوط كبيرة، وهو ما ساهم في توقيع الاتفاق النهائي لتسوية أزمة الجنوب في 9 كانون الثاني يناير الماضي الأمر الذي أثار موجة من التفاؤل بشأن"المستقبل السوداني"بعد مرور أكثر من 21 عام على الحرب الأهلية التي قضت على الأخضر واليابس. د- المعضلة الإصلاحية : شهد عام 2004 تزايد الضغوط من أجل الإصلاح في العالم العربي، رغم بدء هذه الضغوط منذ هجمات 9/11، حين اعتبرت الإدارة الأميركية أن الأوضاع السائدة في بلاد عربية وإسلامية، توفر بيئة ملائمة لنمو التطرف والإرهاب. وبرغم رفض معظم الحكومات العربية للضغوط الخارجية، إلا أنه كان من الصعب عليها تجاهلها بشكل كامل، وكان الاتجاه العام السائد هو إدخال القدر الكافي من الإصلاحات للحد من الضغوط الخارجية، أو لتوفير حجة تبرر ادعاءها بأنها تأخذ الأمر بجدية، ولكن أيضاً بحذر يتلاءم مع ظروفها. وبشكل عام فإن هذه الضغوط لم تسفر حتى الآن عن إحداث إصلاحات عميقة، وإنما الإصلاح من أجل الحفاظ على الوضع القائم. وقد حدد تقرير التنمية الإنسانية العربية ثلاث ركائز للإصلاح العربي: زيادة مساحة الحريات العامة والديموقراطية، وتمكين المرأة، وتطور الإنتاج المعرفي والتكنولوجي وبعيداً عن الجدل السائد حالياً فإن مطلب الإصلاح السياسي والنهوض بالمرأة وتطوير التعليم وتجديد الخطاب الديني هو مطلب أصيل وليس مستحدث في المجتمعات العربية منذ أواخر القرن ال18. ورغم الدعوة الأميركية للإصلاح في العالم العربي إلا أنها اعترضت على تقرير التنمية الإنسانية العربية الأخير بسبب ما ذكره التقرير عن الممارسات العنصرية التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وانعاكسات الاحتلال العسكرى الأميركي للعراق على الحريات في العالم العربي. وتكشف الاعتراضات الأميركية هذه على أن الدولة التي ترفع شعار الديموقراطية في العالم العربي قامت بممارسات غير ديموقراطية، بل تنطوي على نوع من"معاقبة الديموقراطية"Punishing .Democracy لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في مشاركة أبناء المجتمعات العربية في الإصلاح السياسي في مجتمعاتهم، استناداً إلى قاعدة المواطنة الكاملة والحرة باعتبارها المفتاح الحقيقي للخروج من الانفجارات الاجتماعية التي تحدث"كثورة البراكين"تظهر تارة وتختفي تارة أخرى. فجوهر الإصلاح أنه عملية اجتماعية شاملة لا تقتصر على الحكومة فقط، بل تعني مؤسسات المجتمع كلها بالإضافة إلى بلورة توجه عربي سليم يضمن مشاركة القطاعات المهمشة في العمل السياسي والاجتماعيى مثل المرأة والمثقفين والشباب. ومن هنا يأتي الدور المحوري الذي يقوم به المجتمع المدني في الإصلاح، بحيث ينتقل الإصلاح من دائرة القول إلى خانة الفعل، وهو ما نلحظه في تعدد المنتديات والمؤتمرات التيى عقدت في صنعاء والإسكندرية والرباط ودبي. وتقع مهمة الإصلاح في المنطقة على عاتق مصر التي عرفت أول مجلس نيابي في المنطقة عام 1866، وأول دستور في عام 1923 وأول ثورة تحررية في عام 1952، وينبغي أن تقود المنطقة في حركة الإصلاح من خلال حوار سياسي شامل بين الحكومة والمعارضة للاتفاق على بنود"مشروع وطني"لدولة مدنية ينتقل بالبلاد تدريجياً إلى نظام برلماني دستوري، خصوصاً أن التعديلات الدستورية مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى ويتواكب مع ذلك إصلاح يشمل الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والاتحادات العمالية والنقابات المهنية. والمثير هنا أن يدعو النظام السياسي وقيادته العليا إلى حوار وطني شامل، يناقش قضايا الإصلاح السياسي، ثم تأتي الممارسة لتنسف أسس الدعوة، وتعبر عملياً عن حالة استبعاد لقوى وتيارات سياسية وفكرية موجودة في المجتمع وهنا يبرز التساؤل: كيف يمكن غرس قيم التعددية والمشاركة في إطار عملية إصلاح تقوم على هيكلية استبعادية للمخالفين في الرأي والحجة والمنطلق. والإجابة تقول إن المطلوب ثقافة المشاركة والإدماج، وليس الإقصاء والاستبعاد. فالخطأ أن تصاغ إشكالية الإصلاح في مصر باعتبار أنها إشكالية"خطاب"في المقام الأول، ويصبح الأمر مجرد محاولة لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها النظام السياسي المصري في المرحلة الراهنة. ه - العلاقات العربية - العربية : استمرت الخلافات العربية وانتشرت واحتدت في أحيان كثيرة وأصبحت أنماط الصراعات بين الدول العربية ترتبط بخلافات سياسية واشتباكات حدودية وموارد اقتصادية ومطالب إقليمية فضلاً عن الحرب الكلامية بين الحين والآخر، حتى بدت كأنها نوع من"الطقوس"، واتضح عري التضامن العربي حين عجزت القمة العربية عن الانعقاد في تونس في موعدها المحدد، فضلاً عن توتر العلاقات بين السعودية وليبيا، والأردن وسورية، والجزائر والمغرب، وظهور دعاوى بهدم جامعة الدول العربية لأنها لم تعد سوى"ثلاجة"قابعة على ضفاف النيل وهو ما يصب في مصلحة إسرائيل. وعلى الصعيد الاقتصادي، لم تصل التجارة البينية العربية إلى 9 في المئة، وأصبح الحديث عن السوق العربية المشتركة مجرد"كلام في الهواء"لا يستند إلى أرقام أو إحصائيات ولم تنجح الدول العربية في تصدير منتج واحد حتى لو كان مسمار أو عود ثقاب. وامتدت الخلافات العربية إلى الصعيد الثقافي، فلم تنجح الدول العربية في التنسيق الكامل للمشاركة في فعاليات معرض فرانكفورت الدولي للكتاب - الذي دعا إليه المفكر المرموق اللبناني والوزير السابق النابه - ولم تدفع بعض الدول حصتها المالية رغم إنفاقها الملايين على الألعاب الرياضية والمهرجانات السينمائية والحفلات الفنية بل أن إحدى الدول العربية اعتذرت عن المشاركة في المعرض بدعوى"لا قيمة له". وإعلامياً، استخدمت الفضائيات العربية كمنبر للسب والقذف والتجريح بين الدول العربية وبعضها، لدرجة وصلت إلى اتهام الأمين العام لجامعة الدول العربية بتهمة لا يمكن لمنصف أن يطلقها من دون سند مادي أو دليل واقعي. ورياضيًا، فشل وزراء الشباب والرياضة العرب في اختيار دولة عربية واحدة لتدعيمها في المحافل الدولية للحصول على شرف تنظيم مونديال كأس العالم 2010. لذا فإن العرب يخسرون دائماً في العلاقات الدولية، وذلك لا تباع مسلك ثنائي وليس جماعياً، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الثفافي أو الرياضي. هذا هو حصاد العام 2004 بكل ما له وما عليه... بمُرِّه الكثير وحلوه القليل... فالعالم العربي يسير بمنطق"للخلف دور"أكثر من منطق"للأمام سير". وفي تقديري أن لب المشكلات التي تعاني منها البلاد العربية في الوقت الراهن يتلخص في غياب الديموقراطية وضعف المشاركة السياسية وبطء دوران النخبة فالعالم العربي أقل مناطق العالم من حيث درجة التطور على طريق المشاركة السياسية والديموقراطية وتطوير الأنظمة الانتخابية وتمكين المرأة، بل أن هناك من يعتبره بمثابة"الاستثناء"في موجة التحول الديموقراطي التي تجتاح العالم منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، وأن الأنظمة العربية ابتكرت مضادات حيوية" Biotic Anti"ضد الديموقراطية. كما أن هناك ظاهرة بدأت تطفو على السطح في الدول العربية وهي"مأسسة الخوف"، بمعنى أن يقبع الخوف داخل كل إنسان وكل جماعة، لكي يحجب المشاركة والقدرة على إبداء الرأي وممارسة الاحتجاج السلمي إزاء السياسات والممارسات الحكومية. وأصبحت المجتمعات العربية تقع بين"كبت الداخل"و"قمع الخارج"في آن. نحن إذن أمام تحدٍ حقيقي، لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه. ومن ثم فإن استجابتنا الأساسية لذلك التحدي، تتلخص في أن الإصلاح بالمفهوم الشامل"السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والتعليمي"، هو مطلبنا ومصلحتنا، نحن شعوب هذه المنطقة. فإذا كان الآخرون يطالبونا به حماية لمصالحهم ودعماً لأمنهم، فلا بأس، وليقوموا هم بواجبهم والتزاماتهم سواء في ما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية وحل المسألة العراقية ومنع تفاقم الأزمة السودانية .. وفي هذه الحالة لن يكون علينا سوى أن نمضي بحسم وعزم على طريق الإصلاح! فليس هناك طريق آخر. عضو في البرلمان المصري سابقاً وسكرتير عام حزب الغد.