للديمقراطيات الحديثة أنماط متباينة في سياسة الحكم، منها الرئاسي ومنها البرلماني ومنها المختلط ومنها غير ذلك... وجميع هذه الأشكال تجتمع على ضرورة تحكيم رأي الغالبية في إدارة الدولة، لتذعن الأقلية بعد هذا لرأي الغالبية، التي باسمها تمرر المشاريع وتقر القوانين. وتقوم الأقلية، في مقابل ذلك، بدور المعارض المخلص في معارضته حينا، والمغرض فيها أحيانا كثيرة. ولا تولي الديمقراطية الحديثة كبير الشأن لماهية الخيارات التي تنتجها هذه الغالبية أو تلك، بل القيمة في الأمر نسبة المنتخبين، ولو أسفرت النتائج عن واقع يخالف ثوابت الأمة وأسسها الاجتماعية، ليبقى المستقبل مشرعاً على كل الاحتمالات، وما من ضمانة تقيه غائلة الانقلابات الكبرى في النظم والتوجهات غير العوائد والأعراف السياسية، التي تجعل من العلمنة أساساً للحكم مثلا، والكثلكة مذهباً للرئيس، وبياض البشرة سحنته الفارزة... أما الشورى فهي نظام سياسي، حكم الخلافة الإسلامية في صدر الإسلام، وأدار شؤون الولاية العامة في خطوطها العريضة والتفصيلية، وظل الأمر كذلك حتى بداية العهد الأموي، الذي قلب فيه الحكم من خلافة راشدة على منهاج النبوة إلى ملك عضوض، تقلبت بعده الأمة الإسلامية بين ألوان مختلفة من الدويلات أبقيت فيها معظم شعائر الدين قائمة، وأسقطت الشورى من الحكم، ليبرز الاستبداد السياسي عنواناً عريضاً للمرحلة، وإن تعددت المسميات. نخلص من هذه المقاربة العامة لمدلولي"الديمقراطية"، كما هي في الأنظمة الغربية، و"الشورى"، على ما هي عليه في النظام الإسلامي - إلى القول بوجود نقاط التقاء بين المفهومين ونقاط افتراق. فكلا الآليتين مثاليتان في اتخاذ القرار إذا اختلف الناس، والناس بفطرتهم مختلفون، لذلك وجب ردّ الكلمة إلى إرادة الشعب، الذي سيعبر بجمهوره العريض عن قناعاته وتطلعاته، فيأمن الناس على عقدهم الاجتماعي من الانحلال أو الزوال أو العبثية، التي يؤدي إليها تحكم الأقلية في السواد الأعظم من الناس، وهو أمر حاصل في الرأسمالية. ولطول العهد بهذه الأنظمة اكتسب الإسلاميون مناهج متنوعة في العمل، انطبعت غالبيتها بالسرية والتربية الحركية، ولم تمكنهم خبرتهم تلك، على رغم انفتاح بعضهم على بعض في أكثر من موقع عربي وإسلامي، من استشراف مستقبل يعملون فيه بحرية، فأخلدوا إلى"أرقمياتهم"وأنظمتهم الخاصة، ولم تنجدهم قراءاتهم المتعددة للواقع المعاصر من اجتراح أساليب حديثة لوقائع مستجدة، كان من الممكن، لو أحسنوا التعامل معها، أن تقلب محنتهم إلى منحة، لطالما قرأوا عنها في السيرة والتاريخ، وتمنوا أن يفتح الله بها عليهم من جديد. وشاءت الأقدار أن يستفيق الإسلاميون على محاسن النظام الديمقراطي، فيرون فيه خيراً لم يألفوه في ظل الاستبداد، وفضلاً وسعة في العمل والنشاط قد يرقى بدعوتهم درجات وينقلها مفاوز ومسافات، فتنافسوا على السلطان، وتزاحموا على أبواب الحكام، على رغم الفرضية الكفائية للعمل السياسي، وتساقط الكثير من هؤلاء بفعل الإغراءات الجمة، التي تبدت لهم على جنبات الطريق، ورقصت لهم في منعطفاتها. وهذا النوع من المفاتن لا يحفظ التوازن فيه إلا من اشتد عوده في الإسلام، وركز إلى ركن شديد من المبادئ والآداب. وبمرور الزمن وتوالي الأيام، رجحت كفة الإسلاميين الذين انتظموا في جمعيات وأحزاب، بدأت تتوغل، عبر القنوات الدستورية، إلى عقول الناس ونفوسهم، فأبدعوا هنا وأخفقوا هناك، ودجنوا في هذا الموقع وضربوا هناك... ولا يزال حبلهم على الغارب، ولا يزال شأن الحاردين عن العمل في ظل الديمقراطية تتجاذبه جدلية الإلغاء والالتقاء، التي تحكم علاقة الشورى، التي دعا إليها الإسلام، بالديمقراطية التي وفدت من وراء البحار. نخلص من هذا كله إلى القول بأن ما أتيح من حرية ديمقراطية أمام الإسلاميين عقب استبداد جثم ليله طويلاً، لم يكن ليقنعهم بمحاسن هذا النظام، فاستغلوه شعاراً للعمل وبيّتوا الالتفاف عليه بليل. ولم يع الإسلاميون تلك المحاسن إلا بعد أن ضُيّق عليهم وشوّهوا وأُقصوا من جديد، ولو أدركوا ذلك لتريثوا في أكثر من مكان، ولم يعلنوا قناعاتهم مبكرين في"الديمقراطية"، التي تنفس من خلالها الناس الصعداء من دون وعي بمزالقها، فراحوا يتحدثون عن الشورى بديلاً من الديموقراطية، متورطين في مآزق طرحت عليهم وما وجدوا لها حلاّ، كالحديث عن شرعية المعارضة في ظل الإسلام، ونوع الأحزاب المسموح بها في الدولة الإسلامية، وما مصير هذه الدولة إن اختار الشعب برنامجاً لا يقره الدين؟ وما إلى ذلك من مشكلات في الفكر السياسي الإسلامي، الذي لم ينضج منظروه ولا مناصروه ، إلا منذ وقت قريب، بدأنا نسمع فيه مقولة التعايش بين الدين والحرية، وسعة الإسلام لتقبل الفيدراليات على أراضيه، وفوق ذلك كله، الاقتناع بالمرحلية في الدعوة إلى الله، وضرورة حماية مشروع الدمقرطة ولو كلف ذلك التداول على السلطة مع الخصوم، حتى يقتنع الناس بحاجتهم إلى الشورى نظاماً بديلاً عن الديمقراطية، القضية التي لم ينضج في حسّ الناس بعد. سلك الإسلاميون إلى بلوغ أهدافهم طرائق قددا، تنوعت بين الإبداعية والارتجالية وبين التعقل والصدامية، وكأن لسان حالهم يقول: ما السبيل إلى أفضل العطاءات؟ وكيف الوصول إلى موقع الريادة، التي لا تزال دونها عوائق وعقبات؟ رباعية هي النماذج التي حاولت تقديم صورة الإسلام في السياسة والحكم، وقناعات الجميع مقولة الإمام محمد البشير الإبراهيمي: ما الإسلام في أسمى معانيه إلا السياسة في أبهى صورها. من الإسلاميين الذين لم يشاركوا في السلطة مطلقا، أو شاركوا من وراء حجاب، الحركة الإسلامية في مصر، ممثلة في الإخوان المسلمين، الذين يشرفون على حركات أخرى خارج مصر. ولم تجد حركة الإخوان من فرصة للعمل داخل مصر غير الانضواء في عباءة أحزاب أخرى، أو التركيز على العمل الطلابي والنقابي، وقد نجحوا في ذلك نجاحات معتبرة، وإن بقوا محافظين على قواعدهم الموروثة من الإمام البنا سالمة، من بيعة وسرية وتربية وتراتبية. ولم يخل نشاطهم من هفوات، بخاصة في الحديث عن القيادة داخل الحركة، البعيدة حتى الآن عن المراجعة والتطوير، والتي تلقي من حين الى آخر بمرشدين عامّين مسنّين، لهم باع طويل في العمل داخل التنظيم، وقد لا يكون باعهم كذلك في التفكير والتخطيط والإبداع. وينقم على هذه الحركة، الممتدة أفقيا عبر العالم الإسلامي، تقديس بعض الشكليات في البيعة والسرية والعمل والتراتبية، حتى غدت رموزها في أكثر من موقع"إكليروساً"تقدم إليه الطاعات، ويتوجه إليه لنيل التبريكات والتزكيات. وقد لا يرعوون، علاوة على ذلك، في مزاحمة من يختلف عنهم في أسلوب العمل، فتراهم في أحيان كثيرة يناورون في كواليس العمل الإسلامي ويعقدون المؤامرات لأخذ هذا النصيب أو ذاك. وقد يتدخل مكتب الإرشاد العالمي ليقلب خطط العمل الإسلامي في بلد رأى أهله خلاف ما يرون، لينشق الصف وتدب الخلافات، فيلفي المستبدون فيه مرتعاً خصيباً، يعيثون فيه فساداً. وليس الإخوان في مجلس الحكم الانتقالي أو في الجزائر عن هذا ببعيد. أما النموذج الإسلامي الثاني، الذي استلم السلطة واستطاع بسط هيمنته على مقاليد الحكم، فكان في السودان، وكانت أبرز شخصية تمثله الدكتور حسن الترابي، الذي بدأ حياته الحركية إخوانياً لكنه سرعان ما انفصل أو فصل بحسب الروايات. استطاعت الحركة الإسلامية في هذا البلد التحالف مع العسكر لقلب نظام الحكم والاستيلاء على زمام الأمور. ثم طبقت الحركة بعده نظاماً إسلامياً شورياً إلى أبعد الحدود، وكادت أن تبسط سيطرتها على كامل السودان لولا تكالب دول الجوار والغرب على إيقاد نار الفتنة في الجنوب من جديد، فألبوا القبائل المسيحية ودعموها بالعدة والعتاد بغية إسقاط هذه الدولة الفتية، التي بدأت تستقطب بتجربتها شعوب المنطقة، وتسعى إلى تقديم نموذج في الإدارة يقتدى به ويؤتم. وجاء اكتشاف البترول ليزيد النار اشتعالاً، فاستهدف الرموز، وعلى رأسهم الدكتور الترابي، الذي شرع في التنظير لفكرة الفيدرالية بغية إشراك الجنوبيين في السلطة، وللالتفاف على المشاريع الهادفة إلى تقسيم هذا البلد أو إشغاله، على الأقل، في فتن وصراعات داخلية تبدد طاقاته وتلهيه إلى حين، فربحت تلك المؤامرات جولات وإن لم تكسب الرهان بعد. وسينجح الدكتور الترابي إن أخلص، ولم يرد في مسعاه هذا إلا إحراج الذين أبعدوه عن السلطة، وسلبوا إرادته في الحركة سنتين ونيّفاً. ولا يزال، ولمّا حُلّت معضلة الجنوب أشعل المستكبرون فتنة أخرى في دارفور، لتثبيط أية محاولة للنهوض في هذا البلد الإسلامي، وسيستطيع الحكم في السودان تجاوزها إن أعار الوحدة الأخوية إلى صفوفه وأخلص أمره للمبادئ التي أوصلته إلى السلطة. وهنالك إسلاميون، مثلوا النموذج الثالث، شاركوا في اللعبة السياسية، ورضوا بمكاسب جزئية، ولم يتعرضوا لشيء من الإبعاد أو التنكيل، بل سلموا وزارات وأعطوا مؤسسات. أما النموذج الرابع الذي نختتم به هذه الرباعية، فمثلته تجارب إسلامية اشتركت في السلطة جزئياً، وكادت أن تكتسح كل الساحات لولا أنها أسقطت عنوة، حدث مثل ذلك لإسلاميي تركيا، وحدث أسوأ من ذلك للجبهة الإسلامية للإنقاذ. والتجربتان رائدتان في استقلالهما وقيامهما على أسس متينة، تستهدف قلب النظام كله بالشرعية القانونية. وكان عطاء هؤلاء حسناً في إدارة البلديات والمحافظات. فالأتراك استطاعوا التوغل بحكمة في البنيان الاجتماعي والاقتصادي للبلد، تمكنوا خلاله من تولي رئاسة الحكومة عدة مرات، وعلى رغم لبوسهم لباساً يقيهم مطرقة الجيش وسندان العلمنة، فما يزالون يعانون من الكيد والحصار. كاتب جزائري.