قال الدكتور حسن الترابي ان تطبيق اللامركزية في السودان كان أحد الأسباب الجوهرية للخلاف الذي اندلع بينه وبين الرئيس الفريق عمر حسن البشير، مشيراً الى ان الحريات التي أشاعها الحزب الحاكم "معناها لامركزية السلطة وهذه تزعج أي حاكم"، و"الحاكم يقلقه بسط السلطة بعيداً عن سلطانه". وأعرب عن اعتقاده ان الجنوبيين في السودان لن يقرروا الانفصال اذا جرى الاستفتاء على تقرير المصير، مؤكداً ان "المواطنة عقد وليست جبراً، واي كتلة من وطن لا تريد ان تبقى متحدة مع بقية اجزائه لها ذلك بقرارها". ولاحظ ان العقيد جون قرنق "لا يدعو الى الآن الى الانفصال". وعزا فشل التسوية في جنوب البلاد الى "تدخّل القوى الاجنبية". وأبدى الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني جمّد منصبه الرئيس البشير في حديث طويل مع "الحياة" شكوكاً في انعقاد مجلس الشورى في الحزب بعد غد الاثنين، متوقعاً انقسام الحزب الى حزبين. وشنّ هجوماً على الرئيس متهماً اياه بالتضييق على الحريات. ولوّح بأن "للشعب السوداني طريقة في التعامل مع الأنظمة العسكرية التي تكبت الحريات". لكنه استبعد العنف، "لأن النظم العسكرية في السودان لم تستطع استعمال العنف ضد الشعب". وشدد على انه لن يترشح لانتخابات الرئاسة في تشرين الاول اكتوبر المقبل، لكنه سيقدم مرشحاً يمثله. وهنا جزء اول من الحوار، يتبعه ثان وأخير غداً: كيف تلخصون تجربة احدى عشرة سنة هي عمر "ثورة الانقاذ"؟ ماذا قدّمتم الى الشعب السوداني في اطار "المشروع الحضاري" الذي ناديتم به وبعد قيام المؤتمر الوطني والنظام الحالي حتى انفجار الخلاف بينكم وبين الرئيس عمر البشير؟ - ليست هذه اول تجربة لنا في الحكم. كانت لنا من قبل تجربة جزئية هامشية مع الرئيس جعفر نميري. وكنا حينها نبحث، كذلك، عن الحريات في السودان واللامركزية وبسط التعبير، وعن ارادة الشعب. لكن نميري جنح الى تطبيق الاسلام بالقوة وليس عن طريق الارادة الشعبية. وكما تعلم ان السودان بلد افريقي عربي وغني بإمكاناته ومستقبله، مليء بالثروات الجاذبة للطموحات والصراعات، وهذه ادخلت علينا الخارج القريب والبعيد. وقد شعر نميري بتعاظم قوتنا من شباب وطلاب ونساء ومؤسسات فأقلقه ذلك، كما أقلقته العوامل الخارجية. وبعد زيارة جورج بوش نائب الرئيس الاميركي حينها رونالد ريغان اخرجنا نميري من وظائف الدولة العليا الى السجن، ورجعنا مرة اخرى بعد سبع سنوات معارضين داخل السجون. وكذلك كان الامر مع الصادق المهدي اذ كانت لنا تجربة اخرى، وتوليت في حكومته منصب وزير العدل ثم منصب وزير الخارجية باسم الجبهة الاسلامية القومية، وكان قدرنا، مرة اخرى، ان نواجه العالم. واذكر انني بدأت نشاطاً كبيراً بصفتي وزير خارجية مع مجموعات دول اقليمية في افريقيا والعالم الآسيوي، وهذه تزعج العالم كثيراً خصوصاً اذا كانت من شخص يحمل افكاراً اسلامية، مثل بسط الثقافة العربية والاسلامية، وافكار العزّة والاستقلال. وكان خطابنا في السودان اصلاً كله اسلام وتعريب. وفي نهاية الأمر أُخرجنا من وزارة الخارجية بالقوة. وجاءت الضغوط مباشرة من القوات المسلحة، حيث أفادني رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي ان للجيش مطالب عدة من بينها اخراجنا من الحكومة. وهذا ما اكد لنا انه لا يمكن الديموقراطية ان تحكم بإرادة مستقلة من واقع الشعب. هل هذا هو السبب الذي يفسّر الترحيب الذي وجده الرئيس البشير في الخارج وأدى الى اعادة تطبيع علاقات السودان مع الدول المحيطة؟ - الرئيس عند الإعداد للثورة نفسها كان خارج الخرطوم وجاء قبل يوم واحد فقط واصبح رئيساً لمجلس قيادة الثورة مباشرة. يعني ان سجنكم يومها مع قادة الاحزاب كان تمثيلية؟ - نعم، لكنها مرّت على الجيران وعلى الغرب، وأظهروا ارتياحاً ما دام ان هؤلاء ذهبوا الى السجن، أعني الاسلاميين الذين كانوا مع السيد الصادق المهدي وملأوا البرلمان بالحديث عن القوانين الاسلامية وسبّبوا ازعاجاً لحالة الخضوع الاقليمي. عندما أُدخلت السجن بعد قيام "ثورة الانقاذ" عام 1989، هل كان سجناً حقيقياً؟ - بل كان أسوأ من السجون التي تقلّبت فيها مدى سبع سنوات ايام نميري، لأن ادارة السجن لم تعِ حقيقة الانقلاب. وأُدخل اليّ مُؤلف كتبته قبل الثورة بأسابيع بعنوان "الحركة الاسلامية: التطور، الكسب والمنهج" فاعتبر مدير السجن ذلك مخالفة، وأدخلني الى الزنازين التي ينتظر فيها المدانون بالاعدام. لكن ذلك قدري. وبعد ذلك بعام ونصف عام ظهر الاسلام جلياً على وجه ثورة الانقاذ وبدأت تحدث التغييرات التي أزعجت العالم. وبدأ مثلاً التعريب في الجامعات لكل العلوم… لماذا هذه الحساسية؟ ماذا يحدث اذا نقلت هذه العلوم والتكنولوجيا باللغة الانكليزية التي تتطور فيها وتتقدم؟ - هذه الحساسية لأن الحضارة العربية نقلت يوماً ما الى اوروبا علوماً مثل الطب والهندسة. والآن كل الدول في العالم تدرس العلوم الاساسية بلغاتها القومية، ثم تدرّس شبابها لغات اخرى. ومن واقع تجربتي الخاصة اذ كنت مدرّساً للقانون بالجامعات السودانية، يضيع نصف الوقت وطاقته كي يفهم الطالب ما يُدرَّس بلغة اجنبية، بينما لغته العربية تدخل عليه المعلومات سريعاً. وفي هذا المقام اذكر ان احد كبار المسؤولين عن التعريب في هذا البلد والذي أخرج أكثر من منهج هو اساساً استاذ هندسة اسمه الدكتور دفع الله الترابي، شقيقي الاكبر. أضرب هذا المثال لأقول ان العربية عشق اصيل جئنا به من بيوتنا ونشأتنا الاولى، لكن التعريب بالنسبة اليّ اليوم، ليس للعلوم فقط، وانما افقياً ايضاً. فالسودان الى الخمسينات من القرن الماضي كان الذين يتحدثون العربية فيه اقل من نصف السكان، والآن الكل يتحدث العربية. كذلك للعربية صلة وثيقة ممتدة عبر التاريخ من افريقيا الى اثيوبيا، وهذا مما يزعج الغرب، يزعجه ان تحيا هذه الصلات. هل تعلم ان اثيوبيا تتحدث لغة مكتوبة اصولها عربية! نحن يمكن ان نمتد شرقاً وغرباً وجنوباً ونتوسع باللغة العربية التي يحبها الأفارقة. اما في موضوع الترحيب الذي لقيه السودان بعد قرار حل البرلمان، فإن فكرة ان يحكم الاسلام، أمر مزعج. لقد خرج من السودان نموذج جديد في الاسلام بعد نفاذ الدستور في 1999 مخالف لهواجس الخوف من الديانات حيث يتصورها الناس كبتاً، لكنها هنا فتحت الحريات للشعب في الشمال والغرب ثم اعطت الجنوب حق تقرير المصير. ويجد كثير من المسيحيين في هذا الدستور وضعاً اجتماعياً وسياسياً مما لا يجدونه حتى في دول تدّعي انها أم الديموقراطيات، وقد بدأت هجرات اليها بهذا الزعم لكن حريات كثيرة انبسطت بعد الدستور، واخيراً حرية الاحزاب وحرية الصحافة، وكلها قائمة على أسس مؤصلة على الدين. وهذه تزعج اي حاكم، لأن الحريات معناها لامركزية السلطة، فبعد ان كانت كل السلطات مركّزة في العاصمة اصبحت موزعة على 26 مركزاً كلها عواصم يقصد الولايات. هل بسط اللامركزية أحد أسباب الخلاف الجوهرية؟ - نعم. جوهرية جداً. بانتخاب الولاة في مناطقهم؟ - نعم، ليس الولاة وحدهم بل معهم النواب كلهم، ففي كل ولاية من الولايات ال26 يقوم مجلس تشريعي له سلطات واسعة جداً في الدستور. ولكن ألا يهدد هذا بلداً مثل السودان فيه تعدد عرقي وديني ومشكلة مزمنة في الجنوب ويشجع بعض الولايات على الانفصال؟ - حرب الجنوب استعرت اساساً لأننا لم نعطه الحريات الكافية التي ظل يطالب بها منذ الاستقلال. الوطنيون منا - اهل الاستقلال - كانوا يؤثرون المركزية. وكل الحروب التي كلفتنا كل هذه التكاليف كانت لهذا السبب، لأن الغرب بدأ يتحرك، لأن هنا اعراقاً متباينة عربية وغير عربية، لكنهم كلهم مسلمون، وبدأوا يقولون ان السودان قارة لا يمكن ان تحكمه الخرطوم بقبضة مركزية شاملة. الوزراء في المركز يهملون الاطراف وفي المجلس النيابي الولاء يصبح مهماً جداً ولا يمكن ان يقبلوا بتجريدهم من كل مسؤولية عن مناطقهم، والبديل سيكون السلاح، شرقاً وغرباً خصوصاً في مناطق مثل جبال النوبة. الطريقة الوحيدة هي ان نقيم ميزان العدل في قسمة السلطة والثروة، ان يكون هناك نظام رئاسي يتماشى مع نظام لامركزي ومع نفاذ الدستور الذي يحكم هذه القسمة. وارتحنا جداً لكن الحاكم يقلقه بسط السلطة بعيداً عن سلطانه. والغريب ان الفكرة نفسها ناقشتها مع قيادة وقواعد في الجيش اثناء مداولات الدستور واقتنعوا بها اذ لا سبيل لحكم السودان بغير ذلك. وبدأوا التطبيق بالفعل. اكثر من ذلك اننا مفتوحون عالمياً على الجيران. ليست عندنا عصبية، فنحن ليس عندنا اسم لوطن. انتم على الاقل وطنكم اسمه لبنان ربما نسبة الى جبل او غيره، لكن الواحد منا سوداني اي من اسود. والسودان هو كل هذا الحزام الافريقي الى مالي الذي كان اسمه "الجمهورية السودانية" بعد الاستقلال. ليست عندنا وطنية او قومية تتحول الى عرقية تقلقنا. نحن منفتحون نستقبل من الجنوب او الشرق او الغرب واي افكار تقوم في السودان تنتشر، لأن هذه الحدود الحالية استعمارية مرسومة، وليست حدوداً طبيعية ولا ثقافية ولا اجتماعية. إذا جرى استفتاء على حق تقرير المصير في الجنوب، هل تتوقع الانفصال؟ - كان اعتقادي انهم لم يقرروا الانفصال، لكن تقرير المصير حق في ديننا. اولاً وفي الديموقراطية الحقيقية ثانياً. في العالم اليوم ان المواطنة عقد وليست جبراً، واي كتلة من وطن لا تريد ان تبقى متحدة مع بقية اجزائه لها ذلك بقرارها، مثلها مثل المواطن الفرد اذا اراد ان يذهب للحصول على جنسية اخرى فله ذلك. اذاً لا إكراه؟ - نعم لا اكراه في الاسلام والمواطنة عقد، والرسول صلى الله عليه وسلّم عندما جاء المدينة عمل عقداً هو "كتاب المدينة". نحن لا نستطيع القول اننا نمسك الجنوب بالقوة. لكنني كنت مطمئناً الى ان الجنوبيين في الاستفتاء على تقرير المصير سيؤثرون الوحدة اولاً، لأن اكثر من نصفهم موجودون في شمال السودان ويتحدثون لغتهم ودخلوا المجتمع في الشمال واصبحوا جزءاً منه، وهؤلاء لهم الحق في التصويت لأنهم ولدوا في الجنوب. وثانياً، اذا انغلقوا في دولة منفصلة فليس لهم منفذ الى البحر. وثالثاً، ان القضية التي ظلت توحّدهم هي الشمال واذا ضاعت من اذهانهم فإن العدو المشترك سيزول وستنشط القبلية بروحها المتمكنة في افريقيا كلها، وقد ينجرّ الجنوب الى ما تورطت فيه رواندا وبوروندي او الصومال. هل تؤمن بأن العقيد جون قرنق زعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان" يريد فعلاً وحدة السودان؟ - الى الآن هو لا يدعو الى الانفصال. اذن لماذا لم تنجح الى اليوم مبادرة "ايغاد" وظلت المفاوضات تراوح مكانها من 1995 الى اليوم؟ ولماذا لم تنجح اتفاقية الخرطوم التي أُبرمت مع رياك مشار؟ - لأن القوى الاجنبية تدخلت وجعلت الدين موضوعاً. ان قضية الدين لم تكن قضية الجنوب، والجنوبيون يعلمون ذلك، لأن المسيحي، في دستور السودان، يمكن ان يترشح لرئاسة الجمهورية ويتقلّد مختلف الوظائف. لم نشأ للعقد ان تتدخل وتخلّ ببنود الدستور وصياغاته، لكن بعض الجنوبيين قد يستعمل هذه القضية في اوروبا لكسب سياسي، ويدعي ان في السودان عرباً يستغلون الأفارقة. قلت لكثير من الذين جادلوني في هذه المزاعم من الغربيين ان العربية لغة وهي موجودة في افريقيا منذ خمسة آلاف سنة، قبل ان يأتي البرتغاليون والانكليز، فما شأن الاوروبيين بأفريقيا؟ ثم ان الاسلام تتوحد فيه كل الديانات لأننا نؤمن بالمسيح وموسى وسليمان وداود وكل الانبياء. حتى الشورى والديموقراطية نستمدها من اصولنا الافريقية الثقافية. فالشورى موجودة في تقاليد القبيلة الافريقية، وعندما نجمع على شيء في شجرة القبيلة نبقي عليه لأن لدينا روحاً ديموقراطية شعبية، والاقتصاد الاول في افريقيا فيه اشتراكية، لأن الغني في افريقيا غني لأهله ولقبيلته الممتدة. انها اشتراكية مؤصلة في جذر المجتمع وليست قائمة بالضرائب، وانما من طبيعة الناس ان يشتركوا كلهم في وجوه الحياة. الشاهد ان المسألة الدولية حاضرة دوماً في التجربة السودانية وفي كل تجربة في العالم، لكن السودان له اشعاع ينشر تجاربه ويعدي بالقدوة. وفي تجوالي الافريقي قابلت قيادات عربية وافريقية ولمست في قلوبهم كراهية للغرب، ولكن ليست لديهم قوة تمكّنهم من التعبير باستقلال. كانوا يقولون لي انتم السودانيين استطعتم ذلك ونحن نسمع هتافات شعبكم ضد اميركا والغرب ونتجاوب معها بقلوبنا. وكما تعلم، ان الاقتصاد السوداني وقف على رجليه في ثورة الانقاذ على رغم ان بلادنا قوطعت اقتصادياً. والغرب امر بالمقاطعة والامم المتحدة أمرت، لكن التجربة استمرت حتى خرج الزيت النفط من تحت ارجلها. ... وصار السودان الآن محطة جاذبة؟ - نعم. اليوم يريد العالم ان يدخل الى السودان ليأخذ البترول والاستثمارات والطرق والذهب وغير ذلك كثير.... واستطيع القول إنه حتى بعض القيادات العربية غارت من قومة الإسلام في السودان، لأن السودان عندهم أسود وطرف بعيد وقد يغري نموذجه بالتقليد. وذلك أزعج بعض الجيران. هل ترى موضوعياً ان السودان بظروفه وأوضاعه الحالية والسابقة، فلا اسمه يدل على وطنية أو قومية ولم يكن في التاريخ مركزاً أو موقعاً حضارياً إسلامياً رائداً، قادر أو مؤهل لقيادة مشروع حضاري إسلامي تاريخي على مستوى العالمين العربي والإسلامي؟ - الحضارات تتحرك في التاريخ وتتداولها الأمم، وكم من حضارة نهضت وماتت ثم قامت في بلد بدائي جداً. في السودان كانت لنا حضارة نوبية ممتدة وكانت هناك حضارات في بابل وسورية، وقامت حضارة عظيمة في اليونان هي أصل الحضارة الحديثة، ولكن أين اليونان الآن؟ الحضارات قد تبدأ من لا شيء كالحبة تنبت من جوف الأرض وتكسر الغلاف وتشق التربة وتصبح شجرة مزهرة مثمرة. أنا مقتنع بأن الحضارات يمكن ان تبدأ من لا شيء. بدأت الحضارة الإسلامية في بلد متخلف وتنزل القرآن على أمة أمية حولها أهل الكتاب وحولها حضارات ضخمة، وفي النهاية انداحت عليها كلها ومشت إلى الهند والصين... أنا مؤمن بذلك جداً، فالسودان في اقليمه بلد مركزي فيه عروبة بمعنى الثقافة والتراث، وفيه افريقية وفيه نوبية قديمة، وهو بلد واسع لديه إمكانات طبيعية غير محدودة من الأرض إلى الزراعة إلى الحيوانات. ومؤهل جداً لأن يقوم من الكسل، وهو فعلاً كسول، ولكن يمكن أن يُحول من الكسل إلى العمل، ويمكن تحويل هذه الثروات الجامدة لتصبح حية، ويمكن تحويل الروح من فردية إلى جماعية، ويمكن السودان بدلاً من ان يبقى عالة يتلقى المعونات، ان يتحول هو العائل. وفي المناسبة، ان السودان في أيامه القريبة، حقق أشياء غريبة: كيف لبلد في ضعفه ان يقاوم أوروبا الغربية التي طورت معارضتها لتجربته إلى حصار مضروب عليه؟ لكنه بدلاً من الإنكسار والاذعان، قاوم واظطر إلى الانتاج بحراثة أرضه بدلاً من مد يده يطلب الاغاثات من الخارج. ووجد الشعب أمامه إمكانات زراعية لا حد لها، ووجد ثروات معدنية لا حد لها، وبدأ يتفجر فيه الذهب بعد البترول، السودان اليوم بلد ذهبي. وبعد ظهور الثروات بدأت تظهر فيه، بكسب شعبه، سمات مشروع حضاري إسلامي يأخذ الشورى وتراث المسلمين الذي قتله المسلمون. هناك تجربة جديدة بالفعل وديموقراطية هي غير تلك التي كنا قد جلبناها تقليداً للغرب، فقامت فينا أشكال بلا حياة أو روح فسقطت ولم يأسف عليها أحد. وقدمنا أنموذجاً دستورياً فريداً: ان نظام الانتخابات فيه أفضل من النظام الأوروبي. إن هيئة الانتخابات تأخذ كل المرشحين وتقدمهم بالقسط والعدل والموضوعية إلى الشعب، ويمنع المرشح من أي إعلان عام يطغى فيه الأثرياء على الفقراء دعاية ودعوة وإعلانات. ولكن كلهم يقدمون في الراديو والتلفزيون والجرائد والندوات إلى الشعب، والشعب هو الذي يختار. وأقول للغربيين إن الفساد عندكم في الانتخابات أضحى فاضحاً. والآن حزب العمال البريطاني متهم، والبيت الأبيض متهم، وكثرة من أحزابكم متهمة بأنها تدبر أمر انتخاباتها من مصادر وشركات تعود عليها بالفوائد بعد الفوز بالدوائر والمجالس. وكذلك أثبتنا في صلب الدستور نمط نظام فيديرالي موزون ونظام رئاسي، أؤكد أنه أفضل من الأميركي، لأن السلطة فيه ليست كلها للرئيس، السلطة - في دستور السودان - لمجلس الوزراء. صحيح ان الرئيس يسمي وزراءه لكنه يجلس فيهم بصوت واحد فقط والقرارات تصدر بالغالبية العادية. كذلك اقمنا نظم القضاء ونظم المظالم بأوسع مما هي موجودة في كل الدساتير المعاصرة. هل الخلاف الذي ظهر إلى العلن في حزبكم آخر العام الماضي يهدد كل ذلك بالزوال؟ - في رأيي الخاص كنت مقتنعاً بأن ظهور هذا المثال الشوري الديني الجديد، وسط كل هذه النظم السياسية المؤسسة على القيم الرافضة تدخل الدين في الحياة العامة، ووفقاً لتجارب الإنسانية في تاريخ الغرب وفي غيره، لا يمكن ان ينزل على المجتمع هذا القدر من التجديد والحرية من دون أن تنشط التوترات وقد تنزلت القيم والمعاني بروحها إلى الشعب. الشعب السوداني الآن يدور فيه حوار داخل الشعب على هذه المعاني: الحرية، الحرية، الحرية، الحرية تنزل إلى تحت وليس في شرائح المثقفين، كانت في السودان عندنا شريحة المثقفين. الآن يتوسع الحوار؟ - الشورى... الديموقراطية. هل يجتمع مجلس الشورى في حزبكم بعد غد الاثنين وترضى بقراراته؟ - الحكومة خربت الكثير من هذا الجهد. فبعد أن تأسس نظام المؤتمر الوطني وقامت هياكله كلها على الانتخابات، تدخل رئيس الجمهورية بغير ضابط، بل خرقاً للنظام الأساسي للحزب وحشد إلينا أفواجاً من المعينين قسراً بغير شورى. وهؤلاء أصبحوا اعضاء في الهيئة القيادية وفي هيئة الشورى، كذلك ان دور الحزب ومقراته مصادرة ومحتلة بالسلاح. هل يجتمع مجلس الشورى الاثنين؟ - والله هناك خلافات حتى الآن. لا أعرف ما سيحدث. يعني قد لا ينعقد الاجتماع؟ - إذا اجتمع الأعضاء المنتخبون فقط فهذه سليمة، ولكن إذا حضر الأعضاء الذين "حشروا حشراً" بالتعيين، فهذا مخالف للنظام الأساسي للمؤتمر الوطني تماماً، وهو الوثيقة الملزمة التي أدى القسم عليها عشرة آلاف عضو في المؤتمر القومي العام. من أين جاء هؤلاء الآلاف العشرة إلى المؤتمر؟ الحقيقة انهم جميعاً منتخبون. كم تعداد مجلس الشورى؟ - حوالى ستمائة. وهل الذين "حشروا" يرفعون هذا العدد؟ - بالطبع... مواصلاً ثانياً الرئيس أصبح يستنفر بأموال الدولة، ونحن عندنا في نظامنا السياسي العام ممنوع دستوراً على الحزب الحاكم أن يصرف أموال الدولة على الحزب أو على الدعاية لنفسه ولمرشحيه في أي انتخابات رئاسة أو نيابية، لكن أموال الدولة تصرف الآن بغير حساب وتأتي الرموز والوفود من أطراف السودان وتسكن الفنادق. لعلك لا تتوسم خيراً من اجتماع المجلس الاثنين، وتتوقع ألا ينعقد؟ - نعم يمكن ألا ينعقد. وإذا عقد؟ - سمعت ان الرئيس له احتياطاته إذا عقد الاجتماع وخرج بقرارات لا ترضيه. سيعمل بما يسميه حالة الطوارئ المعلنة. لكن حالة الطوارئ في الدستور تعلنها السلطة أو الدولة في حالة وباء أو فيضان أو غزو، وقد تأخذ بعض الممتلكات الخاصة أو تعتقل بعض الناس، لكن الرئيس ألغى بها الدستور كله، من النظام الاتحادي إلى نظام مجلس الوزراء إلى نظام الحريات العامة، ثم كبت بها قيادات حزبه وهو اليوم يتكلم ويستنفر ما يشاء وحده، وبقية الحريات نقضت. هل تعلم ان في كل صحيفة اليوم رقيباً يدخل إليها في منتصف الليل أو قبله ويشطب ما يشاء من موضوعات، صفحة صفحتين، عموداً أو عمودين. وإذا لم يعجب ذلك أهل الصحيفة يخسرون ما طبعوا فيضطرون إلى تغيير المواد الأساسية بالإعلانات والمواد الأدبية والمواد القديمة، فتخرج صحيفة أخرى غير التي دفع بها المحررون إلى المطبعة. كذلك استعمل الرئيس إعلام الدولة كله للمضي في حملته ضد القيادة الشرعية للمؤتمر الوطني، والآن، قد يحشدون أعضاء من هيئة الشورى بأموال الدولة. لكننا نحن القيادة الملتزمة النظام الأساسي، من أراد منا فيأتي على حساب أموال الحزب أو على حسابه الخاص. ولكن حتى بعض الوفود التي جاءتنا من مالها منعت. حتى ندوة في جامعة الخرطوم دعيت اليها احتفالاً بتحرير الجنوباللبناني منعت وقطعت الكهرباء وغمرت الميادين بالمياه، وأبلغ الطلاب ان أمين المؤتمر الوطني ممنوع من التحدث اليكم. على رغم ذلك أقيمت الندوة في مسجد الجامعة وتحدثت. يعني ذلك ان لا عودة الى الصيغة السابقة مع الرئيس البشير؟ - نعم، الاحتمالات الغالبة في هذا اليوم الذي نتحدث فيه هي الفراق. هل يصبح المؤتمر الوطني حزبين؟ - بلغتنا أخبار أننا قد نمنع من تأسيس حزب. حاولنا ان نبحث في داخل مكتب مسجل الاحزاب عن ذلك... ولكن ماذا يستطيع المسجل ان يفعل اذا جاءته الأوامر من علٍ؟ وكيف سيمضي القانون في ظل الارهاب؟ أذكر تصريحاً في أول أيام الأزمة لوزير الاعلام قال فيه: "فليؤسس الترابي حزبه اذا شاء". ولكن بعد ذلك جاءت الاخبار بغير ذلك. وكما تعلم اسم المؤتمر الوطني ليس اسماً قديماً العام الماضي ولا يرتبط به تاريخ عزيز في الوجود والمعاني. اذا لم يقم الاجتماع أو لم يخرج بنتيجة أو اجتمع كل فريق على حدة، هل ستعلن قيام حزبك؟ - حسب القانون الموجود الآن يمكن ان نعمل الآن باسم الحزب نفسه المؤتمر الوطني. اذا لم تسمح السلطة بذلك، وتقول انها تضيق على الصحف، فماذا تتوقع؟ - طبعاً للشعب السوداني طريقة في التعامل مع الأنظمة العسكرية التي تكبت الحريات. هل سترد بعنف؟ - النظم العسكرية في السودان لم تستطع استعمال العنف ضد الشعب. والجيش السوداني لم يقتل أحداً ولم يحمل الشعب بندقية في ثورة اكتوبر ضد نظام ابراهيم عبود على رغم انه ملأ السودان مشاريع وخزانات وطرقاً وزراعة وسكة حديد. وكنت في قيادة تلك الثورة وامتلأت الشوارع بالمتظاهرين وخلت مكاتب الدولة بالاضراب، لكن الجيش قال لن أضرب الشعب من أجل الحكومة. هل تتوقع انتفاضة؟ - المرة الثانية كانت مع جعفر نميري، خرج من هنا الى الولاياتالمتحدة مطمئناً، وترك الاتحاد الاشتراكي يسيطر سيطرة تامة على البلاد، وترك جهاز الأمن ممسكاً بكل شيء والجيش كذلك وهو القائد العام والرئيس. والآن ان البشير قائد عام ورئيس جمهورية وقائد أعلى، لكنني لا استطيع القول ان ذلك الانتفاضة ستقع في ثلاثة أيام أو اسبوعين. ولكن ليس ثمة شك في ان السودان سيلجأ الى طريقته في التعامل مع الانظمة العسكرية. واذا لم تحصل انتفاضة من اليوم الى حين موعد الانتخابات في تشرين الأول اكتوبر المقبل، هل ستخوض انتخابات رئاسة الجمهورية؟ - بالطبع لن أخوضها شخصياً بترشيح نفسي لأنني أعلنت ذلك مراراً، وانا ألتزم ما أقول. لكنني سأرشح شخصاً آخر. يمثل تيار الترابي؟ - يمكن ان تقول تياراً لأنه اليوم ممنوع عليه يعني شخصه ان يظهر أو يكتب في الصحف. لكن الوجوه موجودة تمضي بين الناس. قد نمنع من الخطاب العام، لكننا ندور في المجتمع، وما أردناه ودعونا له انتشر. اذا جاءت الاحزاب القومية التقليدية ودخلت لتنافس في الانتخابات الرئاسية لن يستطيع الرئيس البشير الحصول على نسبة الغالبية المطلقة للفوز من الجولة الأولى، لذلك سيحتاج الى اعتماد منهج التحالفات لخوض الجولة الثانية وفقاً لنص الدستور. الرئيس يؤكد ان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها؟ - مهما يكن من أمر بالنسبة الى الانتخابات البرلمانية، ان المؤتمر الوطني اذا خاضها منقسماً، فإن هؤلاء وأولئك من أنصاره لن يفقدوا دوائر كثيرة جداً، لأن الحزب الواحد اذا انشق تتشتت أصواته في الدائرة الواحدة، وأي نائب يتقدم بعدد الأصوات يفوز، لأن النائب لا يحتاج في الدوائر التشريعية الى الغالبية المطلقة. اما في انتخابات رئاسة الجمهورية فكل حزب يصوت لمن يقدمه مرشحاً للرئاسة. لكن الرئيس اذا لم يحصل على أكثر من 50 في المئة، تعاود الانتخابات في جولة ثانية. انا شخصياً لن أترشح لأن قناعاتي في العمل العام هي بسط الفرص للاجيال الجديدة. وفي مجتمعات فيها هرمية في السكان مثل مجتمعاتنا، كلما صغرت الاعمار زادت الاعداد وليس الأمر كما في المجتمعات الأوروبية. وفي رأيي الشخصي اذا بلغ المرء ستين عاماً لا ينبغي له ان يصبح وزيراً. يمكن ان يكون مفيداً جداً في بعض الامور الشورية والاكاديمية، في التأليف والكتابة والترجمة أو الدعوة. ولكن اذا تمخضت الانتخابات بهذه الطريقة ولم يستطع احد ان يحصل على الغالبية، تكون الجولة الثانية بين المرشحين الاثنين المتقدمين في عدد الاصوات على الآخرين. عندئذ يمكن ان تذهب الى القوى السياسية الاخرى طلباً للأصوات وقسمة للوزارة. فهذه مسائل ترتب في وقتها.