شغلت قضية الديموقراطية المفكرين السياسيين في العالم العربي منذ فجر النهضة العربية المعاصرة، ولم يقتصر الجدل والحوار حول مسألة الديموقراطية على داخليها والمتعاملين بأساليبها، بل شمل المترددين والرافضين، إذ تغير مفهوم الديموقراطية وتعدل منذ ذلك الوقت تحت تأثير مجموعة متنوعة من التطورات الاجتماعية والسياسية. وتوصل جمال الدين الأفغاني 1838-1897 بعد تقص لأسباب انحطاط المسلمين أن مرد ذلك الى غياب العدل والشورى وعدم تقيد الحكومة بالدستور، فرفع لواء المطالبة بأن يعاد للشعب حق ممارسة دوره السياسي والاجتماعي عبر المشاركة في الحكم من خلال الشورى والانتخابات. إلا أن تحولاً طرأ على هذه النزعة بعيد الحرب العالمية الأولى، خصوصاً بعد سقوط نظام الخلافة الإسلامية العام 1924، هي التي كانت تراثاً تنظيمياً ارتبط بمشاعر المسلمين لقرون طويلة، ورمزاً لوحدتهم ودرعاً لدينهم وكيانهم الدولي، فلم يعد التحدي الذي يواجه المسلمين هو الاستبداد، بل ضياع رمز الوحدة الإسلامية التي كان الإصلاحيون يبذلون كل ما في وسعهم لإصلاحه والحفاظ عليه من الزوال. في تلك الحقبة، تحولت النظرة إلى الديموقراطيات الأوروبية التي طالما أعجب بها الإصلاحيون، فأصبحت السمة الغالبة عليها أنها قوى إمبريالية مزقت الخلافة وتقاسمت تركتها وتداعت على المسلمين كما تداعى الأكلة على قصعة. وأصبح مصدر الخطر مخطط التغريب الذي بذل فيه المستعمرون جل جهدهم، والذي ما اقتصر على سلب الخيرات وشل الإرادات بل بات يهدد هوية الأمة المستمدة من عقيدتها ولغتها. وبذلك تبدلت الأولويات وأصبح رأس الأمر الكفاح لتحرير ديار العروبة والإسلام وحماية الثقافة من الطمس والتبديل، وتحولت دعوة الإصلاح السياسي إلى دعوة للتجديد. ولعل أبرز مظاهر هذا الموقف ما مثلته جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي تأسست العام 1928 كرد فعل على إسقاط الخلافة، كما ورد على لسان مرشدها الراحل مصطفى مشهور الذي أكد أن الشهيد حسن البنا، مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، قام ليعلن أن إعادة الخلافة فرض عين على كل مسلم ومسلمة. وفي معرض تحليله للحضارة الغربية اعتبر البنا أن الأحزاب السياسية أحد العوامل المؤذنة بأفول نجم أوروبا، مع أنه ترشح للانتخابات النيابية في مصر مرتين. وعلى رغم حرصه على تأكيد أن النظام البرلماني والدستوري ينسجم من حيث المبدأ مع نظام الحكم الإسلامي، إلا أنه كان يعارض التعددية الحزبية، ويرى أن الأحزاب السياسية تهدد الوحدة الإسلامية، التي اعتبرها أساسية لاستعادة نظام الخلافة. في الوقت نفسه، وفي ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، استمر منتسبو التيار الليبرالي في العالم العربي، كأسلافهم من رواد العلمنة في القرن التاسع عشر، في الدعوة إلى التغريب، ونادوا بصوغ دساتير وأنظمة قانونية حديثة تحاكي التجربة الأوروبية في استبعاد الدين من شؤون الحياة العامة. ورفعوا شعار "فصل الدين عن الدولة" معتبرين أن الإسلام كان السبب وراء تخلف العرب. وقد استثار الاستعمار شعوب المسلمين، فنهضوا ثائرين يناضلون لاستعادة الاستقلال. إلا أن زعامة حركات التحرر - التي كان منشأ كثير منها إسلامياً - آلت إلى النخب المتغربة التي تحولت في ما بعد إلى أنظمة مستبدة حلت محل المستعمر لتقوم نيابة عنه بكل مهماته. ولذلك تعرض الإسلام، ديناً وثقافة، خلال فترة ما بعد الاستقلال لهجوم شرس باسم الحداثة والتحديث. وبذلك تغير نوع التحدي مرة أخرى، ولم يعد النضال من أجل الاستقلال هو المطروح، وإنما الكفاح لمقاومة الهجوم الشرس على الإسلام وعلى الهوية الثقافية للأمة لا من المستعمر بل من أنظمة الحكم التي سادت بعد الاستقلال. فإذا انتقلنا إلى المرحلة الراهنة وجدنا محاولات جادة لقراءة العلاقة بين الإسلام والديموقراطية على نحو مغاير. فمثلاً، يقول الشيخ راشد الغنوشي: "إن مفهوم الديموقراطية مفهوم واسع يتسع لمعان كثيرة لكنها تلتقي عند معنى أنها نظام سياسي يجعل السلطة للشعب ويمنح المحكومين الحق في اختيار حكامهم وفي التأثير فيهم والضغط عليهم، وعند الاقتضاء تغييرهم عبر آليات قد تختلف من نظام ديموقراطي إلى آخر ولكنها تلتقي عند آلية الانتخاب الحر. وبالتالي يحقق هذا النظام التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع ويضمن للناس حريات عامة، كالتعبير وتكوين الأحزاب، كما يضمن استقلال القضاء. وبالتالي فالديموقراطية آلية تضمن للشعب سيادته على النظام السياسي وتحقق جملة من المضامين والقيم التي تصون الحقوق وتحمي الحريات وتحصن الناس ضد الجور والاستبداد. وعلى المستوى العملي نجد أن جماعة مثل "الإخوان المسلمين" تتحالف مع أحزاب أخرى بدءاً ب"الوفد" وانتهاء بالعمل ضمن التحالف الإسلامي، الأمر الذي وفر لها فرصة دخول البرلمان وتقديم تجربة إيجابية في العمل النيابي. ومثل إخوان مصر نجد الإخوان المسلمين في سورية والحركة الإسلامية اليمنية و"الجماعة الإسلامية" في المغرب أصل "حركة الإصلاح والتجديد"، وغيرها من الحركات الإسلامية يسيرون في الاتجاه نفسه. ولعل القبول العملي للديموقراطية، ثم التحفظ النظري الذي يترتب عليه المنع والإقصاء لاحقاً - في فترة الحكم والسلطة - بالنسبة الى هذه المدرسة، يشكل أزمة في الرؤية السياسية، جعلت الدكتور يوسف القرضاوي يسأل: "كيف يستغل الإسلاميون الديموقراطية وهم غير مؤمنين بها - حتى يصلوا إلى الحكم فقط - وحينئذ يحكمون على غيرهم بالإعدام؟". وإذا انتقلنا من حديث الوقائع والمعلومات إلى حديث الدلالات وجدنا أن ثمة مشكلة معرفية حقيقية تتصل بتصور الإسلاميين للديموقراطية، ذلك "أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره" كما علمنا الأصوليون، ومحاولة إطلاق حكم تقويمي على موقف الإسلاميين من الديموقراطية كفكرة والممارسة الديموقراطية الفعلية كلاهما يتوقف على إدراك موقفهم من الديموقراطية بشكل دقيق. وأولى مشكلات هذا التصور الخلط بين الديموقراطية كآلية لتداول السلطة والديموقراطية كمفهوم فلسفي قام على إنكار وجود الحقيقة المطلقة فضلاً عن إمكان امتلاكها، كما أنه كمفهوم يكرس الفردية على نحو تبدو معه الديموقراطية أداة لإعادة صوغ المجتمعات على نحو لا مكان فيه للتكوينات الجمعية الوسيطة الأسرة الممتدة - الطوائف الدينية - القبيلة - المجتمع - الطوائف المهنية...، فهو في الحد الأدنى يسعى الى تحييدها إن لم يستهدف القضاء عليها. ويتجاوز الأمر آليات الممارسة إلى إعادة صوغ مفهوم الممارسة السياسية نفسها على أساس براغماتي صرف، حيث تتوارى الاعتبارات الأخلاقية والقناعات الدينية أو تصاغ في برامج سياسية تقبل النقض والنقد وتختبر في صندوق الانتخابات. وعلى رغم أن الكثير من الإسلاميين يتصور أنه برفعه شعار "الديموقراطية تحت سقف الشريعة" يكون قد حل الإشكال، فإن الأمر في الواقع يبدو أعقد من ذلك، أو هو أعقد بالفعل. فالشريعة فيها ثوابت ومتغيرات والمفهومان يختلفان من مذهب لآخر على نحو ملموس، والتفاوت بين تأويلات المتغير أكثر اتساعاً. كما أن سقف الشريعة يعني في الحقيقة حسم الصراع المشتعل بين الإسلاميين والعلمانيين في العالم العربي بسلاح "ديني". وبعبارة أخرى فإن السياسة باعتبارها مواءمة ومفاوضة مدارها تداول السلطة وهي غالباً تعبير عن رأي الغالبية، أما "إنشاء السلطة" فهو تعبير عن الإجماع ولا يملك الحق فيه إلا "مؤسس السلطة" ولحظة التداول تختلف نوعياً عن لحظة التأسيس، بل إن لحظة التأسيس قد لا يضطلع بها السياسيون على الإطلاق. وفي الحال المصرية بالتحديد فإن المؤسسة العسكرية هي التي أنشأت السلطة وحددت شكلها وسقفها على رغم أنها ليست طرفاً في أي عملية تدافع سياسي. فمن أراد وضع سقف جديد للسلطة "سقف الشريعة" فليس في إمكانه أن يحقق ذلك إلا عبر "لحظة تأسيس" جديدة انقلابية أو ثورية كالتي شهدتها إيران على يد الإمام الخميني. وإجمالاً، فاًلأزمة ليست في موقف الديموقراطية من الدين، فهذه في النهاية مسألة نظرية محض، بل هي في هدف الإسلاميين من الانحياز للخيار الديموقراطي، وغني عن البيان طبعاً أن مناخ القمع السياسي الخانق الذي يلف العالم العربي بدرجات متفاوتة يضعف جبهة أنصار الخيار الديموقراطي داخل صفوف هذا التيار في لحظة من لحظات التحول التاريخية، وهو ما يخدم مصالح الأنظمة الحاكمة، وقد يكون من الأفضل للإسلاميين والمجتمعات العربية على السواء الاستناد إلى ما للشريعة الإسلامية في نفوس الناس من التقدير ليصبح احترامها موقفاً اجتماعياً وقناعة ثقافية والوصول الطردي والطبيعي إلى قناعة العمل على تحويل هذه القناعة الى نص قانوني ملزم داخلها، وأن ينحازوا بصدق لمنح الناس حق الاختيار على أوسع نطاق وأن يبذلوا القسم الأكبر من جهدهم لإعادة الروح للمجتمعات وإعادة زمام المبادرة إليها. ولا ينبغي أن يبقى عبء حل الإشكالية بين الإسلاميين والديموقراطية بالضرورة على عاتقهم وحدهم بل تتحمل الأنظمة الحاكمة التي لا تسمح إلا بنماذج مشوهة من الديموقراطية جعلت قطاعات واسعة يكفرون بها جزءاً كبيراً من ضرورة السعي إلى فك طلاسم هذه الإشكالية على نحو يتلاءم مع ثوابت العقيدة الإسلامية ويتناغم مع مساحة المتغيرات فيها. ويبقى أن نشير إلى مسؤولية ثلة كبيرة من المفكرين الغربيين المتعصبين لنموذجهم الغربي إذ يتعين عليهم الاعتراف بالفروق الثقافية والتجارب الإقليمية التي تراعي عقائد الناس وثقافتهم. * محام مصري وكاتب إسلامي. والكلمة يلقيها اليوم 14/4/2003 في ندوة "مؤتمر الديموقراطية الثالث" في قطر.