نشر أدونيس قبل ثلاثة عقود تقريباً كتاباً مبتكر العنوان:"صدمة الحداثة"، الذي هو الجزء الثالث من مشروعه النقدي:"الثابت والمتحول". أراد الشاعر بتعبير"الحداثة"أن يمايز ذاته عن فكر احتجاجي اطمأن الى كلمة"الثورة"الى حدود السبات. ومع أن الشاعر كان محقاً، لأن الثورة المفترضة أصابها الشلل قبل أن تحبو، فإن هذا لم يمنعه من القفز السعيد فوق موروث تنويري خاض معركة الحداثة بشعار متواضع هو: الجديد في مواجهة القديم. أنجز الشاعر بلغته المبتكرة ثلاثة أغراض مترافدة: أتاح لكلمة الحداثة انتشاراً غير مسبوق نفذ الى الشعر والرواية والنقد، وقصر معناها على الأدب دون غيره كما لو كانت الحداثة غير الأدبية تحتاج الى مفردة أخرى، وأكد الكلمة منجزاً أدونيسياً، لأن من يسمّي موضوعاً له الحق في المتصرّف به. حظيت الكلمة، في الحالات كلها، باحتفال كبير، فقوة الكلمات من قوة الطرف الصادرة عنه، معلنة ان الحدود بين الشهرة والحقيقة واهنة أو ناحلة القوام. ولعل هذه الشهرة، التي تحيل على الشاعر أدونيس دون غيره، هي التي جعلت مجلة"شعر"1957 - 1970 موضوعاً لأكثر من دراسة. ظهر في بيروت أخيراً كتاب عنوانه:"قضايا النقد والحداثة"يحيل، ظاهرياً، على موضوعين: تعامُل النقد الحديث مع الإبداع الأدبي، وماهية الحداثة الأدبية التي تفترض نقداً على صورتها. غير ان في العنوان الثانوي للكتاب ما يضبط التصور ويجعله أكثر دقة، والعنوان هو:"دراسة في التجربة النقدية لمجلة"شعر"اللبنانية". تصبح الأمور، عندها، أكثر وضوحاً، إذ الحداثة هي مجلة"شعر"من دون غيرها، وإذ النقد الحداثي هو الذي يحتفي بالمجلة او يصدر عنها، كما لو كان النقد الممتد من عبدالرحمن شكري الى محمد مندور لا وجود له. ولأن الأمر هو على ما هو عليه، يكون على الكتاب ان يقصر قوله على الشعر، الذي أصبح حداثياً حين شاءت له مجلة"شعر"أن يصبح كذلك. ولهذا يتوزّع الكتاب، في شكل متتال، على الفصول الآتية:"في طبيعة الشعر ودوره"،"قضايا الشكل الشعري والتجديد الفني"،"مظاهر حداثية في القصيدة الجديدة: اللغة، الغموض، الاسطورة". وهذا الاحتفاء بالحداثة الشعرية هو الذي دفع بمؤلفة الكتاب ساندي سالم أبو سيف، وهي باحثة جيدة لا يعوزها التوثيق الدقيق، الى أن تضع خارج الفصول،"هوامش"تحيل على أمرين:"العلاقة مع الحزب القومي السوري الاجتماعي"و"الخلافات مع مجلة الآداب". على رغم فصول الكتاب وعنوانيه، الأساسي منهما والثانوي، كما تمهيده وهوامشه، فالصوت المسيطر فيه هو صوت أدونيس. فهذا الصوت حاضر وشديد الحضور من بداية الكتاب الى نهايته، مس الأمر مرحلة التأسيس وصعود المجلة أم لامس توقفها الموقت ورحيلها الأخير، وهو ثابت وواضح في الحديث عن معنى الاسطورة والغموض والتجدد والشعر الحر وقصيدة النثر، وذلك الحديث الدائري عن الحقيقة الباطنية واللامتناهي وبلوغ القلب ما يقصّر البصر عن بلوغه... بداهة، فإن الباحثة، المشدودة الى التوثيق وتدقيق المصادر، تضع أمام القارئ أسماء كثيرة: يوسف الخال، أنسي الحاج، خليل حاوي ومحمد الماغوط وسلمى الجيوسي وكمال خير بيك ورياض نجيب الريس وخالدة سعيد وعادل ضاهر... غير ان هذه الأسماء، ولا ينقصها اللمعان والبريق في شيء، لا تحجب أمرين أولهما: ان الأصوات جميعها تذيع ما قاله أدونيس، أو ما سيقوله، بأشكال مختلفة، سواء سبقته في القول أو لحقت به، ذلك ان الشاعر الكبير ثابر، بلا انقطاع، على صوغ الحداثة الشعرية وصقلها وتطويرها، كما قصدها ووعى أهدافها. ويقول ثاني الأمرين: ليست مجلة"شعر"في النهاية، على المستوى الأدبي والنقدي، سوى وثيقة أدبية أساسية، يعود اليها الباحثون المشغولون بأدونيس، قبل أي شيء آخر. فواقع الأمر أن هذه المجلة لم تؤسس لحداثة شعرية، أو نقدية، بل أسست للحداثة الشعرية كما صاغها أدونيس وحدد ملامحها. لا غرابة والحال هذه أن تصعد المجلة بصعود الشاعر، وأن ترحل حين أدار ظهره لها. ومع أن في الكتاب ما يشير الى أن"شعر"تستأنف جهوداً شعرية سبقتها، فإن هذه الإشارة لا تخفف من ذلك الانطباع، الذي يساوي بين مجلة يوسف الخال والحداثة الشعرية العربية. يقصد هذا الكلام الى أمرين: لا يمكن اختزال الحداثة الشعرية العربية، وهي لا تنفصل عن الحداثة الاجتماعية بأية حال، الى مجلة"يوسف الخال"، لأن هذه الحداثة توالدت واستمرت في توالدها بوسائل عدة. ويشير ثاني الأمرين الى شعراء تمتعوا بقيمة أدبية ذاتية، على مقربة من مجلة"شعر"أو على مبعدة منها، حال محمد الماغوط وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا وأنسي الحاج، الذين هم مبدعون سواء انتسبوا الى المجلة أم لم ينتسبوا إليها. وعلى هذا، فإذا جرّدنا المجلة من سياقها السياسي - الثقافي، الذي كان لصيقاً بمواجهة الايديولوجيتين القومية والماركسية، فإنه لا يتبقى منها، في التحليل الأخير، إلا أدونيس، كشاعر وسلطة في القول في آن معاً، لأن سلطة الكلام من سلطة المتكلم. ولعل هذه السلطة هي في أساس دراسات متلاحقة عن مجلة"شعر"، من دون غيرها، بدءاً بدراسة جمال باروت الرائدة مروراً بدراسة أخرى لسامي مهدي، وصولاً الى كتاب لا ينقصه الالتباس ظهر العام الماضي في بيروت، عالج فيه جاك أماتاييس"يوسف الخال ومجلته شعر". ربما يكون في كتاب جاك أماتاييس تمثيل غير مباشر لتلك الهالة التي أعطاها أدونيس لمجلة"شعر"والمنتسبين اليها. فالكتاب يتوقف طويلاً أمام شخصية يوسف الخال، دارساً في الولاياتالمتحدة ومدرساً في الجامعة الأميركية، حالماً بمجلة إبداعية في بيروت تستبدل بشعر الماضي شعر المستقبل. وهو الى جانب ذلك المثقف الملم بالشعر الأميركي والمتأثر بزعيم الحزب القومي السوري انطون سعادة والشاعر الرسولي الذي يستأنف"دعوة القديس بولس الى التجدد"، بل ان"ملامح الانسان كما تتجلى في فكر يوسف الخال تطابق تماماً معطيات الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد...". غير ان هذا التوصيف التبجيلي، الذي يمكن توطيده بتوصيف آخر يفوقه إكباراً، يطرح سؤالين مشروعين: أولهما: هل يمكن تصور هالة مجلة"شعر"بمعزل عن حضور أدونيس فيها؟ وثانيهما: إذا كان يوسف الخال رائداً من رواد الحداثة الشعرية، فهل في شعره ما يضعه موضوعياً الى جانب مبدعين، آخرين مثل سعيد عقل والماغوط وأدونيس وغيرهم؟ الجواب عن السؤال واضح ومبرّأ من الالتباس، وجواب السؤال الثاني لا يحتاج الى اجتهاد كبير، ذلك ان يوسف الخال كان الشاعر الذي أصبحه، بعد أن اكتسحه التشاؤم وخيبة الأمل. كأن جاك أماتاييس أراد تكريم مجلة"شعر"وهو يكرّم أحد مؤسسيها، ناسياً، ربما، ان المكرّم الأساس هو شخص آخر. تنتهي مجلة شعر، في الحالين، الى أدونيس، طالما ان صوتها الواسع من صوته، وأن الذين استهلوا إبداعهم فيها تابعوا الابداع فرادى. لن تكون المجلة، والحالة هذه، إلا مرآة يقرأ الباحث فيها نصوص الشاعر اللاحقة عن الحداثة والإبداع، التي أذاعها في"الثابت والمتحوّل"في أجزائه الثلاثة، وكتب أخرى مثل:"زمن الشعر"و"الصوفية والسريالية"و"النظام والكلام". لا تقصد السطور السابقة الى التهوين من شأن مجلة"شعر"، فقد طرحت أسئلة جادة ومجددة وجابهت الصيغ الايديولوجية التبسيطية، ولا المسّ بقيمة يوسف الخال، الذي أراد للفكر والعقل العربيين أن يتحررا من استبداد البديهيات، كما لا تنشد ثناء على أدونيس، هو ليس بحاجة اليه. فالأمر كله يدور حول"قوة المتكلم"، أو حول"ضعف المتلقي"، ذلك ان نزاهة البحث النظري لا تقبل بمساواة الحداثة الشعرية العربية بمجلة إشكالية عاشت عقداً من الزمن، شكّلت موضوعياً حلقة من حلقات التجديد الشعري العربي، الذي دعا اليه العقاد والمازني مرة، واجتهد فيه جبران وميخائيل نعيمة وشعراء المهجر مرة أخرى، وأسهمت فيه الحداثة الشعرية العراقية ومجلة الأديب والآداب اللبنانيتان، قبل أن يرفده محمود درويش برافد خصيب. لا حداثة إلا بعناصر حداثية سبقتها، ولا حداثة بصيغة المفرد، لأن الحديث الحقيقي يحيل على الجمع ويصدر عنه في آن معاً.