البحر المتوسط بالنسبة الى مصر يعني "الاتجاه شمالاً" يعني "أوروبا". وأوروبا لها معان متعددة ليس في مصر فحسب، بل في كل دول شمال أفريقيا والعالم الثالث، فهي تعني "الاستعمار" و"الازدهار" وتعني "الانكسار" و"الانتصار" كما تعني "الماضي" و"المستقبل" .. ولهذا لم يكن هناك سياسة ثابتة في التعامل مع أوروبا عبر البحر المتوسط، فهي كالبحر بين مد وجزر. بل أن الاتجاه الرئيس في السياسة الخارجية المصرية يتقلب بين اتجاهين هما: التوجه المتوسطي والتوجه المشرقي. ومن الجلي أن هذا التقلب لم ينته، بل ظل هو المحور لكل ما دار من مناقشات ومناظرات. فدارت أسئلة، مثل: أعرب نحن أم متوسطيون؟ أيهما أقرب الى العقل المصري، أهو العقل الأوروبي أم العقل الشرقي؟ وكان دائماً جوهر معضلة التحديث في مصر هو كيف نأخذ ما لدى أوروبا من تطور، ولكن مع المحافظة على هويتنا؟، كيف نقتبس من ثقافة أوروبا وعلمها وتقدمها من دون أن نفقد جذورنا؟ برز التوجه المتوسطي في مصر حينما أتى الأغريق إليها عام 332 ق.م وتم تعزيزه من خلال الهيمنة الرومانية على مصر. ولمدة ألف عام ظلت مصر تتفاعل مع القوى المتوسطية ممثلة في الأغريق والرومان. وعندما فتح العرب مصر عام 641 جاء الفتح بديانة وثقافة ولغة جديدة، وتحولت مصر شيئاً فشيئاً لتصبح هويتها عربية، وقطعت علاقاتها مع المتوسط طيلة 300 عام تقريباً. غير أنه مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، والتي كان لها معان ثقافية بعيدة المدى، وما أعقب ذلك من إرسال محمد علي بعثات إلى أوروبا كمقدمة لبناء دولة مصرية حديثة محتذياً بالنموذج الأوروبي العصري، بدأ التوجه المتوسطي يعاود الظهور في سياسة مصر الخارجية. وكان طه حسين من أوائل الذين تناولوا موضوع "التوجه المتوسطي في الفكر السياسي المصري" في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1937، حيث رأى في المتوسطية المدخل الملائم للتحديث السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. كما أنه أراد أن يتخلص المصريون من عقد النقص والشعور بالدونية في تعاملهم مع الآخر الأوروبي، وأن يتم التفاعل معه من موقع الندية والتكافؤ. ومن ثم أصبح طه حسين يطلق عليها اسم المبشر بالمتوسطية فاتحة لمدرسة ليبرالية كاملة من المتأثرين بانتماء مصر الى البحر المتوسط وجزء من حضارته، وأكمل المشوار من بعده توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض وحسين مؤنس. وفي أعقاب ثورة تموز يوليو 1952، اختار الرئيس جمال عبدالناصر الانحياز بوضوح الى التوجه المشرقي في سياسة مصر الخارجية، وذلك على حساب التوجه المتوسطي لمصر. ففي كتابه "فلسفة الثورة"، يعبر عبدالناصر عن تصوره لدوائر السياسة الخارجية المصرية، فيحددها في ثلاث دوائر بالأساس، هي بالترتيب، العربية، الأفريقية، الإسلامية. وبالتالي لم يحظ "البعد الأوروبي - المتوسطي" بأهمية كبيرة في أولويات السياسة الخارجية المصرية، ويرجع ذلك إلى اعتبارين أساسيين: أولهما، ما ينطوي عليه ذلك من تناقض مع التوجه الخارجي لمصر في تلك الفترة، كعضو مؤسس لحركة عدم الانحياز، ومناصر لحركات التحرر الوطني في مواجهة الدول الأوروبية الاستعمارية. ثانيهما، يتعلق بتوجهات السياسة الداخلية المصرية في تلك الفترة والتي غلب عليها التوجه الاشتراكي أيديولوجياً، والأخذ بنظام الحزب الواحد سياسياً، والتأميم اقتصادياً، وكل هذه التوجهات لا تتسق مع القيم المتوسطية - الأوروبية من رأسمالية وليبرالية. ومع مجيء الرئيس أنور السادات، قدم الأخير مشروعاً جديداً، يختلف جذرياً عن المشروع الناصري. وتأسس المشروع حول قيم التحرر الاقتصادي والتعددية السياسية المقيدة على المستوى القطري، وعلى المستوى الإقليمي تراجعت الدائرة العربية ودور مصر القيادي فيها لمصلحة السلام مع إسرائيل، وعلى المستوى الدولي أنهى السادات الوجود السوفياتي في مصر وأقام تقارباً كثيفاً وشاملاً مع الولاياتالمتحدة "لأنها تملك 99 في المئة من أوراق اللعبة". ومع التغير الذي طرأ على التوجه الخارجي لمصر حينذاك، والاتجاه نحو الغرب، بدأت تظهر بواكير الاهتمام المصري بالبعد الأوروبي - المتوسطي، منذ توقيع مصر مع الجماعة الأوروبية في 18 كانون الثاني يناير 1977 اتفاق التعاون الشامل الذي يحكم العلاقات بينهما، ومثل الاتفاق إطاراً عاماً للتعاون بين الجانبين في مجالين أساسيين، الأول هو التبادل التجاري. وتمثل الجانب الثاني في التعاون المالي، بهدف دعم الجهود المصرية للتنمية، سواء في شكل منح أو قروض. وعلى رغم ذلك فإن مصر لم تبلور سياسة متوسطية فاعلة خلال السبعينات والثمانينات، لأن أوروبا لم تمثل لها بديلاً مناسباً وفاعلاً مقارنة مع الولاياتالمتحدة في القضية الفلسطينية، وفي الدعم الاقتصادي والعسكري، وفي التحرك على المستويين الإقليمي والدولي. ومع بداية عقد التسعينات استطاع الرئيس حسني مبارك أن يوظف المتغيرات الإقليمية والدولية لخدمة الدور المصري في البحر المتوسط، خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية صراع القطبين وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام. فكانت مبادرته في خطابه أمام الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا في ستراسبورغ في 20 تشرين الثاني نوفمبر 1991 لإنشاء منتدىForum التعاون المتوسطي وإنشاء منطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط. غير أن المنتدى، على أهميته، ظل ذا فعالية محدودة من حيث نتائجه إلى أن جاء مؤتمر برشلونة الذي يعتبر الأساس الذي انطلقت على أساسه المشاركة الأوروبية المتوسطية، كخطوة مهمة نحو إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم تضم نحو 30 - 40 دولة، وحوالى 600 - 800 مليون نسمة عام 2010 كهدف يتحقق على المدى الطويل بين الاتحاد الاوروبي ودول جنوب وشرق المتوسط. المتوسطية بهذا المعنى تستند إلى وجود إرادة سياسية لدى دول البحر المتوسط، لتشكيل تجمع فعال، يرتكز على أسس محددة، ذات طابع اقتصادي وسياسي وثقافي وأمني، تتحرك نحو إطار أشبه بإطار هلسنكي الأوروبي، ويتم بناؤها استناداً الى اتفاقات مشاركة والتزامات تعاقدية ونقاش جاد حول كل القضايا التي تهم دول البحر المتوسط، أو يتم التفاعل بين أطرافها في شكل سلس أو يتوقع أن يقع إطارها مع الوقت لتضم دولاً أخرى في المنطقة لا تطل على المتوسط مباشرة وإن كانت ترتبط بالدول المطلة عليه، والإطار المتوسطي بهذا المفهوم يمثل توجها بالنسبة الى السياسة الخارجية المصرية. وعملت السياسة الخارجية المصرية في الفترة الأخيرة على تنشيط التعاون بين دول حوض المتوسط، والدعوة إلى عقد لقاءات للنقاش حول قضايا وظيفية مختلفة متصلة بالتجارة والبيئة والاتصالات، والسياسة والأمن، والحوار الثقافي وغيرها. وصرح وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في "الأهرام" القاهرية بتاريخ 20 آب أغسطس 2004: "إن العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبي ترتكز على مصالح مشتركة لحفظ الأمن وتحقيق الاستقرار في منطقتى المتوسط والشرق الأوسط، وتتفهم مصر أن الاتحاد الأوروبي يهدف إلى تأمين علامات طيبة مع الدول العربية، وهو ما نرحب به ونحن نرى في سياسة الجوار الأوروبي فرصة لتوثيق الروابط مع آليات السوق الأوروبية الموحدة، خصوصاً اجتذاب الاستثمارات وانتقال رؤوس الأموال وزيادة التجارة في السلع والخدمات وإتاحة الفرصة للعمالة المصرية للعمل في شكل شرعي في دول الاتحاد وفقاً لاحتياجات كل دولة". والحقيقة ان مصر تتفاعل تجارياً بالأساس مع أوروبا وأميركا، كذلك الحال بالنسبة الى المال والمعونات والاستثمار، وحتى الأمن ومصادر السلاح، ومصادر المعرفة والمعلومات، وتدريب الطلاب والنخبة المصرية تكنولوجيا كله يأتي أساساً من الغرب وفي الغرب. وفوق ذلك فإن أكثر المشاريع المصرية طموحاً للاندماج الاقتصادي تحدث الآن مع أوروبا، التي تقوم بالاتفاق على تحديث الصناعة المصرية، بينما تقف المشاريع الأخرى مع الدول العربية وأفريقيا "محلك سر"، او لم ينجز منها سوى القليل. فلم يكن اختيار دوائر الحركة الخارجية لمصر عفوياً، وإنما ارتبط أساساً بتعريف مصر والمصريين لما يعتبرونه ذاتيتهم الثقافية والحضارية والجغرافية. ولكن هذه الهوية ليست معلقة في الهواء، وإنما ترتبط بشبكة مؤسسية هائلة مترجمة في جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكل منها ترتب عليه اتفاقيات ومعاهدات كثيرة. ولكل ذلك جانب واحد من الصورة، أما الجانب الآخر والأكثر عمقاً، فهو شكل التفاعلات المصرية الخارجية التي نجدها من ناحية تقع في إطار الدائرة المتوسطية والدائرة الأميركية، ومن ناحية أخرى تقع في إطار العولمة المجسدة في حركة السياحة الدولية ومنظمة التجارة العالمية وتدفقات رأس المال. كما أن الطرف الأوروبي يتوافر فيه عدد من المقومات تعطيه الأولوية في علاقات مصر الاقتصادية الخارجية من حيث كونه أكبر شريك تجاري لمصر. فضلاً عن كونه أكبر وانجح تجمع اقتصادي في العالم. ناهيك عن قربه الجغرافي الذي يمثل أحد العناصر الرئيسية في نجاح التكامل الاقتصادي وفاعليته. لقد احتدم الجدل في مصر، حول أفضل الترتيبات الإقليمية التي تتجاوز "الفضاء الاقتصادي العربي" في ظل التطورات الإقليمية والعالمية الجديدة. ويحضرني في هذا الصدد المفاضلة بين المشروع "الشرق أوسطي" والمشروع "الأورو متوسطي"، إذ تقضي الترتيبات في إطار كلا المشروعين إلى خلق "فضاء اقتصادي" Economic Space جديد يضم عدداً من البلدان العربية، ويفضي إلى قيام منطقة للتبادل التجاري في غضون عام 2010. إن المشروعين يعبران عن تطورات راهنة في هيكل النظام الدولي نحو تعدد الأقطاب، وبمقتضاها فإن اتجاه أوروبا إلى مزيد من التكامل والوحدة يجعل منها قطباً منافساً للولايات المتحدة. ومن ثم فإن كلاً من المشروعين هو أحد التعبيرات المعاصرة للتنافس بين أوروبا الموحدة والولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، على أساس أن "الشرق أوسطية" مشروع أميركي - إسرائيلي و"المتوسطية" مشروع أوروبي. ويسعى كل من المشروعين إلى إدماج إسرائيل في دول المنطقة من خلال إطار أوسع، ثم إعطائها الشرعية في الوجود والبقاء من خلال علاقات متعددة مع الدول العربية المتصارعة معها. وبينما يقوم المشروع الشرق أوسطي على مركزية الدور الإسرائيلي في النظام الإقليمي، فإن المشروع المتوسطي، فضلاً عن إعطائه قدراً من المشروعية للفكرة العربية، فإنه لا يسعى إلى هذه المكانة المركزية لإسرائيل، وإنما يجعلها خاضعة للقواعد والأسس نفسها التي تخضع لها بقية الدول المساهمة في المشاركة. فالمتوسطية تتعامل مع إسرائيل باعتبارها دولة عادية لا تختلف عن إحدى دول جنوب أوروبا الصغيرة لا تتمتع بأي استثناء ولا مجال لأي ازدواج في معايير التكامل، وان دخولها في إطار يضم المجموعة الأوروبية فضلاً عن الدول العربية، لن يسمح لإسرائيل بأن تتجاوز حجمها الطبيعي أو القيام بدور لا يتناسب مع حقيقة قدراتها الذاتية. كما أن المشروع المتوسطي لا يستند الى طمس هوية الأعضاء أو تفكيك كياناتهم القومية، فهو لا يتعارض كلية مع الهوية العربية - الإسلامية، ويدعو إلى الحوار بين الثقافات والأديان المختلفة لشعوب حوض البحر المتوسط. كما أن مجالات التعاون التي يستهدفها المشروع المتوسطي ليست مقصورة على التعاون الاقتصادي كما هو الوضع بالنسبة للمشروع الشرق أوسطي وإنما تتضمن كذلك المجالات السياسية والأمنية والثقافية والاجتماعية، فضلاً عن العديد من المفاهيم المعاصرة في شأن الاقتصاد الحر والدىموقراطية وحقوق الإنسان والالتزام بالقوانين الدولية، وحل المنازعات بالطرق السلمية، ونبذ استخدام القوة. علاوة على ذلك، فالمتوسطية من شأنها تدعيم التحول نحو الدىموقراطية واحترام حقوق الإنسان، لأن صيغة برشلونة تنطوي على تركيز خاص على هاتين المسألتين، الأمر الذي يكسب المشروع قوة، ويمنحه قبولاً شعبياً واسع النطاق. كما أن المشاركة المصرية الأوروبية ستعزز فرص الاستثمار المباشر في مجال التكنولوجيا من خلال المساعدة في تأسيس المراكز والمعاهد العلمية والتكنولوجية وتدريب العلماء في مواقع إنتاج وبحث وتطوير أوروبية. ومن هنا أضم صوتي مع نخبة من المثقفين والمفكرين والباحثين الذين يدعون لإنشاء مركز علمي يعنى برسم استراتيجية اقليمية لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا . وأؤكد أن تبني مصر للمتوسطية كدائرة حركة خارجية هو تطبيق لنظرية "تقاطع الدوائر" وعدم تعارضها، ويعكس هذا التوجه "خياراً استراتيجياً" أكثر مما ينسج "حلماً عاطفياً" ويطرح فرصاً أكثر مما يحمل مخاطر... ومن ثم هل ستصبح المتوسطية هي "دائرة المستقبل"؟ * كاتبة مصرية. عضو البرلمان المصري سابقاً، وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة.