على رغم كثافة الاتصالات العربية - الأوروبية عموماً، وبين الدول العربية المطلة على البحر المتوسط والاتحاد الأوروبي خصوصاً، ما زال مستقبل العلاقات بين الطرفين بعيداً من الوضوح وبالذات في أبعاده السياسية والأمنية. فبعد أكثر من ربع قرن على بدء أول حوار عربي - أوروبي لم يختلف الحال كثيراً عما كان عليه عقب حرب 1973 التي أبرزت أهمية ذلك الحوار. واليوم، وفي غمرة إتصالات مكثفة انتهت إحدى جولاتها في برشلونة أخيراً وستعقد التالية منها في مرسيليا بعد ثلاثة شهور، يتضح أن العرب والأوروبيين في أشد الحاجة إلى حوار حقيقي. فالحوار الذي بدأ في منتصف السبعينات لم يكتمل. وما زال الطابع الغالب على العلاقات متأثراً بأوجه القصور التي عانى منها، وأهمها غلبة القضايا الاقتصادية على القضايا السياسية والأمنية. الفجوة صحيح أن التغيرات العالمية التي تسارعت منذ أواخر الثمانينات أدت إلى حضور أكثر للقضايا السياسية والأمنية، ولكن ما زال حضورها أقل من أن يمثل نقطة تحول في مسار العلاقات العربية - الأوروبية في عصر ما بعد الحرب الباردة. كما أن محدودية الحوار حولها حالت دون تضييق الفجوة بين الرؤى العربية والأوروبية تجاه أهم هذه القضايا، وخصوصاً عملية السلام العربية - الإسرائيلية وما يرتبط بها من قضايا أمنية واستراتيجية، وكذلك بعض القضايا المتعلقة بالأمن في البحر المتوسط. وترتبط الفجوة في الرؤى أيضاً بالصعوبات التي واجهت إجراء حوار جماعي منذ البداية بسبب الانقسامات العربية في المقام الأول. فقد كانت السياسات العربية هي المسؤولة أساساً عن إضعاف فرصة الحوار الجماعي، مثلما كانت السياسات الأوروبية مسؤولة أكثر عن تغليب القضايا الاقتصادية منذ البداية كنتاج لما أطلق عليه الصدمة النفطية عام 1973. وما زال الطابع الجماعي للحوار مفتقداً، وكرّسه وجود إطار متوسطي عملية برشلونة يجمع الدول الأوروبية مع ثماني دول عربية فقط، وهي معظم الدول العربية المطلة على البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه تأخذ العلاقات الأوروبية مع دول الخليج العربية مسارات أخرى مختلفة. كما ظل الطابع الاقتصادي غالباً على العلاقات على رغم زيادة مساحة القضايا السياسية والأمنية فيها بفعل التغيرات العالمية، فضلاً عن التغيرات الاقليمية في الشرق الأوسط وعلى رأسها تطورات عملية السلام، وكذلك التطور الذي حدث في الجماعة الأوروبية نفسها وساهم في صوغ سياسة أوروبية أكثر شمولاً. ويبدو أن تطور العلاقات العربية - الأوروبية نفسها - من علاقات قائمة على التعاون وتغلب عليها المساعدات الى علاقات تقوم على المشاركة Partnership - أدى إلى تأكيد غلبة الطابع الاقتصادي. صحيح أن وثيقة برشلونة تضمنت ثلاثة مجالات للمشاركة، هي المشاركة في السياسة والأمن، والمشاركة الاقتصادية والمالية، والمشاركة في الشؤون الاجتماعية والثقافية والإنسانية، ولكن الاهتمام الأكبر لا يزال مركزاً على المشاركة الاقتصادية والمالية أكثر من غيرها. ويعتبر ضعف الاهتمام بالقضايا السياسية والأمنية واستمرار الخلاف حول أهم هذه القضايا هما العاملان الأساسيان اللذان يفسران محدودية المساحة التي تحظى بهذا هذه القضايا في العلاقات العربية - الأوروبية مقارنة بالقضايا الاقتصادية. جهد مفقود وهناك ارتباط وثيق بين قلة الاهتمام واستمرار الخلاف لأن حل خلافات متراكمة تاريخياً يحتاج إلى جهد كبير وبالتالي الى مزيد من الاهتمام. ولا ينبغي أن ننظر إلى ضعف الاهتمام نسبياً بالقضايا السياسية والأمنية على أنه ناتج عن تقصير الدول العربية والأوروبية أو إلى خلل في العلاقات أو إلى سوء إدراك. فهناك عوامل موضوعية تفسر ذلك، وأهمها الحاح القضايا الاقتصادية مقارنة بالقضايا السياسية والأمنية. فالمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الدول العربية سواء الاعضاء في عملية برشلونة، أو غيرها، تفرض أولوية هذه القضايا. والتطورات الاقتصادية والتجارية العالمية تزيد قلق هذه الدول على موقعها في النظام الاقتصادي العالمي وتحتاج إلى جهد هائل للتكيف مع هذه التطورات سعياً إلى عدم اتساع الفجوة مع الدول المتقدمة. كما أن الدول الأوروبية ليست أقل قلقاً على الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول العربية، وخصوصاً الدول التي تمثل مصدراً أساسياً للهجرة وهي دول غرب المتوسط. وهذا يفسر جزئياً استمرار تركيز الدول الأوروبية على الأبعاد الاقتصادية لعلاقاتها مع الدول الأوروبية. أما الجزء الآخر من التفسير يمكن أن نجده في وضع مفروض على الدول الأوروبية، والعربية أيضاً، نتيجة تهميش دور أوروبا في عملية السلام بين العرب وإسرائيل. فقد عملت إسرائيل، ومعها الولاياتالمتحدة، على إبعاد أوروبا عن أي دور فاعل في هذه العملية، ولذلك لم يكن أمام الاتحاد الأوروبي غير خيارين اثنين. وهما إما الانضمام الى الجهود الأميركية من موقع التبعية لها، أو البقاء على الهامش. وأدى ذلك الى صعوبة سد الفجوة بين المواقف العربية والأوروبية. فقد تقلصت هذه الفجوة نسبياً، ولكنها ما زالت قائمة. فعلى صعيد عملية السلام العربية - الإسرائيلية، حرصت أوروبا على استقلال إعلان برشلونة والمشاركة الأوروبية المتوسطية عن التطورات الحاصلة على ساحة الصراع العربي - الإسرائيلي وعملية السلام. وترى الدول العربية، على العكس، أن التزام إسرائيل بتحقيق سلام عادل يكفل إعطاء قوة دفع كبيرة للعلاقات العربية - الأوروبية عموماً والمشاركة الأوروبية - المتوسطية خصوصاً. غير أن القسم الخاص بالمشاركة السياسية والأمنية في إعلان برشلونة جاء مجسداً لوجهة النظر الأوروبية أكثر من العربية. فقد اتسم بعمومية شديدة واقتصر على تأكيد مبادئ تسوية الخلافات بالوسائل السلمية وتجنب التهديد أو الاستيلاء على الأراضي بالقوة وتشجيع الأمن الاقليمي والسعي الى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من اسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها. ولذلك فإن الإعلان ينصب في هذا المجال على المستقبل أكثر من الحاضر، بينما ترى الدول العربية أن المستقبل يتوقف على التوصل الى سلام عادل يتضمن تخلي إسرائيل عن قوتها النووية. وأنه من دون ذلك سيظل المستقبل غامضاً، وستبقى منطقة الشرق الأوسط مصدر تهديد للأمن الأوروبي نفسه. غير أن التوجه الأوروبي السائد لا يعطي اهتماماً كبيراً لهذا الموقف كما يتضح في المشروع الأوروبي لميثاق الاستقرار والأمن الذي قدمته ألمانيا في الاجتماع الوزاري لدول إعلان برشلونة في شتوتغارت في نيسان ابريل 1999. فالمشروع يركز على منع وتجنب النزاعات - أي على المستقبل - أكثر مما يهتم بتسوية النزاعات الراهنة. كما أن المشروع يعطي وزناً كبيراً لمنهج بناء الثقة. ولكن فاعلية هذا المنهج تتوقف على تحقيق السلام أولاً، أي على حل النزاعات الراهنة حلاً مرضياً لجميع أطرافها. وبهذا المعنى، فإن بناء الثقة كما ورد في المشروع هو وسيلة لتجنب نزاعات مستقبلية أكثر منه أداة لحل نزاعات راهنة. ومع ذلك فمن مزايا هذا المشروع أنه يهتم بالعناصر الداخلية للأمن الاقليمي مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية ومواجهة الإرهاب. ولكن هذه العناصر الداخلية لا تكفي وحدها. ومن الضروري أن تقترن بموقف واضح تجاه أسس السلام والأمن الاقليمي. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إذا بقي الاتحاد الأوروبي مصراً على الفصل بين المشاركة الأوروبية - المتوسطية وبين عملية السلام، أو الفصل بين إطار برشلونة 1995 وركائز موتمر مدريد 1991. أمن جهة واحدة وتشمل الفجوة بين العرب والأوروبيين قضايا استراتيجية وأمنية مثل التحركات العسكرية لبعض الدول الأوروبية في منطقة البحر المتوسط. والمثال البارز عليها إنشاء قوات أوروفور في تشرين الثاني نوفمبر 1996 بشكل مفاجئ من 10 آلاف مقاتل، إزداد عددهم بعد ذلك، ووضعها تحت رئاسة أركان عامة موحدة. فقد حدث هذا التطور من دون أي تشاور مع الدول العربية. ما أثار قلقاً حول المسؤولية المشتركة في حفظ السلام والأمن على جانب المتوسط. فكيف يجوز الحديث عن مشاركة في مجال الأمن بينما تقوم دول أوروبية منفردة بهذه المسؤولية. فهذه المشاركة تقتضي في الحد الأدنى أن تأخذ في الاعتبار وجهات نظر الدول العربية عند صوغ السياسات الأمنية الأوروبية في منطقة المتوسط، كما قال وزير خارجية مصر عمرو موسى في ندوة الحوار العربي - الأوروبي في إيطاليا العام 1998. فالترتيبات والتحركات العسكرية المنفردة لا تنسجم بل تتناقض مع مفهوم المشاركة الأمنية. فهذه المشاركة تفترض اتفاقاً على مرجعية أي ترتيبات عسكرية حيث تكون متوافقة مع الاحتياجات الأمنية للدول العربية. فالمشاركة الأمنية تعني أمناً متبادلاً يتم التوافق عليه ولا يفرضه طرف على آخر. وواضح أن قلة الحوار حول القضايا الأمنية أدت إلى توسيع الفجوة بين العرب والأوروبيين، بل وزادت أيضاً الى تباين في اهتمام الدول الأوروبية بقضايا أمن البحر المتوسط. وتدل خبرة تأسيس أوروفور على أن حساسية دول جنوب أوروبا للأمن أكثر من غيرها. فقد تشكلت هذه القوات من فرنساوإيطاليا واسبانيا والبرتغال فقط. وواضح أن أولويات هذه الدول من الناحية الأمنية تختلف عن أولويات دول أوروبية أخرى. ولو كان هناك حوار عربي - أوروبي مكثف حول قضايا الأمن لما وجدنا هذه الفجوات بين الفريقين من ناحية وداخل كل فريق من ناحية أخرى. وتمتد الفجوة الى قضايا مثل كثرة وجود الاساطيل العسكرية في البحر المتوسط، وبخاصة الاساطيل التابعة لدول غير متوسطية على رغم إنتهاء الحرب الباردة وغياب التهديد السوفياتي والتحول الذي حدث في النظام العالمي. وترى الدول الأوروبية أن وجود هذه الاساطيل أمر طبيعي لا غبار عليه، بل وأمر ضروري أيضاً. بينما ترى بعض الدول العربية أنه لم يعد هناك تهديد يتطلب هذا الوجود العسكري الضخم، وتطالب بتقليصه كخطوة ضرورية لتشجيع التعاون وإثبات حسن النيات. كما تمثل قضية الهجرة أحد أهم التحديات أمام العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول البحر المتوسط غير الأعضاء فيه، وبخاصة الدول العربية غرب هذا البحر. فقد زادت الهجرة، وأدت الى تفاقم المشكلات المرتبطة بها. وبعض هذه المشكلات أمني ويتعلق بالاستقرار السياسي. كما أن بعضها الآخر اقتصادي. وتم تسييس قضية الهجرة التي أخذت طريقها تدريجاً الى قمة أولويات بعض دول الاتحاد الأوروبي في السنوات العشر الأخيرة على الأقل. ومن الطبيعي أن تختلف وجهات نظر الدول المستقبلة للهجرة عن الدول المرسلة لها. ويبدو الخلاف في معظم الأحيان كما لو كان يصعب الوصول إلى حل له من دون النفاذ الى جذور المشكلة، أي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول المرسلة. ويزيد من هذه المشكلة أيضاً تزايد الهجرة من دول شرق أوروبا ووسطها الى دول الاتحاد الأوروبي. وحتى قضية الإرهاب التي كان مفترضاً أن تصبح أكثر قضايا التعاون والتنسيق بين دول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية تباعدت المواقف في شأنها، كما حدث مثلاً بين فرنساوالجزائر، وبدرجة أقل بين بريطانيا ومصر. وتتعدد أسباب التباعد الذي يرجع أحياناً إلى عدم ارتياح دولة أوروبية فرنسا لطريقة دولة عربية الجزائر في التعامل مع الإرهاب. كما قد يرجع التباعد إلى عدم ارتياح دولة عربية مصر لموقف دولة أوروبية بريطانيا إزاء أشخاص متهمين بممارسة الإرهاب ويتمتعون بلجوء سياسي في لندن. عندما بتراجع الارهاب وعموماً فقد حدث تراجع ملموس في نشاط الإرهاب الأصولي في العامين الأخيرين. بعد أن كان البحر المتوسط أكثر مناطق العالم تأثراً بهذا النشاط. وسجل تقرير الخارجية الأميركية عن الإرهاب في العالم، والذي صدر في أول آيار مايو الماضي، هذا التراجع، ومع ذلك يظل من الضروري تطوير سياسات للتعاون والتنسيق في مواجهة الإرهاب تسعى إلى محاصرته وتجنب تصاعده مرة أخرى. وأخيراً، تحتاج هذه القضايا كلها وغيرها الى حوار جاد وطويل المدى سواء في إطار برشلونة وغيره من الترتيبات المتوسطية أو خارج هذا الإطار. ويقتضي ذلك تأسيس منتدى للحوار العربي - الأوروبي يضم مسؤولين رسميين وأكاديميين، ووضع جدول أعمال طموح لهذا المنتدى بهدف إيجاد حلول وسط أو أطروحات توفيقية بين وجهات النظر المختلفة حول القضايا السياسية والأمنية. ويمكن أن يكون القسم الخاص بالمشاركة السياسية والأمنية في إعلان برشلونة مرشداً لهذا الحوار أو محدداً للأسس التي يستند عليها، ولكن ينبغي أن يكون ضمن هذه الأسس المحددات المتعارف عليها لنجاح أي حوار مثل أن يلبي مصالح مشتركة أو متبادلة، وأن يسعى إلى تعظيم المنافع أو تقليص الاضرار أو تبادل الخبرات، وأن يبتعد عن الضغط أو الإكراه. * كاتب مصري. رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي" - القاهرة.