تتنازع الاتحاد الأوروبي اليوم، على ما ظهر في مناقشات المجلس الأوروبي في نيس الفرنسية 7- 11 كانون الأول/ ديسمبر، نوازع مختلفة ومتضاربة يضطلع فيها "الجنوب" المتوسطي بدور بارز، الى دور الشرق الأوروبي. فمن الدول المرشحة للعضوية ثلاث متوسطية هي مالطا وقبرص وتركيا. وتدخل مالطا وقبرص في عداد الأعضاء الذين يحق لهم المطالبة بصوت "فيديرالي" يساوي الصوت الألماني. وثمة بين الدول الاتحادية ثلاث دول تستفيد من المساعدات الخاصة للبلدان "الفقيرة" وهي إسبانيا واليونان والبورتغال. والدولتان الأولان متوسطيتان. وتعول تركيا، المتوسطية، على أداء دور عسكري بارز في قوة التدخل السريع المزمعة. وكان على هذه الدول، على رغم مشكلاتها، أن تمثل "أوروبا" في دورة الشراكة الأوروبية والمتوسطية بمرسيليا وتحكِّم في مشكلات الشراكة الكثيرة. وأظهر انعقاد مؤتمر الشراكة الأوروبية والمتوسطية الرابع بمرسيليا، في 15 و16 تشرين الثاني نوفمبر، ومؤتمر المنظمات غير الحكومية قبله، في 10 - 12 من الشهر نفسه، الفرق الكبير في تناول طرفي الشراكة، أو جهتيها، دور هذه العلاقة والمهمة المنوطة بها. وينيط الأوروبيون، وهم الخمس عشرة دولة "الاتحادية" بالشراكة التمهيدَ، طوال عقد ونصف العقد 1995 - 2010، لقيام إطار سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي متصل لا تقطِّعه الحواجز الجمركية والتشريعية والحقوقية. ويميل المتوسطيون، وهم إحدى عشرة دولة عربية والدولة العبرية الى التوسل بالرغبة الأوروبية في الاضطلاع بدور سياسي واستراتيجي في "البحر الداخلي" إلى حمل شركائهم المفترضين على ترجيح كفتهم في المسائل السياسية الحادة التي تتصدرها العلاقات والخلافات العربية والاسرائيلية. وكان مؤتمر برشلونة ابتدأ الشراكة هذه قبل خمسة أعوام، غداة توقيع اتفاق أوسلو في أواخر 1993، واتفاق وادي عربة في 1994. وعقد في الأثناء مؤتمران اقتصاديان "شرق أوسطيان" أُوكل إليهما ترجمة السلام السياسي، وخطواته التي بدت حثيثة، الى علاقات اقتصادية عاجلة تفيد منها الأطراف المتعاقدة، وتلك التي توشك على التعاقد. ووجدت الدول العربية المترددة، أو المحجمة عن مباشرة علاقات اقتصادية باسرائيل، وبقوى اقتصادية كبيرة تشترط "تحرير" التجارة والخدمات والانتاج من حماية ورعاية مكبِّلتين، وجدت في التوسط الأوروبي المتأني والرفيق، وفي المساعدات الأوروبية وقاية من شرق أوسط لم تشك الدول العربية الخائفة لا في خبث نواياه، ولا في جرِّه عليها، جراء التفاوت العظيم بين اقتصاداتها وبين الاقتصاد الاسرائيلي، دماراً محققاً. ولم يغفل الشريك الأوروبي عن العلاقة الوثيقة بين ظروف عقد شراكته مع الدول الاثنتي عشرة المتوسطية، وهي ظروف لحمتها وسداها التعويل على فرص السلام بين طرفي النزاع العربي والاسرائيلي، وبين قيام الشراكة نفسها أولاً، ثم تمكينها من إنجاز ما يناط بها من توحيد معايير التبادل والإجماع عليها. ولكن مطامح الشريك الأوروبي كانت أبعد وأبقى وأوسع من الإسهام الظرفي في "عملية" تتولى السياسة الأميركية قيادتها، وتنسيق خطواتها، وصوغ عناصرها. وتتولى السياسة الأميركية ما تتولاه من عملية السلام في ضوء مصالح وطنية، أي أميركية "حيوية". وليس بين المصالح هذه لا روابط التاريخ المتوسطي المشترك بين جهتي المتوسط وجروحه، ولا الجوار القريب وما يترتب عليه من هجرات أهلية واسعة وهجرة يد عاملة في اتجاه واحد، ومن يسر تبادل السلع والخبرات والتشابه في انتاج بعض السلع الزراعية على وجه الخصوص. وعلى هذا نبه بعض الباحثين الجامعيين الأوروبيين في مجتمعات الشرقين الأدنى والأوسط على عمق النتائج التي قد تخلفها الأزمات الاجتماعية والسياسية، على ضفتي المتوسط الشرقية والجنوبية المشرق والمغرب العربيان، في المجتمعات والدول الأوروبية. فاندماج السكان المتوسطيي الأصول، من مهاجرين وأبناء مهاجرين، في المجتمعات والدول هذه، اندماجاً فاعلاً ومطْمئناً رهن برسو العلاقات بين مجتمعات ضفاف المتوسط ودولها على صيغة خلو من الثارات والضغائن، ويغلب عليها تعاون مجزٍ لأضعف الطرفين. أما الوجه الثاني من علاقة الجوار المتوسطية والأوروبية فهو موجات الهجرة من المجتمعات العربية، مشرقاً ومغرباً، الى غرب أوروبا وشمالها. فانفجار الأزمات السياسية والاجتماعية في هذه المجتمعات، على ما شهدت به الأزمتان اللبنانية والجزائرية وقبلهما الأزمة الفلسطينية المستمرة، باعث قوي على توجه المهاجرين، جماعات متعاظمة العدد، الى بلدان أوروبا. وتستقبل المانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا أعداداً كبيرة من المهاجرين مصدرهم تركيا وبلدان المغرب ولبنان وألبانيا. ولا شك في أن استقرار جاليات شرعية الإقامة من المهاجرين في بلدان أوروبا عامل راجح في سياسة سوق العمل، من وجه، وفي استتباب علاقات آمنة بين جاليات المهاجرين وبين المجتمعات المضيفة، من وجه آخر. ولا يخفى أن الأمن يتناول كذلك علاقات الدول والجماعات التي تتوسل بالارهاب بالدول والمجتمعات المضيفة. ولذا قضت المصالح الأوروبية "الحيوية" بتضمين الشراكة بين الضفاف المتوسطية الثلاث بنوداً سياسية علاقات جوار سلمية وسياسية مدنية وحقوقية رعاية حيوية المجتمعات المدنية والإقرار بحقوق الانسان، الى التشارك في الازدهار الاقتصادي واقتسام ثمراته. ومن الجلي أن هذه البنود لا تتفق وبعض أقوى نوازع السياسات الداخلية والاقليمية والخارجية في بعض دول الشراكة المقترحة. فالتعهد بالسعي في علاقات جوار سلمية يخالف استعمال المسألة الفلسطينية في منافسة محمومة على الصدارة العربية، ويدعو الى العودة عن ازدواج بعض السياسة الاقليمية وانقسامها الى سياسة جماهيرية وسياسة دولية. فتعلن الواحدة نقيض ما تسرّ الأخرى. ولا تتورع بعض الدول الطامحة في أدوار إقليمية عن التدخل السافر في الشؤون السيادية للدول الأخرى بذريعة دور "قومي" مزعوم. ولعل امتناع الحكومتين السورية واللبنانية عن المشاركة في مؤتمر مرسيليا، وحدهما، بعد إخفاق خمسة اجتماعات في أثناء انعقاد القمة الاسلامية بالدوحة، في بلورة اجماع على المقاطعة وتعلل الحكومتين بالحوادث الفلسطينية بينما المندوبان الفلسطينيان ينويان المشاركة - لعل الامتناع هذا، والذريعة هذه من القرائن على ضرب من استعمال المسألة الفلسطينية الاستعمالَ المزدوج والمنافي لعلاقات جوار سوية بين الدولة. وينافي تقديم الاعتبار السياسي على كل اعتبار آخر الإقرار باضطلاع المجتمعات المدنية في دول شرق البحر المتوسط وجنوبه بدور فاعل ان في إنشاء المؤسسات الاجتماعية والسياسية أو في بناء شبكات التبادل الداخلية والخارجية. فالحكومات التي تنكر على مجتمعاتها، أي على القوى الاجتماعية النشطة والفاعلة في هذه المجتمعات، الحق في صوغ اعتبارات قد تتقدم على الاعتبار السياسي والرسمي المحض، لا تنوي مغادرة حال الحرب. وقد لا تتورع هذه الحكومات عن الخروج على العهود والشرعية الدولية إذا ارتأت ان المعيار السياسي الذي تقدمه على غيره يدعوها الى الخروج هذا، أو يزين لها عائداً سياسياً و"قيادياً" عظيماً جراء خروجها. ومعظمها يضرب عن القبول بقيود حقوق الانسان على سياسته الداخلية، وعلى عمل أجهزة أمنه وقواته العسكرية وقضائه، زاعماً أن قبول هذه القيود يؤدي حتماً الى نشر الفوضى والاقتتال والفتن. أما الدعوة الأوروبية الى التشارك في الازدهار والعائد الاقتصاديين من طريق توسيع التجارة والتبادل بين دول الجنوب، وهي الدول العربية أولاً في الشراكة المقترحة، ومن طريق خصخصة أو تخصيص بعض المرافق العامة أو إدارتها إدارة عقلانية ومجزية، والاندماج تدريجاً في أطر تجارية وانتاجية ومالية متجانسة تمهيداً للدخول في العام 2010 في منظمة التجارة العالمية - فتلقى الدعوة آذاناً صماء. فالتجارة البينية لا تتجاوز 6 في المئة من حجم المبادلات الخارجية بين دول الضفتين الشرقية والجنوبية، ودون توسيعها وزيادتها حواجز جمركية وطنية تتولى حماية مواقع اجتماعية وادارية، وترعى مصالح خاصة قوية الصلة بأصحاب النفوذ، وذلك على حساب سواد الناس والمواطنين. ويُشترى رضا بعض السواد هذا من طريق إفساده وتوفير ريوع مضمونة، ولو متواضعة، لمتبطليه والمتربعين في سدة النفوذ عليه. ولا تستقيم سياسة توزيع الريوع هذه على "الكبار" و"الصغار" جميعاً لا مع الدعوة الى الخصخصة، ولا مع الحمل على العقلنة، ولا مع الحض على حماية المنافسة بواسطة سن التشريعات الواضحة وتوحيد معايير التبادل وفتح الأسواق الداخلية بوجه الاستثمارات والمعارف التقنية. والى اليوم، أي غداة خمسة أعوام على ابتداء الشراكة، اقتصر تمويل ما نفذ من المشروعات المشتركة والمقترحة على ربع الموارد التي خص بها الاتحاد الأوروبي "شركاءه" المفترضين. وما زال ينام في أدراج الاتحاد ألفا مشروع عداً ونقداً. وعشرات المشروعات التي اتفق على انجازها قبل سنتين أو ثلاث تنتظر الإقرار والإمضاء. وفي الأثناء بلغ عجز ميزان التجارة بين الجنوب المتوسطي وبين الشمال 34 بليون يورو نحو 25،29 بليون دولار اميركي لصالح الشمال، أي ضعفي ما كان عليه العجز هذا عشية الشراكة. وبعض السبب فيه هو استثناء أوروبا المنتوجات الزراعية المحلية المتوسطية من حرية المبادلة، وحمايتها فوائضها الزراعية الباهظة التكلفة. ومؤدى هذا ان برنامج المساعدات الثاني، ويبلغ في غضون نصف العقد الآتي زهاء أربعة أضعاف برنامج العقد المنصرم أي 75،12 بليون يورو، قد لا ينفق منه إلا ثُمنه. فالحق أن ذرائع الإحجام عن الدخول في الشراكة الأوروبية والمتوسطية، وذرائع دفع تبعاتها الإقليمية والداخلية السياسية والمدنية والاجتماعية، قوية ومتحكمة. فالإقبال على هذه الشراكة، وقبول تبعاتها وشروطها، مهما لانت هذه الشروط وأياً كانت السياسة الأوروبية في المسألة الفلسطينية، يفترضان قيام الشركاء المتوسطيين بخطوات واسعة وسريعة خارج دائرة الموازنات السياسية والاجتماعية التي أرستها قيادات هذه البلدان، وسوغت بها قيادة بلدانها وانقياد مجتمعاتها. والمغامرة بهذه الموازنات من أجل حفنة من اليورو، تفترض خفة لم تُعرف في أهل أحلام تزن الجبال والأطواد رزانة وأناة وثباتاً. * كاتب لبناني