أطروحة "صدام الحضارات" لماذا تحتل هذا الحيز البارز في العلاقات الدولية وتنطلق من الولاياتالمتحدة تحديداً عقب انتهاء الحرب الباردة؟... ولماذا تهتم بنشرها ومتابعتها صحيفة ذات أهمية قصوى مثل ال"فورين أفيرز" FOREIGN AFFAIRS... وما علاقة معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بهذا الموضوع الملتبس؟... الإجابة عن هذه التساؤلات الحادة في غاية البساطة لأنه يمكن اختزالها في شخصية صمويل هنتنغتون صاحب أطروحة صراع الحضارات والذي نكتفي بما قالته عنه جين كيركباتريك: كنت مثل معظم علماء السياسة الأميركية تعلمت الكثير من كتاباته. الأمر ربما كما يقول مدير تحرير مجلة "شؤون الأوسط" التي تابعت هذا الحوار: "يتعلق بأهمية المستويات الوسيطة في عملية صنع القرار في الولاياتالمتحدة، وبالتالي فإن فكرة صدام الحضارات هي بديل لمفهوم الحرب الباردة، التي انتهت أواخر عقد الثمانينات من القرن العشرين المنصرم، باعتبارها أطروحة لصوغ اطار لتبرير السياسة الأميركية المستقبلية، وتوقيتها يؤكد هذا، ومكان ظهورها يقطع أي مجال للشك، وتزامنها مع أفكار فوكوياما يكشف الهدف الحقيقي لها. وإذا كانت المسألة لا تكمن في الصياغة النظرية، فإنه يمكن القول ان الصدام الحضاري حقيقة واقعة ثبتت بالممارسة. لكن هل يسمح لنا بصياغة نظرية يمكن أن تقدم قوانين خاصة بها قادرة على تفسير الأحداث والتنبؤ وفق دالة صدق مقبولة علمياً". لقد نظر هنتنغتون الى هذا الموضوع من الزاوية التي اختارها سلفاً "وهي نقطة ضعف منهجية وقع فيها" باعتماده فرضاً وحيداً كمصدر أساسي للنزاعات المستقبلية، رأى ضرورة تعميمه لأهداف سياسية متجاهلاً على الأقل الجغرافيا السياسية بما تمثله من موضوعات ذات علاقة بمشكلة النزاعات في العلاقات الدولية في شكل عام، ليحدد مباشرة "النمط المقبل للنزاعات" في سياق تبريري يعكس الفلسفة الاجتماعية "الغائية" للنظم الرأسمالية الغربية راسماً صورة لما يجب أن يكون من خلال دعوته لتدعيم التعاون والوحدة بين أوروبا الغربية وأميركا مع دمج مجتمعات في أوروبا الشرقية اضافة الى أميركا اللاتينية. من هذه النقطة يجب أن نبدأ طرح الموضوع من الزاوية التي تتيح الرؤيا الواضحة لبعض التفاصيل التي تتطلبها الموضوعية، لئلا نقع في خطأ هنتنغتون الذي انطلق من التعميم كمسلّمة من دون مناقشة، فنحن لا نستطيع تعميم الجريمة على رغم انها ظاهرة موجودة في كل المجتمعات. أيضاً لا يمكن أن نعمم الطابع الصدامي، على كل الحضارات، فهناك حضارات ليست ذات طبيعة عدوانية، بمعنى أنها تقدس العدل ولا ترى في القوة إلا وسيلة لحماية هذا العدل، وإذا ما نظرنا الى الحضارتين الاسلامية والمسيحية باعتبارهما محور الموضوع الذي طرحه هنتنغتون وهنا يجب إضافة المعتقد اليهودي "اليهودية" الى الحضارة الغربية لما بينهما من علاقة وثيقة في المستوى العقدي مع ما يمثله من انعكاس على الثقافة الغربية لئلا نضطر الى الاقتباس للتدليل على كل فكرة على حدة... أولاً: الحضارة الاسلامية وهنا سنكتفي بإيراد بعض النقاط التي توضح الطبيعة المسالمة لهذه الحضارة: 1 - الحضارة الإسلامية الإسلام معتدى عليها وهي مستهدفة في وجودها من "المسيحية الغربية - اليهودية". 2 - حضارة الإسلام هي حضارة تسامح تقدس العدل وتدعو اليه حيث لا نجد عقيدة سواها تعترف بجميع الأنبياء. فالإيمان بالأنبياء والرسل والكتب السماوية، ركن من أركان الإيمان في الإسلام، وبالتالي فهي خاصية تميزها عن جميع المعتقدات، حتى انها تنظر الى بعض المعتقدات غير اليهودية وغير المسيحية الغربية بالشبهة على أنها قد تكون في أصلها معتقدات سماوية، وهو ما وفر لها تحقق شرط موضوعي للحوار غير متوافر في غيرها من العقائد. 3 - حضارة تنظر الى القوة على أنها وسيلة لا غاية تقدسها لذاتها بعكس العدل الذي هو غاية في حد ذاته وبالتالي فهي ترفض الظلم والعدوان "ولا عدوان إلا على الظالمين". 4 - حضارة نصوصها مقدسة لم يلحقها تحريف أو تزوير مما يؤكد التزام أهلها بها. 5 - حضارة تعتمد احترام حق الآخر وتقر مبدأ الحوار: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم". ويكفي أن ننظر الى وصية أبي بكر الصديق لجيش أسامة وهو يقول أيها الناس أوصيكم بعشر فاحفظوها: "لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا وتمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بعيراً إلا لمأكله - ستمرون بأقوام فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". وهذا كتاب عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص يقول: "ونح منازلهم وجنودك عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحد من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة". وهذا عمر بن عبدالعزيز يكتب الى سليمان بن أبي السرح يأمره أن يفصل بالحق في شكوى أهل سمرقند الذين أقاموا الدعوة على قتيبة بأنه فاجأهم بدخول سمرقند من دون أن ينبذ إليهم "الإسلام أو الجزية أو الحرب" فيصدر ابن أبي السرح حكمه بخروج الجند من سمرقند والمسلمين الذين دخلوها بعد الفتح. فكيف لا يؤمن من يرى هذا العدل وهذا التسامح؟ كل ذلك حدث قبل اتفاقية جنيف بعشرة قرون ونيف، وأين ذلك مما يحدث اليوم على مسمع الجميع وتحت بصرهم من طرف الحضارة الغربية في ظل وجود أمم متحدة ومجلس للأمن واتفاقية جنيف وهي نتاج الحضارة الغربية. الحضارة الغربية في المقابل ماذا قدمت الحضارة الغربية، منذ فترة الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر؟ 1 تجارة الرقيق وما نشأ عنها من ممارسات بشعة. 2 إبادة جماعية لأمة الهنود الحمر. 3 نشوء الظاهرة الاستعمارية. وكل تلك الممارسات استطاعت أن تجد تبريرات لها من الكنيسة الغربية. وإذا كان ذلك يأتي في مستوى الممارسة التاريخية فكيف يبدو الأمر في المستوى المفاهيمي؟ إننا نجد أنفسنا وفق طرح هنتنغتون نتعامل مع أكثر من مصطلح بمفهوم واحد نحو الحضارة الغربية أو المسيحية أو الكاثوليكية الرومانية أو الرأسمالية... فهل كانت تلك حضارات فرعية أم أنساقاً اجتماعية؟ يمكن من خلال التحليل أن نقول انها صور مختزلة في الحضارة الغربية تعبر عن نفسها من خلال مفهوم جغرافية الغرب، معتمدة عليها كأنساق اجتماعية لها وظيفتها في النظام الغربي. وإذا نظرنا في البروتستانتية نكتشف هذا التطويع المتعمد والذكي لتوظيف تلك الأنساق، وهو الأمر نفسه الذي دفع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الى التخلي عن مبدأ عقدي في المسيحية الغربية حيث نجد أنها بدأت في إنشاء البنوك. ومن هنا وجدت الرأسمالية في المذهب البروتستانتي دعامة قوية لها، ومن هنا نشأت ظاهرة التنصير المدعومة من الاستعمار، وإذا نظرنا الى علاقة الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والاسلام، نجد ان المسيحيين يعترفون باليهودية وبأنبياء بني اسرائيل وبالعهد القديم التوراة على رغم انها لم تتكلم عن المسيحية، فيما تنكر المسيحية الغربية رسالة الإسلام على رغم أن القرآن الكريم خص العقيدة المسيحية بالذكر حيث نجد انه: 1 خصص إحدى السور الطوال باسم مريم البتول أم المسيح عليه السلام. 2 خصص إحدى السور الطوال بمعجزة السيد المسيح عليه السلام "المائدة". 3 خصص إحدى السور الطوال باسم أسرة مريم البتول "آل عمران". 4 تكلم على الكثير من المعجزات التي أتاها الله للمسيح عليه السلام. فلماذا اهتمام الكنيسة الغربية بالعهد القديم لم يقابله اهتمام بالقرآن الكريم؟ مطلوب من الغرب والكنيسة الغربية الإجابة عن ذلك... ولكن في ضوء هذه الصورة يظهر موقف الغرب ضد الإسلام وهو ما تلتقي فيه المسيحية الغربية واليهودية والرأسمالية باعتبارها أنساقاً في الحضارة الغربية تسعى الى اقتلاع أمة من جذورها، وإذا كان التركيز على الأمة العربية فلأنه يهدف الى تدمير مركز المد الحضاري في هذه المنطقة باعتباره مركزاً للغة العقيدة الإسلامية وتقع به الأماكن المقدسة "فهو خزان للحضارة". والسؤال الاعتراضي الذي يفرض نفسه: لماذا كل هذا الاهتمام بالتنصير في الوقت الذي نرى فيه وفق الدراسات الغربية نفسها بما فيها الكنيسة الغربية أن الأوروبيين يبتعدون عن المسيحية التي رأى فيها هنتنغتون - إضافة الى الحضارات الأخرى - المحرك للصراعات "الصدامات" في المستقبل. فهل ستقاتل افريقيا نفسها؟ وهل هذا يرتبط بخطط التنصير التي حددت نهاية العقد الثاني بعد الألف الثاني الميلادي موعداً ستسود فيه المسيحية الكرة الأرضية؟ أم ان فكرة صدام الحضارات "لا نقول نظرية" هي مشروع بديل لمفهوم الحرب الباردة؟ * كاتب من سورية.