وعن تصريحات اليمين المسيحي الاصولي الاميركي التي تعتبر الاسلام الشر الذي يجب مكافحته، من خلال حملة ضمت ثلاثة من أبرز شخصيات اليمين البروتستانتي المقرب من الرئيس، والذي يملك وسائل اعلام واسعة الانتشار..ومن نماذج هذه الحملة: ما قاله القس المحافظ المتشدد، وحليف جورج بوش الانتخابي جيري فالويل الذي يمثل 16 مليون انجيلي اميركي من الطائفة المعمدانية حين وصف النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) بالارهاب ورجل الشر في حديث لشبكة سي. بي. اس. وقبله اعتبر بات روبرتسون مؤسس الائتلاف المسيحي ان النبي محمد (ص) متعصب بشكل مسعور. وان الاسلام ليس ديناً مسالماً يرغب في التعايش. وكان القس فرانكلين غراهام ابن الممثل الشهير بيلي غراهام أول من دشنّ هذه الحملة في تشرين الاول الماضي، وهو المقرب من الرئيس بوش، حيث اعتبر حينها الاسلام ديانة الشر لانه يدعو الى قتل الكفرة من غير المسلمين. هذه التصريحات الحاقدة اثارت ردود فعل لدى المنظمات الاسلامية الاميركية التي طالبت الرئيس بوش بادانتها، بل ان ردود الفعل شملت العديد من رجال الدين المسيحيين المعتدلين وبعض المثقفين، بل ان افتتاحية الواشنطن بوست ادانت هذه الهجمة ضد الاسلام وطالبت الرئيس بموقف يدين هذه التصريحات الارهابية والعنصرية اذا كان صادقاً في مقولة التسامح خاصة ان هؤلاء والتيار الديني اليميني عموماً مقربون من الرئيس وهو غالباً ما يتحدث بلغتهم. ومع ذلك بقي بوش صامتاً. الا أن قمة الاستخفاف بالعالم الاسلامي وبالشرعية الدولية تمثلت في توقيع الرئيس بوش على القانون المتعلق بالسياسة الخارجية والمعروف باسم القانون 1646 والذي يتضمن مواد ترغم الادارة الاميركية على الاعتراف بالقدس الموحدة باعتبارها العاصمة لاسرائيل. ورغم البيان التوضيحي الصادر عن البيت الأبيض والذي يقول ان سياسة اميركا بالنسبة للقدس لم تتغير، الا أن الحقيقة تقول ان البيان "التوضيحي" لا يتمتع بقوة القانون. هذه المواقف سبقها تمهيد فكري واستراتيجي بدأ مع التسعينيات، وتعاظم بعد أيلول. فقبل اطروحة صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون التي نشرها في عام 1993، نشر باري بوزان في تموز 1991 مقالة بعنوان (السياسة الواقعية في العالم الجديد) يطرح فيها تصنيفاً جديداً للعالم. فبعد ان كان العالم في ظل الحرب الباردة ينقسم الى العالم الاول (المعسكر الرأسمالي) والعالم الثاني (المعسكر الشيوعي) والعالم الثالث مجموعة البلدان الخارجة عن التبعية المباشرة اصبح هذا التقسيم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لا معنى له بانفراط عقد العالم الثاني، ولم يعد من مبرر لبقاء التصنيف فيما يختص بالعالم الثالث. ما يريد الكاتب الوصول اليه هو تصنيف جديد يقسم العالم الى قمسين: مركز وأطراف. أما المركز فهو كتلة رئيسية من الاقتصاديات الرأسمالية المسيطرة على العالم. وأما الاطراف فهي مجموعة من الدول الاضعف من النواحي الاقتصادية والسياسية تتحرك ضمن نمط من العلاقات التي ينسجها المركز في المقام الاول. ويخلص الى ان دول الاطراف الضعيفة المفككة فيها مصدران يهددان امن الغرب وهويته وحضارته. اولها الهجرة. وثانيها هوياته الحضارية المختلفة عن هوية الغرب. وبما ان الهجرة آتية من جنوب البحر المتوسط فالهوية المرشحة للتصادم مع الغرب هي الهوية الحضارية الاسلامية. لذلك فالأمن العالمي سيكون محكوماً بما يطلق عليه صراع الهويات الحضارية، والذي يبدأ ب (الحرب الباردة الاجتماعية بين الغرب والاسلام). تلقف صموئيل هنتنغتون هذا التحليل ليصيغ اطروحته المعروفة ب (صدام الحضارات) ونشرها بداية عام 1993. ويعتبر فيها ان الفروق بين الحضارات ليست فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية أيضاً. فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والأهم بالدين. ولأن الاسلام والمسلمين يشكلون حضارة واحدة، ولانهم خاضوا حروباً وصراعات مع جيرانهم ومنافسيهم، فهم يمثلون خطراً جذرياً على الغرب ويقول ليس صحيحاً ان الاسلام لا يشكل خطراً على الغرب وأن الاسلاميين فقط هم الخطر. ذلك ان تاريخ الاسلام خلال أربعة عشر قرناً يؤكد أنه خطر على أية حضارة واجهها وخاصة المسيحية. وفي هذا السياق يخلص الى ان للاسلام حدوداً دموية مشيراً الى النزاعات مع الصرب الارثوذكس في البلقان ومع الهندوس في الهند واليهود في اسرائيل والكاثوليك في الفيلبين. وقبل هنتنغتون كان للمؤرخ اليهودي البريطاني برنارد لويس اطروحة مشابهة في مسألة الصدام الحتمي بين الاسلام والغرب في مقالته الشهيرة (جذور الغضب الاسلامي) معيداً فيها أسباب هذا الصدام الى عناصر سياسية وحضارية وديموغرافية، ولاعتبار المسلمين كياناً حضارياً صاغ علاقته بالغرب بالسخط والعنف والحقد واللاعقلانية.ويعد هذا بعضا من التمهيد الفكري المبرمج الذي سبق 11 أيلول/ سبتمبر. والذي جاء إثر انتهاء الحرب الباردة، والتي جاءت كهدية مجانية وفرت فرصة نادرة للولايات المتحدة كي تعجل في فتح العالم أمام شركاتها الكبرى وهذا ما لم يخفه حينها أنتوني ليك مستشار الامن القومي للرئيس كلينتون حينما أكد عام 1993 قائلاً: خلال الحرب الباردة احتوينا تهديداً عالمياً لديموقراطيات السوق: الان يجب أن نعمل لتوسيعها.كان من الواضح ان عملية الاحتواء هذه تتطلب تخطيطاً دقيقاً ومبرمجاً. وهذا ما قامت به مراكز الابحاث ومستودعات الفكر وبيوت الخبرة الاميركية التي راحت تنشئ عدواً افتراضياً تمثل بالاسلام والمسلمين. الا أن الهدية الذهبية تمثلت فعلاً بما حدث في ايلول/ سبتمبر فيما بعد، فقد تعاظمت الحملة مستندة الى هول ذلك الحدث الذي جعل فوكوياما يشبه المسلمين الاصوليين بفاشيي العصر وأعتى مناهضي الحداثة. لا شك ان في هذه الطروحات الكثير من التضليل والقليل من الحقائق والموضوعية. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا الاسلام؟ وما المقصود بالاسلام؟ هل المقصود الدول أم الشعوب أم الثقافة والحضارة؟ ولماذا لا يتجه الحديث الى المسيحية والبوذية واليهودية حين يطرح موضوع الحداثة وصدام الحضارات او حوارها؟ هذا التخصيص نحو دين واحد يحمل على الشك في مدى الموضوعية والتجرد الذي تطرح به المسألة؟ بل ان طرح الموضوع على هذا الشكل يعتبر هروباً من السؤال الحقيقي عن أسباب كره العالم لأميركا، وهو السؤال الذي برز بحدة بعد ايلول.وجاء الجواب مضللاً حينها على لسان بوش الابن وصنّاع القرار: ان الذين يهاجمون اميركا يدفعهم الحسد والغيرة من الرفاهية والديموقراطية التي تنعم فيها الولاياتالمتحدة. وهو الجواب الأكثر شعبية وتعميماً اليوم. لكن هذا الجواب لا ينفي حقيقة ان اليمين المسيحي المتصهين الذي يزيد اتباعه عن الثلاثين مليوناً، يشكل اليوم لحمة الادارة الجديدة والحزب الجمهوري في المرحلة الراهنة وقد تغلغل العديد من غلاته في وزارة الدفاع والبيت الأبيض. وهم بالاضافة الى تطلعاتهم للهيمنة والتوسع والانفراد في القرار الدولي، مؤمنون بأن اسرائيل أرض الميعاد التي وعدها الرب لليهود، وهم مهووسون بعقيدة عودة المسيح المشروطة باجتماع اليهود في فلسطين، ومهووسون بحرب الالفية (الهرماجدون) التي سيبيد فيها المسيح العائد قوى الشر، ويعتبرون ما يجري في أرض فلسطين ليس إلا ارهاصات لما يتوقعون انه سيحصل. @ المركز الوطني للدراسات - لبنان