حديث الصحافي العربي الكبير محمد حسنين هيكل المكتمل أخيراً في 10 حلقات على قناة "الجزيرة"، أعادنا من جديد الى مستوى مختلف من القراءات السياسية الجادة والعميقة، والتي افتقدناها في أجهزتنا الإعلامية العربية منذ زمن طويل. ميزة حديث هيكل الأهم في تقديري انه يجانب "المودة" الدارجة هذه الأيام في إعلامنا الفضائي، والتي تقوم على تقديم رؤى ووجهات نظر عابرة وآنية، هي في الحقيقة نتاج قراءات وتأملات سريعة، لا تقدر على الإحاطة بالواقع، وتعجز من ثم عن تقديم صورته الحقيقية، وتسهم في استمرارها على هذه الحال، حاجة الفضائيات العربية ذاتها، والتي تستدرج هدفاً أساساً، هو ملء ساعات البث التلفزيوني وملاحقة الأحداث، وهو هدف يبدو أقرب الى التغطيات الميدانية المباشرة وأبعد عن التحليل العميق الذي يربط اللحظة الراهنة بما سبقها من التاريخ، تماماً مثلما يربطها بما يحيط بها من وقائع دولية صارت شروطاً تقرر مصائر الأمم والشعوب. قد نختلف - بهذه الدرجة أو تلك - مع بعض ما يقوله هيكل من آراء أو وجهات نظر، لكن هذا الاختلاف - الطبيعي والمفهوم - لا يلغي حقيقة أن ما يقدمه هيكل يشكل قراءة متكاملة للوقائع والأحداث. قراءة تقوم في الأساس على الاحاطة الشاملة بكل ما في لوحة الراهن من تفاصيل وجزئيات قد تبدو للبعض عابرة أو قليلة الأهمية. في أحاديث هيكل ثمة فهم عميق ودقيق وموضوعي للولايات المتحدة وأهدافها، وآليات صنع القرار في إداراتها المختلفة وفي مؤسساتها الإعلامية والاقتصادية، ورؤية صائبة لطبيعة مؤسسات المجتمع المدني الأميركية ونظرتها الى القضايا الكبرى التي تعصف بالعالم. من هذه الرؤية الشاملة يقدم هيكل احاديثه المتواصلة على شاشة "الجزيرة" في سياق صحافي وفكري أهم مميزاته الربط الدقيق وانسيابية عرض الأفكار - حتى المعقدة منها - في سياقات سلسة وبسيطة، لا تفتعل المعرفة، ولا تتعالى على جمهور المشاهدين، فينجح صاحبها في الوصول الى عقولهم بيسر وطلاقة. نضيف الى ذلك ما يتمتع به هذا الصحافي الكبير والمخضرم من موهبة التقاط ما في الوقائع التاريخية من دلالات قد لا تكون في ذهن الكثيرين من المثقفين ومتابعي الشأن العام. والذي يتابع هذه الأحاديث سيلاحظ "الحيادية" المهنية العالية المستوى، التي يتمتع بها هيكل في تناوله للأحداث وتحليلها وما يرتبط بها من شخصيات سياسية ودول وبلدان، إذ لا يشعر المشاهد بحدة كراهية، أو رائحة مواقف مسبقة، بل تفسير وقائع من خلال ربطها بكل المؤثرات الفاعلة، ورؤيتها بعد ذلك في حجمها الحقيقي من دون مبالغة ولا استهانة على حد سواء. محمد حسنين هيكل في أحاديثه على قناة "الجزيرة" يضع المشاهد في قلب المشهد تماماً ومباشرة، وهو يفعل ذلك بلا تكلف، بل لعله ينجح بسبب من ابتعاده عن التكلف، فيخلق حال انسجام بين المشاهد وما يسمعه، وهي حال لنعترف بأنها شبه مفقودة في فضائياتنا التي لا تكل ولا تمل من تقديم طواقم من أصحاب الآراء العابرة، أولئك الذين تقدمهم الفضائيات مشفوعين بلقب لا يتغير، ولا يقنع أحداً هذه الأيام: كاتب ومحلل سياسي!