ليس في سجلات هيكل وكتاباته الواسعة أي اهتمام أو احتفال بأي قيمة إنسانية تهم المواطن العربي في منطقة الشرق الأوسط. فهو لا يتحدث عن حقوق الإنسان، ولا المجتمع المدني، ولا الحريات، ولا الديموقراطية.. كل هذه القيمة معدومة في تاريخ هيكل «الرجل الوحيد في العالم الذي أنا مستعد للانحناء أمامه هو جمال عبدالناصر» محمد حسنين هيكل. ما الذي يمكن قوله عن صحفي ظل يكتب ويعلق على أحداث منطقة لأكثر من ستين عاماً هي بالتقريب مدة زمنية تناهز عمر أنظمة بل ودولاً حديثة الاستقلال. هل لديه جديد مما لا تعرفه الدوائر السياسية والإعلام في المنطقة؟ ربما يكون هنالك ما يود قوله، وأظن بأن أقل ما يمكن تقديمه هو الاستماع إليه، ولكن ليس من قبل الجيل الذي عاصر هيكل من السياسيين والمثقفين في المنطقة، فهؤلاء يعرفون الرجل وهم قد خبروه لعقود منافحاً عن نظام راحل، وساخطاً على النظام الذي خلفه، ومهادناً للنظام الأخير إلى حين. ولا أظن أن هيكل حينما تكلم مؤخراً قد دار بخلده إمكانية التأثير أو التغيير في الأنظمة القائمة، بل ربما انصب اهتمامه على تعطش الجيل الجديد في المنطقة، وهم الشريحة الأكبر من الجمهور المحتاجة للشرح والتفسير للأحوال المتردية التي يعيشونها، وبحسب ما نقله عنه عبدالله السناوي فإن هيكل كان قلقاً للغاية حول كيفية استقبال الرأي العام العربي لأحاديثه في الجزيرة في أول مساء أذعيت فيه. إن تاريخ هيكل ما قبل العام 1981 معروف بكل تفصيلاته المتاحة سواء من أولئك الذين كانوا في دائرته، أو أولئك الذين انتقدوه ووقفوا ضده. الشيء المهم بعد هذا التاريخ هو ابتعاد هيكل عن دائرة السلطة والقرار، صحيح أن خروجه - أو عزله بالأصح - من «الأهرام» عام 1974 كان بداية أفول نجمه السياسي، بيد أن ذلك الخروج هو أكبر من مجرد ابتعاد صحفي عن وسيلته الإعلامية، لقد كان رجل دولة وسياسياً مقرباً هو الذي أبعد، أو بحسب عبارة جريدة «التايمز» البريطانية الشهيرة في افتتاحيتها عنه: «الوزراء في مصر يأتون ويذهبون غير أن السيد هيكل كان مؤسسة قائمة بذاتها لمدة 17 عاماً»، واعتبرت خروج هيكل - وقتها - من «الأهرام» خبراً لا يسبقه في الأهمية سوى إقالة الرئيس السادات له. ومنذ خروج هيكل من سجن السادات كرس السنتين التاليتين في كتابة كتابه المثير للجدل «خريف الغضب»، والذي كان يريده انتقاداً شاملاً لفترة حياة رئيس أقلقه تدخل هيكل وتجاوزه لموقعه كصحافي، حيث كان هيكل يرى في السادات ضابطاً - أو ممثلاً - بلا مواهب على رأس دولة كان سلفه فيها ملء السمع والعين في العالم العربي. الضجة التي أثارها هذا الكتاب أتت أيضاً على بعض من سمعة هيكل المهنية لا سيما حين ظهرت فروق الترجمة في الكتاب بين الانجليزية والعربية. ولكن أهمية هيكل كانت لا تزال وقتها كبيرة لقرب عهده بالدوائر السياسية والقرار في مصر، وقد أسعفه تمكنه المهني من استثمار ذلك الكم الكبير من الأسرار والخبايا التي كانت لديه في وضع كتب كثيرة في التاريخ السياسي للمنطقة العربية لا سيما الصراع العربي - الإسرائيلي، أو السياسة المصرية، أو ذكرياته ومرئياته عن الزعماء والقادة المعاصرين، - والذين غالباً ما يتحدثون عند هيكل بعد أن يكونوا غادروا إلى الرفيق الأعلى -. متنقلاً خارج مصر في أغلب أوقاته كلورد انجليزي، ومستفيداً من علاقاته في العالم الغربي والتي كونها حينما كان علِى رأس هرم الصحافة في مصر، وجد هيكل لنفسه موقع المراقب للحدث السياسي في العالم العربي، وقد وسعه التغير، والتأقلم مع كل مرحلة من المراحل منذ أواسط الثمانينات وحتى نهاية التسعينات بحنكة وذكاء قل نظيرهما في مجايليه. فمع بداية النظام الجديد في مصر أصبحت رؤية هيكل أكثر انفتاحاً فيما يخص السياسة الأمريكية لفترة وجيزة من الوقت لم تلفت انتباه من وجهت لهم - وهو ما كان سبباً من أسباب خلافه مع سياسة السادات -، وأكثر تأييداً للتغيير الجاري في مصر. ولكن مع انقضاء النصف الأول من الثمانينات أصبح هيكل بما يمثله من صوت قومي عروبي عتيق مرفوضاً من قبل الطبقة الجديدة الصاعدة للحكم، وقد فهم هيكل رسالة النظام جيداً بعد أن قال له الرئيس مبارك في لقاء معه: «أنت لم تكن رجل عبدالناصر، أظن أن عبدالناصر كان رجلك» - وهي إشارة عنت الكثير، ودفعت بهيكل لتجنب شؤون الحاضر وقتها، والتوجه صوب ملفات الماضي. أيدلوجيا هيكل السياسية أصيبت بثلاث انتكاسات رئيسية أحالتها إلى مقبرة التاريخ دون رجعة: فأولاً، مات عبدالناصر المخلص والذي كان يمثل لهيكل ركن الزعامة السياسية - ذات الكارزما الرسالية - اللازمة للاضطلاع بأي سياسة قومية في محيط الأمة العربية. ثانياً، انهار الاتحاد السوفيتي، والذي بانهياره زال النظام العالمي القديم الذي كان يوفر فرصاً سياسية وحرية أكبر للأنظمة الثورية للمناورة في السياسة الدولية. ثالثاً، حرب الخليج الثانية التي أسفرت عن انتهاء يوتوبيا الوحدة العربية لدى الأشقاء المتنافسين، وانفضاض جمهورها، والذي كان هيكل أحد أهم رموزها الإعلامية. ولذلك فإن هيكل التسعينات مختلف كلياً عن هيكل الثمانينات، وهو بالتأكيد لا يشبه هيكل الشاب زمن الثورة، رغم عدم تراجعه، أو التصريح بالتحول وتكفي قراءة مقالات «بصراحة» في سنواتها الأولى، والتي كان يرد في بعض منها تبرير لديكتاتورية النظام ومصادرته للحريات، بل وأحياناً الجزم بأنها كانت الحل الأمثل في رأيه. أقول إذا ما قورنت بمقالات «وجهات نظر» في السنوات الأخيرة يمكن رؤية الفرق بينهما جلياً عند كاتب أبى أن يعترف بزلات وسقطات فترة سابقة - وهي على أية حال ليست عيباً إذا ما اعترف بها بشفافية وانفتاح لأنها أخطاء جيل بأكمله -. بعد مرور عقد من الزمان وجد هيكل نفسه محتاجاً إلى إصلاح ما بينه وبين الآخرين، وأخيراً وجد عنوان «لمصر لا لعبدالناصر» الواقع المفصح عنه. ويمكن ملاحظة أمرين مهمين في مرحلة التسعينات بالنسبة لهيكل فقد تحسنت صلاته بالنظام داخل مصر إلى درجة من الهدنة المعنوية بين الفريقين، ثم إن هيكل سعى لإعادة صلاته بأنظمة أوليغارشية ملكية كانت بالنسبة له في وقت مضى نتائج مرحلة امبريالية بالية مثل الأردن والمغرب، والتي ساهم اقترابه منها في بداية التسعينات إلى إشراكه بعض الشيء في مشاورات مع منظمة التحرير الفلسطينية - في المرحلة السرية التي سبقت أوسلو -، وترشيحه للجان شرفية في بعض المحافل الدولية. طبعاً، حاول هيكل خلال تلك الفترة مواصلة إصداراته من الكتب، وزال منها نوعاً ما البريق الذي كان يلفها بعد أن أصبحت متاحة بعد المنع في بعض البلدان، ولكن إنتاجه في هذه الفترة أصبح ممتعاً ومتألقاً فقط لجودة الأسلوب الأدبي والعرض المتبقية لديه من مرحلة الستينات كتأثر بعمالقة الأدب في مصر وقتها، أما من الناحية الأهم وهي القراءة والتحليل فقد كانت معتمدة بشكل كبير على كتب أجنبية متخصصة في تلك الموضوعات، - أو بحوث وتقارير تصدرها مراكز البحث الشهيرة في العاصمة واشنطن - أحياناً بإشارة، وأحياناً أكثر من دونها. إن شعور هيكل بالعزلة أواخر التسعينات قد جعله يتوجه حتى إلى من اعتبرهم في وقت من الأوقات مراهقين سياسيين مثل الرئيس الليبي معمر القذافي - بعد 25 عاماً من القطيعة -، وإلى إغداق مختلف صور الثناء والمديح - في كتابه «كلام في السياسة: 2000» - على أحد رعاة الإرهاب في العالم، و«الشوكة المكسورة» حسب وصف مجلة «النيوزويك» بوصفه رجلاً صنعته الظروف وتجربة السنين وأنه «سوف يوضع يوماً في دليل (الخوارق) من النصف الثاني من القرن العشرين» لأنه استطاع الجلوس في الحكم طوال 35 عاماً، وكأن تشبث ضابط عسكري - مصاب بجنون العظمة - بالرئاسة كل هذه السنين أمرٌ يستحق الثناء. مع بداية الألفية الجديدة حاول هيكل إعادة تقديم نفسه للجمهور العربي مع تعطل عميلة السلام في الشرق الأوسط عبر مقالاته بنفسه القومي السابق، في محاولة لمغازلة قنوط الشارع العربي، ولكن عودة هيكل هذه المرة للتدخل في القضايا السياسية الجارية قد جلبت له مشكلات كثيرة سواء في الخارج، أو داخل مصر حين عطل برنامجه في قناة «دريم»، وصودرت التسجيلات لاحقاً. ووقع هيكل في مزلق آخر حين كتب معرضاً بكل من الملك حسين، والملك الحسن الثاني بعد وفاتهما بوصفهما مشتركين في كثير من المؤامرات التي حيكت في المنطقة، رغم أنهما كانا من القادة الذين استقبلوا هيكل حين لم يكن مرحباً به، وجزءاً من الإرث القديم الذي لا يريد أحد التعامل معه). اليوم يحاول هيكل في إطلالته الأخيرة رسم صورة جديدة لنفسه كصوت للإصلاح في العالم العربي، فالرأي العام في العالم العربي أصبح مشحوناً بالتوتر السياسي، وأحد الأمور الأساسية في الخطاب السياسي المستجد هي ثيمة نقد الأنظمة والتي أفرزتها ولا شك التحركات الأمريكية في المنطقة العربية. بعبارة أخرى، يود هيكل المساهمة في وضع صورته على مسرح الأحداث، والاضطلاع بدور جديد إن لم يكن لدى بعض الأنظمة فلدى رجل الشارع البسيط من خلال شاشة الجزيرة. ولكن ما هي آليات هيكل في هذه المقاربة الجديدة؟ اثنتان، إحداهما قديمة بالنسبة له، والأخرى جديدة عليه. 1 - إعادة تلوين التاريخ: وهي آلية استخدمها هيكل منذ وقت مبكر لأغراض أيدلوجية تتصل بتأثره باليسار الثقافي الانجليزي - لدى الطبقة الوسطى - في مرحلة تكوينه، وقد تبدت جلياً في مؤلفاته بعد العام 1975، واستمرت معه، ومؤداها هو كتابة تاريخ المنطقة والأحداث من منظور هو خليط من القومية والهوى السياسي. ولذلك فإن هيكل المقروء مقالاً، أو كتاباً كان بوسعه الإقناع لأسباب تتعلق بامتياز الكتابة تكفلها نخبوية السرد وعزيز الرواية، أما هيكل المرئي من فئات شعبية لا حصر لها فمكشوف لا تسعفه إلا حكايات التاريخ، والنقل عن محفوظات الحقبة الاستعمارية المنشورة في المكتبات وبين أيدي الباعة المتجولين، وفي نقص واضح وغريب لرجل طالما امتلك - بزعمه - آلاف الوثائق السرية. وهذه الآلية عقيمة لأن هيكل لا يستطيع ربط التاريخ القديم بالتاريخ الجاري لأن أحداث السنوات العشر الأخيرة هي مكشوفة بقدر كبير للجمهور العادي ومن الصعب أن يتم تلوينها هي أيضاً. فعندما يقول هيكل بأن الحشود الغفيرة في ساحة تمثال صدام ما هي إلا عشرات من العرب المستأجرين من قبل الجيش الأمريكي عبر دولة الإمارات نقلوا للعراق لعمل مسرحية يطاح فيها بتمثال صدام حسين، يصبح التلوين بشعاً في وقاحته. كيف يمكن تصديق هذا التدليس الفاضح حين كانت مئات الكاميرات التلفزيونية لمختلف قنوات البث حول العالم تنقل للملايين صورة وصوتاً ما يحدث إلى غرف معيشتهم في أي بقعة من الأرض كانوا؟ أو ماذا يستفيد جمهور العامة من المشاهدين في قطاع غزة، أو الرمادي، أو دارفور - وهي بعض بؤر التوتر في المنطقة - من قراءة هيكل لرسائل عائلية لطيفة متبادلة بين الملك عبدالعزيز وأبنائه أوائل القرن الماضي في ساعات الذروة من البث الفضائي؟ أم هل هناك فائدة لهم من معرفة أن الدولة الهاشمية كانت تطلب مساعدات اقتصادية من بريطانيا العظمى؟ عبدالناصر استجدى الروس لبناء السد العالي، فهل يحط ذلك من قدره عند مواطنيه بعد أن قدم لهم إسهاماً كبناء السد؟ تلك هي إشكالية هيكل ومغمز قناة مصداقيته اليوم.. النأي بعبدالناصر وكل سياسات «الوحدة» و«عدم الانحياز» وهزيمة 1967 وغيرها عن كل مرامي النقد والتمحيص في سبب فشل السياسة العربية اليوم. 2 - تبسيط السياسة: وهي آلية جديدة على هيكل الذي طالما أخذ السياسة من أفواه صانعيها، وهو مزلق خطير وقع فيه مؤخراً. إنه يريد التحدث لرجل الشارع البسيط ولذلك فإنه عوضاً عن أن يلجأ لتثقيفه فإنه يكلمه ليس بلغته التي يفهمها فقط، بل وباستخدام خبرته ومخاوفه، عبر عرض الأمر بصورة مؤامرات كبرى عابرة للقارات تحاك ضده، - وليس هذا فقط لأنه أمر يتقبله رجل الشارع البسيط بصدر رحب لشيوع نظرية المؤامرة - بل أن هيكل يعمد إلى التهويل والتضخيم المبالغ فيه لدرجة أن رجل الشارع البسيط أصبح عاجزاً عن المتابعة حين يقول هيكل بأن الهدف أكبر من نفط المنطقة العربية، وأكبر من قضية فلسطين، وأكبر من أهداف وعقول المرحلة الحالية، وأنه صراع آسيوي - أمريكي بمستوى خرافي يوشك أن ينفجر، وأن ينبثق على كافة الأصعدة في إعادة إنتاج لثقافة «الفتن والملاحم» و«البشارات والنبوات» التي سادت زمن الانحطاط في العصور الإسلامية. وأقل ما يقال عن تبسيط السياسة هي أن (هيكل يتحدث لرجل الشارع البسيط بمقولات ومفاهيم ولى زمنها من قبيل «نظرية التبعية»، و«الدمينو السياسي» و«الردع والاحتواء» و«المجتمع الصناعي الحربي»، و«حدود النمو» وأغلبها مفاهيم اضمحلت في عصر التجارة الحرة والاستثمارات الأجنبية والعولمة) إن هيكل يدرك ذلك بالتأكيد ولكنه يواصل صياغة رؤيته للمشاهد في إطارها - حتى وإن جهل المشاهد مسمياتها -. وعلى سبيل المثال لا الحصر يتجاهل هيكل مدارس وتيارات رائدة اليوم في تحليل السياسة الخارجية مثل «الليبرالية التدخلية» و«الواقعية الجديدة» ودورها في تفسير مشروعات مثل «الشرق الأوسط الكبير»، و«أنماط الإرهاب العالمي» فيما يتحدث فيه. ويوالي هيكل في مقاربة ضبابية حدود الإرهاب في العراق ودعوى المقاومة وأبو مصعب الزرقاوي وفلول حزب البعث، وبين ما لا يستطيع رؤيته جيداً على المسرح العراقي بوصفه أشد المسارح دموية في فصول المرحلة. وهو مسرور بالضغط الأمريكي على بعض القادة في المنطقة، ولكنه يخفي إعجابه عبر تكرار منولوج الامبراطورية الأمريكية الشريرة الذي يعيده على المسامع من عبارات اليسار الثقافي الأمريكي منذ سنوات الستينات. لماذا يبدو هيكل غير صادق في مساعيه الأخيرة بشأن مسألة «الإصلاح» في المنطقة؟ الجواب بسيط جداً، ليس في سجلات هيكل وكتاباته الواسعة أي اهتمام أو احتفال بأي قيمة إنسانية تهم المواطن العربي في منطقة الشرق الأوسط. فهو لا يتحدث عن حقوق الإنسان، ولا المجتمع المدني، ولا الحريات، ولا الديموقراطية.. كل هذه القيمة معدومة في تاريخ هيكل ولذلك فإن أي رؤية يقدمها هيكل لشعوب المنطقة العربية اليوم إنما هي بيع لأوهام من قبل رجل وقف ضد الديموقراطية في بلده، وضد حقوق الإنسان وضد الحريات، وضد المجتمع المدني في دول الجوار في المنطقة العربية. رجلٌ رغم وجوده على أعلى هرم الإعلام ومنابر الكتابة آثر أن يحظى بنعيم السياسة على أن يسهم بالتنوير، وهذا ما يفرق بينه ككاتب سياسي شرقي عن نظرائه الغربيين الذين خدموا قيماً إنسانية مشتركة في تاريخ خدمتهم الصحفية، بدل أن يعملوا لصالح نظم انقلابية عسكرية. إن هيكل ظاهرة كتابية - وسياسية استثنائية في العالم العربي ولا شك، ورغم كثرة ما كُتب عنه فإنه ليس ثمة بحث واف يضعه في موضعه الصحيح. بل أن بعض الكتابات التي أرادت النيل منه مثل كتاب د. سيار الجميل «تفكيك هيكل» غرقت في إنشائية ساذجة رغم ضخامة عدد صفحاتها، حيث توصل المؤلف إلى أن تأثير هيكل على مثقفي وزعماء ومواطني العالم العربي سيستمر إلى عام 2009 - رغم أن 60٪ من العالم العربي وهم من الشباب ربما لم يسمعوا بهيكل إلا حين أطل عليهم قبل فترة وجيزة عبر قناة الجزيرة. وهو تنبوء ينبئ عن فراغ وفقر حضاري بين النخبة المثقفة العربية أوجدت لهيكل وغيره من المراقبين الذين نضبت أقداحهم الفرصة للاستمرار في التأثير رغم مرور كل هذه السنوات. بعد مشاهدتي لهيكل على «الجزيرة» كنت أتحدث إلى الصديق نيل ماك فاركوهاير - مدير مكتب النيوزك تايمز بالشرق الأوسط - وهو صحفي متمرس غطى المنطقة منذ أوائل الثمانينات، قال لي في لحظة استغراب بادية في نبرة صوته: ماذا لدى هيكل ليقوله للعرب؟ ألم يستوعبوا فشل آرائه بعد؟.. وكيف يمكن لهيكل وقد كان الأقرب للرجل الذي هو مسؤول عن اخفاقات وهزائم المنطقة لأكثر من خمسين عاماً مضت أن يقدم النصيحة والرأي في إصلاح المنطقة العربية وهم أطراف في خلق مشاكلها؟!