1- على الشاطئ، انا رجل مشّاء... من عاداتي اليومية، السير على شاطئ البحر. أغرس أقدامي في الرمال، على حافة الموج واليابسة، وأذرع الشاطئ الممتدّ... كل يوم، مرات عدة. وحين اسير هكذا، على هذا السمْت الطويل، لا أرى ولا أسمع غير امتداد المياه الزرقاء المتموجة، وملامسة السماء للمياه على الطرف البحري من النظر... اما الطرف البريّ، فغالباً ما يدور بين ما يلامس الموج من اقدامي، والرمل من خطوات سريعة الامّحاء... وينتابني الإحساس بأنني جسد يتحرك مثل ما تتحرك مركبة في الفضاء... آلة منتظمة... قليلاً ما أفكّر فيها، أما ما يدور في الرأس فأمر آخر. تموج في الرأس الحياة، تفاصيل اليوم، هموم ومسرّات كثيرة، خطط واحتمالات، تنعقد في الرأس مثل غيوم، ثم ما تلبث ان تنحل كقطرات من ماء. وهكذا، وأنا امشي على هذا الشاطئ الغربي لمدينة بيروت، ينفرط العمر وتتساقط ايامي تحت اقدامي كخطوات... كأنني لا أريد شيئاً ولا ألوي على شيء. وغالباً ما يكون على الشاطئ رجال ونساء وأطفال. يسبحون ويلعبون، لكنني امشي. اضع يديّ في جيبي وأمشي. لا يقطعني عن المشي تعاقُب الفصول. في الصيف الهادئ امشي. في الخريف المعتدل، وفي الربيع... أمشي. في الشتاء ايضاً، حين يهطل المطر وتعصف الرياح وتضطرب الأمواج... امشي. ومن يراني في ايام الشتاء على هذه الصورة من بعيد، يحسب اني شارد او مشرّد. تخفق الرياح في ثوبي، والمطر على رأسي ووجهي يهطل، والأمواج تهجم بمخالبها، ثم تنكفئ، وأنا أمشي. هي ايامي هكذا تجري، وأنا نادراً ما أبصر الناس. امس على الشاطئ استوقفني رجل وقال: - استاذ... هل تسمح بأن تشعل لي هذه السيجارة؟ - قلت له: ليس معي نار. - قال: أستاذ... اعذرني اذا تطفّلت عليك. إنك تشبه كثيراً شخصاً اعرفه اسمه محمد علي شمس الدين. أعرفه وأحبه. قلت له: انا لا أعرفه. وأضفتُ في صدري ولا أحبّه. مضى الرجل في حال سبيله... واللفافة في فمه مطفأة.ا ما انا، ففكرت لحظتئذ بأمرين: هل باستطاعتي عدّ خطواتي التي سرتُها على هذا الشاطئ لأربعين عاماً خلت، وما الطريقة الموصلة لذلك؟ ووجدتُ ان الطريقة حسابية وسهلة: يكفي ان أعدّ خطوات شوط واحد في الذهاب او الإياب، وأضربه بعدد الأشواط، وأضرب الناتج بعدد الأيام، وأضرب الناتج بعدد الأعوام فتكون حصيلة العمر... خطوات، مثلما تناول إليوت حياته بملاعق القهوة. حسناً... هكذا سيكون. وبدأت اعدّ خطواتي. لكن الأمر الآخر الذي فكرت فيه، في تلك اللحظة، هو التالي: لماذا يتكرر عدد الناس الذين اصادفهم، ويسألونني: هل تعرف فلاناً، فأنت تشبهه؟ وبدأت أفكّر في ذلك، أثناء عدّي لخطواتي على الشاطئ... فمن أنا؟ ومن شبيهي يا أللّه؟ 2- لست نوتيَّ هذا المركب من خلال تجوالي الدائم على شواطئ هذا البحر، تبيّن لي ان لهذه الذات حياة، وأن للكلمات حياة... وقد تلتقيان وقد تفترقان. والأمر شبيه بالغوص على الأجسام الضخمة لسفن غارقة في المحيط، ولا يطفو على سطح الماء منها سوى بقع من زيت، او اخشاب قليلة، وفي غالب الأحيان، لا شيء منها على السطح ليطفو او ليشير الى وجودها في القاع. انظر الى البحر من بعيد. الناس تنتقل على اليابسة، والمركب تتحرك في البحر. النجوم في السماء والطيور على الأفق. وهكذا هي الحياة. سيكون من الصعب الوقوف على محطات راسخة في ظاهر حياة سردية لا يفصل الليل عن النهار فيها سوى حجاب. فالأيام من البعيد، تتشابه كموج البحر، ومع ذلك، فثمة مركب ما، مائل، ويتقدم، وفي مقدمته رجل يمسك بمجذافين، ويحمل معه عائلة وعلماً واسماً ودواوين وأوراقاً يلوّح بها من بعيد... والذي يراه يقول انه يتقدم، والحقيقة ان الماء يتقدم به، واتجاهات الرياح ايضاً. / وهذا النوتيّ هو أنا. ولعلني لست نوتيّ هذه الرحلة... ولعله لم تكن لي رحلة ولا بحر ولا مركب يميل على الجانبين... فمن يضمن ماذا في هذا العماء الذي يدور؟ 3- البحر الأبيض المتطرف هذا البحر الأبيض المتوسط... لماذا هو متوسط هكذا؟ لماذا لا ينسجم مع بيت جدّنا الشاعر القائل: ونحن أناس لا توسُّط بيننا لنا الصدر دون العالمين او القبر لماذا لا يتخذ لنفسه اسماً جديداً؟ "البحر الأبيض المتطرّف". هذا البحر الشيخ العتيق، آن له اليوم ان يعود شاباً، آن له ان يثور ويتطرّف ويكون نزقاً. آن للبحر ان يغضب ويفيض ويغسل ادراننا، نحن العائشين على شواطئه وموائده من ملايين الأعوام... فمن ايام نوح حتى اليوم، لم يفِض البحر ولم يحصل طوفان... لماذا لا يحصل الطوفان؟... الآن. 4- البحر والبحر أفكّر احياناً في الشعر وأكون افكّر في البحر. ففي العربية أوزان الشعر الستة عشر هي بحور الشعر الستة عشر... الطويل والمديد والوافر والبسيط والكامل والسريع والخفيف... وهلمجرّاً الى آخر الأسماء. وأسأل نفسي: لماذا سمّى الخليل الفراهيدي اوزان الشعر بحوراً؟ ألأنها واسعة كالبحار؟ ولكن هل البحار كالبحور؟ وهل بحر الشعر يستوعب السماوات والأرضين كبحر الوجود؟ وهل التسمية عائدة الى ايقاع البحر وموسيقاه، وعطف ايقاع الشعر وموسيقاه عليه؟ ثم ان العرب صحراويون. وبيت الشعر معطوف على بيت الشعر. والأسباب هنا وهناك واحدة، والأوتاد واحدة، والصدر والعجز ايضاً، فكيف جمع العرب في تسميتهم للشعر اسباب البر وأسباب البحر معاً؟ هذه الأسئلة وسواها تراودني فيما اسير على الشواطئ الطويلة وحدي... الشواطئ الطويلة التي هي اطول من لسان العرب. وماذا يقول ابن منظور في المسألة؟ "يجمع البحر على أبحر وبحور وبحار. والبحور كالبحار اما الأبحر فجمع قلّة". - ولماذا سمي بحر الشعر بهذا الاسم؟ - لأنه اشبه بالبحر الذي لا يتناهى بما يغترف منه، في كونه يوزن به ما لا يتناهى من الشعر... انتهى، لا ينتهي الكلام انتهى لا ينتهي الشعر ولا ينتهي البحر 5- رجل الماء لو قسمنا الرجال على العناصر، لكان لنا ما ألِفناه من تسميات... ومنها رجل الثلج Bonhomme ورجل الثلج كما تدل عليه التسمية بالفرنسية، ابيض مصنوع من ثلج، يصنعه الاطفال في اثناء لهوهم، ويصنعون له وجهاً وأذنين وعينين وفماً وساعدين وساقين، وربما وضعوا على رأسه قبعة حمراء... يلعبون حوله، ومعه، وربما هدموه بأيديهم او بكرة يتقاذفونها في ما بينهم... ورجل الثلج رجل ابيض وطيب وآيل للسقوط والذوبان. اما رجل الحجر فرجل منحوت من الصخر او الحجارة... وهو التمثال او النصب ويكون للرأس او الصدر والرأس، او لكامل قامة الرجل. رجل الثلج ذائب وسريع، اما رجل الحجر فصلب ودائم... ولكن الى متى؟ رجل الماء هو الاكثر ذوباناً وتهافتاً. فرجل من ماء، هو رجل من انهيار كما ينهار الماء... هل يستقيم رجل من ماء؟ رجل الهواء هو الهباء. يقول الشاعر مخاطباً قيس بن الملوح، العاشق المجنون بالعشق، المشتت العقل والجسد: "يا قيس/ يا قيس/ يا رجلاً من هواء". فأي الرجال أنا؟/ وأي الرجال تريد ان تكون يا اخي؟/ ثمة رجل قديم فلسفي هو الرجل المعلق في الهواء، الذي وصفه الفيلسوف ابن سينا. وثمة رجل اخير هو الرجل الآلة. الروبوت... فأي الرجال تريد ان تكون؟ 6- قصيدة حب حزينة/ الى امرأة زرقاءة أيتها المرأة الزرقاء حكايتي لك حزينة وغريبة ومن أجلك أحكيها فقد قطعت لكي اصل اليك هذه الشواطئ المتعرجة الطويلة من الطفولة الى الصبا ومن الشباب الى الكهولة غرست أقدامي في رمال حامية وجسدي في الرياح فتمزقت ثيابي وتجرح جسدي ومن اجل هذا - لو تنظرين اليّ - حول فمي دم ورمال وفي يدي أصداف البحر ووشل الموج ويعلق على ثيابي وعلى شعر رأسي ريش النوارس ورشق طيور الماء فاستمعي لوصف رحلتي الصعبة نحوكِ استمعي يا سيدتي لقد نفر الولد المتيّم من أهله ومنزله حدث ذلك في الصيف واتجه نحوك تابعاً بخطاه خطا البحر الطويل الممتد من اول الارض الى آخرها من اقصى اليابسة / الى قدميكِ ثم خرج الولد العاشق من أهله نحوكِ ثانية في الخريف كان لون البحر أخضر والأمواج تتوالى وتترنح ثم تتهاوى على الرمل كأوراق الخريف وماء البحر كان معتكراً لكنه نحوكِ يتدافع والسحابات المخضبة تهرول في السماء ونحوكِ تتجه وكان الولد المتيّم/ يعتريه شعور بأنه يخلّ في الرمال والرياح تدق على ألواحه كالطبول وعلى وجهه يا سيدتي أخيراً وحش الشتاء الجميل فأيقظه من سباته فقام الولد العاشق ناهضاً من شتاء الفصول وبدأت تغسله مياه السماء ومياه البحار كان الرعد يطرق اذنيه كطبول الغابة والبرق يلتمع على صفحة عينيه من البحر الى الجبال كما يلتمع على المرايا وحين جرت السيول مندفعة من الأعالي الى البحر جرى معها الولد نحو بابِك لكي يغسل العتبة وطرق الباب ودخل لكي يجلس الى جوارك على الشاطئ جلس على الصخرة هو يذكر ان موجك اخضر ورمادي وعالٍ والبرد يجري في عروقه. لبث على الصخرة كالقط الوحشي ينظر الى البحر ويتخيل انك آتية في الموج حتى رحل الشتاء وانفرجت بين الأمواج فسحة الربيع فأخذ يحدّق هناك باحثاً عنكِ حيث تتشابه الأمواج وتخرج حوريات الماء عاريات من عمق البحر وحين لم تخرجي كَتَبَ لكِ هذه القصيدة لتقرئيها في زجاجة بلا عنف ملقاة في الأزرق البعيد.