الى ماركو روتيللي -1- التقيت ماركو روتيللي في البندقية، 8 أكتوبر 2009: كان عطر النساء يتجمع حوله من جميع الجهات. عندما افترقنا في 10 اكتوبر 2009، كان العطر نفسه يتناثر حوله من جميع الجهات. -2- وضع للماء في البندقية أكثر من قاعدة. غير أن هاجسه الدائم هو كيف يشذ عنها. لعل هذا الشذوذ، اذا حصر الحديث في الفضائل، أن يكون الفضيلة الاولى لجزيرة سان سيرفولو (San Servola)، حيث يستضاف الفنانون من جميع أنحاء العالم، ويحلو للطبيعة أن تكون بيتاً لفتنة الفن، ورحماً لماء الولادات. ما عدا ذلك، ذهاب وإياب في قطارات الماء. في طريقي من المطار الى سان سيرفولو، في مركبة مائية سريعة، كانت نوارس على مدى الماء، تسبح في نوع آخر من الفن. وكانت نوارس أخرى تتقاسم الأعمدة التي تحدد طريق المراكب: يأخذ كل منها عرشه وحيداً، كأنه يكتب الموج بأجنحته. -3- (فلك مسرحي في سان سيرفولو) 1- فلاش باك الشجر يسافر، تاركاً أوراقه حول جذوره، وعند عتبات البيوت. تبذر الريح في كل اتجاه أسناناً غريبة. وكان القميص الأزرق الذي نسجه الغروب للأفق، يتكوّم في سلة الريح. 2- مشهد مد الماء للشجر حبلاً لكي يعبر عليه نحو جزيرة أخرى في البندقية. لم يستطع الشجر أن يعبر إلا بعد أن قطع الحبل. 3- ضوء/ظل ليس من عادة الضوء أن يضع أنفه على زجاج النوافذ. غير أنه خرق اليوم هذه العادة. 4- سحر لماذا عندما تقف يد الهواء في سان سيرفولو تتحرك قدم الماء؟ 5- ملصق هنا، عندما يصبح الهلال - القوس دائرة، يكون قد صعد من مرتبة الذكورة الى مرتبة الأنوثة، ويكون مأخوذاً بالبحث عن سرير لطفله المقبل. -4- نادراً ما رأيت الشعر في البندقية يضحك متلألئاً كمثل ما رأيته مع روتيللي في مطعم الماسكارون. كان الشاعر الصيني يانغ ليان قائد الأوركسترا، فيما كانت ايلينا لومباردي تصفق بخفر وتبتسم كأنها آتية من جنّة دانتي. في مطعم الماسكارون، تتقاطع على الموائد في قوارير الخمر في الخبز، في صحون الطعام وأدواته، طرق يحملها رواده تحت ثيابهم، غالباً، وبين أصابعهم أحياناً. وفيما نرى الزمن يخوّض في الصحون التي ابتكرها الخزافون خصيصاً لأفخاذ المعكرونة النحيلة، أو لأثدائها المدورة، نرى الى جواره نساء ورجالاً يعومون في موج الأيام. ورأيت امرأة يشربها النبيذ جرعة جرعة. وسمعت من يقول هاذياً: حتى لو صرت شجرة، فلن تقدر أن تفهم الغصن. كل لحظة، يولد للهواء في كل غصن طفل أخضر، وتولد في كل ثمرة فأس حمراء. -5- مويجات الكترومغناطيسية قطب كهربائي أعمل دائماً في البندقية مع الصورة، وأنزوي للتأمل، في كهف المعنى. 2- بكتيريا المؤسف هنا في البندقية أن الحبر لا يميز في الكتابة، بين الجمال والقبح، وبين الصواب والخطأ. 3- سديم منذ فترة، لم أر البندقية. هكذا، عندما التقيتها أمس في فراشي، خبأت جسدَها في جسدِها. 4- جرثومة هنا، في ساحة سان ماركو، أفرطت اللانهاية في سرعتها، ولهذا بدأت تعرج. 5- هاجس عطشت، وكل ما حولي ماء. لكن، لماذا عليّ مع ذلك، أن استجير بالرمل؟ -6- عندما دخلت ساحة سان ماركو، هذه المرة، تذكرت الشاعر شيلي. تذكرت خصوصاً بيانه في السنة 1811: «ضرورة الإلحاد». بيان سبب له الطرد من جامعة اكسفورد. (للتذكير: مات شيلي غرقاً في خليج ليريتشي، في الارض نفسها التي تنتمي اليها البندقية. وأحرق جثمانه بين يدي الشاعر بايرون). أقول ما أقول، فيما يخيل اليّ أن العرق يتصبب من جدران البندقية، وأن من الممكن دائماً أن نخرج من بيت القاعدة الى فضاء المصادفات. هل أترك، إذاً، لجسمي أن يندرج في آلة البندقية، لكن أفهمها حقاً، أو لكي أراها حقاً؟ أخاف أن أشرب دمعي ظناً مني أنه الخمرة التي يعتّقها ديوتيزوس. حقاً، أكاد الآن أن اضطجع مضطرباً بين أحضان البندقية، وأن أسأل النساء اللاتي يحطن بماركو روتيللي: هل في جسد المرأة الايطالية شعر آخر لا يحدد بالشعر؟ في كل زاوية، في ساحة سان ماركو، سارق بارع. والعجب أنه لا يسرق الأرض إلا باسم السماء. هل أقول إذاً: المجاز، لا الواقع، هو فضاء الألوهة؟ وسوف أكرر على سمع سان ماركو: يبدو أنه لم يبق من السماوات السبع إلا ثلاث: واحدة انطفأت شموعها ولم تعد تعرف كيف تشعلها، واحدة نذرت نفسها لملائكة بلا أجنحة، والثالثة آخذة في احتضار يبدو أنه سيكون طويلاً وصعباً. -7- غدد بينها الغدة الصنوبرية. 1- ترميم التراث مرآة للسماء. الغيم مرآة للتراب. قولوا، إذاً، عن النجوم إنها سلالم لصعود الليل نحو سرير الضوء. 2- قوس كل ليلة، قبيل أن يذهب الشاعر الى النوم، يدعو وسادته لكي تسبقه، ولكي تغمض أهدابها عندما يدخل تحت الغطاء. 3- مصهر الكلمات معادن تصهر في حناجر النبوات. 4- محبرة يا لهذا العالم! شريط الكتروني تعالجه أيد مكسورة. وكل يصرح: لا أريد بطاقة هوية. أريد دفتر اعاشة. 5- هولو غرافيا كيف تنفعل عينا الشاعر برؤية فينيسيا، وعيناها زورقان الكترونيان؟ والناس، زرافات ووحداناً، يستحمون في مائها الأسود؟ كان جدها ذهباً، وهو الآن يصير ورقاً مقوى. وكان الشاعر قد فتش صناديقها وثيابها القديمة، فلم يجد إلا خيوط العناكب. مع ذلك، لا تزال أشرعتها الغابرة تتأرجح في موج الحاضر. هل ينبغي التأسيس لحياة جديدة: النوم على الماء، والعمل تحت الارض؟ ولا حيلة للشاعر في هذا الهذيان. لقد انتهى الامر: سبق أن تشربت خمرة الكيمياء أعضاءه كلها. -7- في بداية الزقاق الصغير كورتي نوفا Corte Nova، على الزاوية، وكان - مطعم صغير، يمتلئ بصور تشي غيفارا. يمتلئ كذلك بشعارات شيوعية: النجمة الحمراء، المنجل، المطرقة. إنه مقر الحزب الشيوعي في البندقية. مفاجأة حقاً - لي، ولصديقي الشيوعي السابق، فوزي الدليمي، الرسام الشاعر. عش قديم لنورس شيخ. حيّينا الجالسين فيه، وردوا التحية بغبطة وبشيء من الاستغراب. مررنا في الزقاق تحت ألوان بيضاء زرقاء حمراء رمادية لم تكن إلا ثياباً منشورة على حبال ممدودة كالجسور، تربط بين ضفتي الزقاق. وقلنا: طوبى للفقراء: ينشرون غسيلهم تحت أهداب الشمس، ويأتمنون عليها الرياح. عامل، (مغربي، على الأرجح)، يحمل على كتفه اليسرى ملاك الحيرة. على كتفه اليمنى يحمل شرطي الهجرة. كأنه يدندن هامساً في أذن الوقت: ساعدني لكي أغرس مئذنة في رأس الموج. ورّاق، (بلغاري مسلم على الأرجح)، يحاول عبثاً أن يرسم البندقية في شكل بندقية بلا رصاص، أو في شكل عمامة تشبه حبة البندق، وتذكر برؤوس السلاطين. ومن أي سماء، تنحدر تلك المرأة (الرومانية على الأرجح) والتي يرقد طفلها فوق بلاط أسود، وتحرص أن تدير وجهه في اتجاه كنيسة سان ماركو؟ ومن أي معسكر، يجيء هذا (الصربي على الأرجح)، حاملاً جسمه في سفينة من الوشم؟ وما رأيك، أنت أيها الأميركي، أنت يا من تعبر في عربة من الجينز والعلكة وما لا يسمى، مديراً سرياً، لجمعية الرفق بالخبراء والمستشارين، التي يؤسسها حواريو الأممالمتحدة المهاجرة؟ المهاجرون؟ جميعاً يجهرون بصوت واحد: نحن في حاجة الى أبواب ترفض أن تنغلق حتى عندما ترجّها الأعاصير. وتلك هي شوارع البندقية. تقلب عقارب الوقت في جيوب البشر، وفي خطواتهم. شوارع توسع بأقدامها حدود القديسين، وتضيق برؤوسها حدود النبوات. -9- تخصيب 1- استطلاع لكل فصل ذئابه. ولماذا لا تزال يدك، أيتها السماء، ممسكة بهذا القلم الذي لا حبر فيه، والذي فقد خاصية الكتابة؟ 2- قطع/وصل صار الليل وجهاً. صار النهار قدمين. صارت النافذة سياجاً. ونفد عطر الوردة: لم تعد إلا أنيناً. 3- تنفس بلى، ربيت على القول: «نحن». من الآن فصاعداً، سأقول: «أنا». الجمع ورق، والمفرد هو الكتابة. 4- تلوث سكين ملوثة جرحت، وغابت. 5- حب أحب هذه الوردة التي تذبل في أحضان النافذة. استيقظت صباح العاشر من اكتوبر، باكراً، استعداداً للعودة الى باريس. لم أعرف أن أقرأ في جريدة الصباح إلا أسطراً، بضع كلمات هذه خلاصتها: مطعم يجلس في اعلى الصفحة الأولى، يقرأ اخبار مطعم آخر في أسفل الصفحة. اذهب يا ظلي في غرفة نومي ولا تعد. أعترف لك: لا أستطيع أن أفعل شيئاً للوقت الذي ينغرس في جسد البندقية كمثل جرح لا يتوقف نزيفه. قلت: ألجأ الى الغيم الذي كان يتمدد ويتمزق. وكان قد صح لي، منذ أيامي الباكرة، أن الغيم لا يمطر إلا بقدر ما يفكر في أحوال البشر الذين يولدون في الماء، ويجهلون السباحة. هكذا تلبّسني ضباب الحقيقة، وأخذ يمطرني همساً: لن تتعلم في البندقية إلا ما سبق أن تعلمته في المدن الأوروبية الأخرى. فينيسيا - أوروبا: وجه يقرأ، لا يقرأ إلا نفسه. يا لهذا الهيكل! لا يؤمن بالورود التي لا أضراس لها. فينيسيا - أوربا، يا لهذا الوجود الكروي الذي يدحرجه النفط. قلت: أكتب رسالة الى ماركو روتيللي، ماركو، هل سمعت مثلي تلك النجمة في سان سيرفولو، تقول حائرة: لماذا لا أعرف كيف أقرأ أبجدية فينيسيا؟ وما هذه الفراشات التي ترتطم بعمارات شبه عمياء؟ ومن أولئك الذين يكدسون المعدن ويسمونه ترياقاً؟ ومن هؤلاء الذين يقولون: العالم قرد، ولا فرق بين غراب ونملة إلا بالاسم، وهاهم الملائكة والشياطين شهود يرقصون في جبّة واحدة؟ ماركو، يسموننا الغرباء. كأن الأرض لم تكن، مرة، غريبة. كأن الفجر لم يكن مرة طريقاً الى الليل. أو كأن الرماد لا يعرف النار. غرباء - كرز يغني متدحرجاً من أعالي كنيسة سان ماركو، تصغي اليه الجدران والحوانيت. تصغي اليه كذلك أقدام العابرين، ويصغي اعلان ضخم لبيع الأحذية والسراويل. ساحة سان ماركو، الفجر يتنفس في سرير ماء أسود. الأفق يطير بأجنحة شطآن سوداء. وها هي الأيام تنعقد خيوطاً من عناكب سوداء في سقف العالم. المراكب آخر من يعرف، والبحارة آخر من يعترف. ماركو، انها اللانهاية تتعرى أمامنا في خطاطات لم تكتمل بعد أشكالها. إذاً، أقول لك ما أقوله لنفسي: تقمّص الوقت، واقتحم قطارات الماء، لكي تعرف كيف تحيا، وكيف تموت متموجاً. (البندقية - بيروت، اكتوبر 2009)