منذ المركب الأول، وأعني سفينة "نوح" عليه السلام، تعلّم الإنسان كيف يجوب الموج، ويغوص، مبتعداً عن البر إلى مجهول يغامر معه، وفيه، لعله يقترب أكثر من الكشف، متجاذباً في مدارين: "المجرى"، و"المرسى"، مجرباً أن يكون "الفُلك" التي تجري، أو "المواخر" التي تمضي. تلك مراكب الواقع، تتعانق مع موج من فوقه موج من تحته موج، وكذلك تفعل مراكب الأرواح حين تتماوج مع الأعماق الإنسانية، تلك التي يقترب منها الشعراء، لأن مخيلاتهم تساعدهم على الترائي، والرؤيا، فتحول العناصر والموجودات المألوفة، إلى مفردات تحتفظ بطبيعتها، ودلالتها الأولى، لكنها تمارس عليها حالة من الإزاحة، في المعنى، حدّ التعددية التي لا تُحدّ دلالياً، من خلال عوامل فنية عدة، منها الرمز، والغموض العذب، والإحالات، وما ينتج عن ذلك من شبكية من الإسقاطات، والتحولات، والانعكاسات، وهكذا، فليس غريباً أن تستحضر المراكب، مثل البحار، أمواجها من الذاكرة والحاضر والمستقبل، أو أن تتوه في شرود شارد بالشفافية العميقة، وأن تمارس طقسها التأملي مع طبيعة لم تخرج عن "اليوغا"، ولم تنفصل عن أحلامها المحترقة مع التغيرات.. وقد تكون هذه الحالة، مركباً، أو مراكب، تنتشر على الموج، أو تحت الموج، لكنها، تترك آثارها على الكلمات، كما تفعل الأقدام العابرة نحو الشاطئ، وهي تترك بصماتها، وآثارها الزائلة على الرمال، أمّا الفرق بين تلك الآثار، فيكمن في زوال ما يتبقى على الرمال، وفي بقاء الروح داخل الكلمات، لذلك، هي المراكب التي كانت "نفْس" الشاعر الفرنسي "آرثر رامبو" في قصيدته "المركب النشوان"، والتي أعتبرها لا تنفصل عن قصيدته الأخرى "فصل في الجحيم"، كما تتداخل مع قصيدته "الأبدية"، وما كتبه من احتمالات يعتبرها البعض أقرب إلى الواقع المتأرجح بين الهذيان والجنون، إلا أنني أعتبرها الرؤيا الأكثر استغواراً، وغوصاً، في لجج الغيابات، والأعماق الكونية المتحولة إلى ذاتية، والذاتية المتحولة إلى كونية، وكأن إيقاع التبادل والانفراد يصيب دلالات الماء من أنهار وبحار وغيوم وعواصف، تصاب بالحمّى، مثلما تصاب ب "يقظة" الشاعر، الذاهب، أبداً، في "غيبوبة القصيدة"، وهي تمنح الكلمات "صحوة" من مفهوم شعري ما، فيصبح البحر قصيدة، والقصيدة مركباً، والمركب "أنا" الشاعر، الذي يبدأ بحالة طبيعية لمنحى الأنهار وهي تصب في البحر، لكنها تنحرف عن مألوفها لتصب في "القصيدة / الأعماق": "بما أنني أنحدر من الأنهار اللا مبالية، لم أعد أحسّني منقاداً من طرف ساحبي المراكب"، ويلي ذلك مشهد توصيفي للهنود الحمر، وعملية قتلهم، لترتفع الحركة إلى لحظة دخول "الذات" في الموج، كفصل من الموت ينبع من الفصل الرمزي والفعلي: "الشتاء الآخر":"في هدير مد البحر وجزره الغاضب، أنا الشتاء الآخر"، ولا يلبث أن يتحول الشتاء كفصل للماء إلى يقظة بحرية، تبدو مثل جثة أو سدادة فلين طافية، تكتسي حالة رمزية مبعثرة، متألمة، تشبه الضحية المنذورة، المتحولة إلى هيكل صنوبري، وماء أخضر، والمتراقصة في الحضور كما في الغياب، وكأنها "المركب النشوان" المائج في تلك "الأنا" المنقوعة بالنجوم:"باركت العاصفة يقظاتي البحرية، أخف من سدادة فلين، رقصت فوق الموج، لينادوا الناقلين الأبديين للضحايا عشر ليال، دون تحسر على عين المشاعل (الفوانيس) الحمقاء!(...) الماء الأخضر ينفذ إلى هيكلي الصنوبري(...) منذ ذاك الحين، وأنا أستحم في قصيد البحر، منقوعاً بالنجوم، ولبنياً، ملتهماً اللازوردات السماوية حيث طوف السفينة الشاحب، مشرقاً بالفرح، غريقاً متأملاً ينحدر أحياناً"، وتتوالى "الصور المجنونة شعرياً" لتعيد ترتيب الكون الداخلي، وتضيع في المكونات، والمدارات، وما يشبه ذاك السؤال الذي يفتتح، ويختتم، به قصيدته "الأبدية":"لقد تم العثور عليها! ماذا؟ الأبدية! إنها البحر الذاهب مع الشمس."، وقبل أن يتحول هذا الذهاب إلى سفر آخر، يخاطب الشاعر روحه، والروح الأخرى:"أيتها الروح المترصدة، لنهمس بالاعتراف، رغماً عن الليل الرديء، والنهار الموغل في النار"، وتتمرأى هذه الروح بتلك الجراح التائهة في القصب والناي، كما تتمرأى في ذلك الصوت الممزوج بين المد والجزر، القرب والبعد، حيث تلتغي المسافة كما يراها المتصوفة، والشعراء، ومنهم "جلال الدين الرومي"، مبتكر "المولوية" التي تشبه تلك "السفينة"، أو "المراكب"، المتحركة بين دوائر قاموسه الأساسي، المؤلف من حلقات ثلاث مفردات: "الناي"، و"النار"، و"النأي"، وما تنتجه من دلالات متعاكسة في نسق نصوصه، المرتفعة بالدوران بين الطوْفان، والطواف، والابتعاد عن جاذبية المحسوس، إلى جاذبية المجرد، تاركة ظلالها على الموج الروحي، الذي سبحت فيه روح "رامبو"، لتكون تلك العناصر في "أنشودة البحر" وهي تتداعى، بعمق غزير، أيضاً، وكأنها أبدية أخرى، إذا ما التقتْ مع مراكب الشاعر الفرنسي "سان جون بيرس"، حيث أعماقه المتجولة بدرامية، بين الحرب والسلم والحب، وما يحتدم فيها من صراعات، سواء في قصيدته "من زمن طويل أتذوق طعم هذه القصيدة"، التي يبدؤها بمخاطبة البحار، تهليلاً إلى الغوص في طريق لا تريد العودة إلى الزنازين المادية والمعنوية، بل تستمر في رحيلها باتجاه الفضاء المتسع، بلونه الأخضر البعيد، الذي يظل فجراً وشرقاً:"وأنت، يا بحاراً، كنت تقرأين الأحلام الأكثر اتساعاً، هل ستتركيننا ذات مساء إلى منابر المدينة، بين الساحة العامة وقضبان البرونز؟ أكثر رحابة، أيها الحشد، مجلسنا على هذا المنحدر من عصر بلا انحدار: البحر، هائلاً، وأخضر، كفجر في شرق البشر"، وتحتدم لحظة الرؤيا في مخيلة "بيرس"، فيستمر في الإصغاء بحواسه، وقلبه، لهذا العملاق، الذي يجعل الذات خارجة عن ذاتها، لترى القبر بلا جدران، ولا تراب، ولا حدود:"عبير الورد المأتمي لن يحيط بعد بسياج القبر"، كما أن النخل الرامز إلى الشجر، والطبيعة، والغوص، يظهر، وهو يتمتع بساعة حية، تدير الوقت، مع الفصول، لتتشكل دوامات من نوع آخر، تشبه الأسئلة التي تلي تلك الصورة المشهدية:"الساعة الحية في النخيل لن تسكت بعد روحها الغريبة: وشفاهنا المرة الحية، هل كانت كما هي الآن؟"، وفجأة، يتحول الماء إلى طبقات من النار المتسارعة، وكأنها موج ليس من موج، يسرد نصاً ما، ينادي بصوت، أو بصمت، يحرك المألوف ليظهر اللا مألوف:"في نيران اللج، رأيت الشيء الكبير المعيد يبتسم: البحر محتفلاً بأحلامنا، كفصح من العشب الأخضر"، يتسم التناقض بين العنصر المائي والناري بالارتفاع (عن) و(إلى) البحر، للاستماع إلى جوقته الخفية المنشدة كما لو أنها في "العيد الأخضر"، تعيد ما يصغي إليه جوف الشاعر، وما تكتبه جراحه، وهو ذاته الذي تحركه الرياح كعنصر ثالث/ الهواء، لتنجذب إليه خفاءات العنصر الرابع/ التراب، أو "الصلصال"، المجسد ب "أنا" الشاعر، المتضمنة لكل "أنا" قادرة على تشويش الحواس، للاستبصار في "اللا مرئي":"أغمر، أيها النسيم، ولادتي! ولتتجه رعايتي إلى ملعب الحدقات الأكثر اتساعاً! حراب الظهيرة تتمايل عند أبواب الفرح"، ثم يبرز طور آخر من الوجود، تتلاقى فيه معزوفات الطبول ومزامير الضوء، معلنة لحظة شروق، جوانية، جديدة:"طبول العدم تنحني لمزامير الضوء، والمحيط، من كل صوب يطرح عبئه من الورود الميتة، وفوق أرصفتنا الكلسية، يرفع رأسه الوالي!"، ويستمر "الإنشاد الخفي"، محركاً السواكت، والصوامت، والصوائت، متبعثراً، مثل البحر في أعماق الإنسان، وهنا، تبرز المعادلة الجمالية، في الحلول، والتبادل، والاكتشاف، بين البحر الذي فينا، والبحر الذي ننشده، والبحر الذي يمتزج بلا برزخ بين أمواجه الإنسانية والطبيعية والقصيدية: وهذا نشيد بحر كما لم ينشد أبداً، والبحر فينا هو الذي سينشده: البحر، محمولاً فينا، حتى تخمة النفس، حتى نهاية النفس، البحر، فينا، حاملاً، من لجه، هديره الحريري وعذوبته الكبيرة كلها من حظوظ العالم غير المنتظرة. وقد تكون "المراكب" رموزاً أخرى، تدل على الإنسان، وما يعيشه، وما يخفيه في آن معاً، مثل "أزهار الشر"، للشاعر الفرنسي "شارل بودلير"، وقد تكون "الكون الصغير" المتشاكل مع "الكون الكبير" في قصيدة "له المجد" للشاعر اليوناني "إيليتس" الحائز على جائزة نوبل عام 1979، ولا تبتعد مراكب "أوذيسيوس" في ملحمة "هوميروس"، عن حربه مع "الموج" و"الآخر"، وتأتي مراكب "أمل دنقل"، بهيئات مدارية، أهمها، ما كان في قصيدته "مقابلة خاصة مع ابن نوح"، المبنية على سرد شعري حكائي، يريد أن يكون ملحمياً، يبدأ من "طوفان نوح"، وما يعكسه من دلالات موروثة، ونسقية، جاعلاً الموج يغمر المدينة وموجوداتها المكانية، ببطء، لينساب إلى الأعلى، بتناغم طبيعي: جاء طوفان نوح! المدينة تغرق شيئاً.. فشيئاً تفر العصافير والماء يعلو. بين الماء والماء، تبدو، "أنا" الشاعر، هي "نحن الجموع"، و"المدينة"، و"الشعب"، و"الوطن"، و"الشباب" الذين يمنعون جموح الموج، ويرفضون الهرب إلى السفينة التي اتجه إليها "الجبناء"، و"النازحون"، وبعدما، يهدأ الطوفان، نجد كيف "الموجة" تكون "الجبل"، وكيف "الجبل" هو "الشعب"، و"الشعب" هو "الوطن" و"المدينة":"كان قلبي الذي لعنته الشروح، يرقد الآن فوق بقايا المدينة، وردة ً من عطن، هادئاً.. بعد أن قال لا للسفينة، وأحب الوطن". "سفينة دنقل" مختلفة عن المراكب، لأنه رفض الصعود إلى سفينة الهروب، وجعل من جسده، سفينة أخرى، تحطمت مع الطوفان، ولم تغادر، لم تمُتْ أيضاً، لأنها تحولت إلى "وردة"، بما فيها من دلالات الحياة، والتشبث، والتناسل، والتحول، بشكل أبدي، إلى موج ومراكب وجذور. ويتخذ الموج غنائيته العابرة للبحار، مع رقصات مراكب "درويش"، التي تروي عن العشق، والأرض، والحصار، والحرب، والسلام، فماذا لو قرأنا مشهداً من قصيدة "تلك صورتها"؟ بكل تأكيد، لاكتشفنا، كيف تنمو المساءات، والصباحات، في قلب "العاشق/ الشاعر"، وكيف ترحل، أو تُرحَّل، المسافات، مع السماء، والدماء، والنخيل، والأرض، فتبدأ من "الصورة/المشهد/ الغاية"، وتنتهي بتكرار الريح رباعاً، في توكيد واضح على الحركة، والتحولات، التي لا تركن على حال، خاصة إذا كان هذا الموج وطناً: حدقت في جرحي سأتهم المدينة بالعذوبة والجمال الشائع الموروث.. من جبل جميل، هبطت نساء من قشور الضوء جاء البحر من نومي على الطرقات جاء الصيف من كسل النخيل أحصيت أسباب الوداع وقلت ما بيني وبين اسمي بلاد ليس لي لغة ولكني أسميك البديل بينما تطير مراكب "أدونيس"، باتجاه التجريد، فاتحة شبكة الذاكرة على شِباك الحلم على بوابات المخيلة، وهذا ما نجده من "غمر" في كتابه الصادر، مؤخراً، عن مجلة "دبي الثقافية": "فضاء لغبار الطلع"، حيث تتحاور "الأنا" مع أعماقها، بارقة، صاعقة، مائجة، متسمة بمحاورة أقرب ما تكون إلى "مواقف النفري": "يصعد على سلم الرؤيا محفوفاً بالعتمة، ويهبط مغموراً بالضوء/ ص55"، صعود وهبوط بين المتناقضات، تعيد تركيبه "حالة الغمر"، التي تتمادى داخل حالتها، ديالوغياً، لتشف وراء متناقضاتها السوداء والبيضاء، من عتمة وضوء، ولا وعي ووعي، وتلاش ٍ وتكوّن: باب اللا شيء مفتوح دائماً على كل شيء. سأله الضوء: هل تسمع صراخي عندما أخرج من رحم الشمس؟ الذاكرة كتاب مفتوح، اقرأه إن كنت فرحاً وأغلقه إن كنت حزيناً. قال لأقفاله: أنت المحيطات، وقال لأمواجها: خذي المفاتيح. يكتب كمن يزرع وردة، لغاية واحدة: أن يلبي رغبة العطر. وهكذا، تتسارع توترات التغير من اللا شيء إلى كل شيء، مروراً بالعناصر المتحولة، من ضوء وشمس، كتابة وقراءة، ذاكرة وحلم، محيطات وأمواج، مفاتيح وأقفال، وفي الخاتمة "الوردة" المتجذرة بين هذه الدلالات، واحتمالاتها القادمة، المختزلة ب "العطر" كحالة متحولة، ومنتشرة، في الأعماق، وخارج العناصر. إذن، المراكب هي المزامير والأغنية، الرمز والإيقاع، الصورة وهيولاها، التحولات الباطنية والظاهرية، الاندغام مع الوجود واللا وجود، بغية الانزياح، بعيداً عن أي محدود، قريباً، من الذي لا يُحد ّ ولا حتى باللغة، لكنه يعكس فضاء آخر للمعاناة لا تقلّ عن المركب الطائر الذي يفخر به الفينيقيون "السمندل/ الفينيق/ العقاب".. كائنات متنوعة شكلت دلالات للمراكب، بعضها من الأخشاب التي تستعيد ذاكرتها من الغابات والفصول، وبعضها من الورد الرمزي، أو الضوء، أو الرماد، وبعضها الآخر مجرد، يريد أن يتجسد ويكون بهيئات وصور مختلفة.. ومهما تكن صورة المركب، وحركته، فهو يتضمن "الرحيل"، "السفر"، "المغادرة"، "المغامرة"، "الخوض"، "الشطح"، الخروج عن الزمان والمكان، الدخول في العالم اللا منتهي، واللا محدود، المحتمل واللا محتمَل، وسوى ذلك، مما يدل على "الحركة"، سواء في الابتعاد، أم الاقتراب، أم التلامس مع العناصر الكونية للانطلاق في بيئة خاصة، ارتبطت بالجبال "التراب"، مع البحار "المياه"، مع الرياح والأعاصير "الهواء"، مع تغيرات الفصول، وما تضفيه "الشمس/ النار" على الحركة المدارية لمجرتنا في الفضاء، ومن معنى آخر، ما تنتجه الحالة النفسية، الروحية، كمركب أو مراكب، من طقوس داخلية، وعناصر مختلطة، تضيء العناصر الذاتية والموضوعية، لتتمرأى بالأعماق والتشكلات والأسئلة، وتظل الكلمة الأكثر نزيفاً، هي المركب الأبعد، الغائر في الأبدية والأزلية، وما بينهما من كينونة وأكوان. تلك هي المراكب التي نحاول الوصول، وذاك هو الموج الذي بلا موج، لكنه يتشكّل دوامات ٍ من أغان، وأعماق، تعزفها هواجس اللهب.