قبل نحو ستة أعوام أصدر زاهي وهبي ديوانه الثالث "في مهبّ النساء" وكان كما يشير عنوانه، ديوان حب وغزل وفيه بدا الشاعر كأنّه يبحث بإصرار عن صوته الذي كان ظهر في ديوانه الأول "حطاب الحيرة" 1990 والثاني "صادقوا قمراً" 1992. حينذاك لم تكن "النجومية" حلّت بأضوائها على هذا الشاعر الشاب الآتي من المعاناة الجنوبية والنضال الحزبيّ فكان ديوانه الثالث من أجمل أعماله سواء بألفته الشعرية وبساطته الجمالية أم بتجربته الحية لغة وعشقاً. ربما كان زاهي وهبي كتب قصائد ذلك الديوان قبل أن تخطفه الإطلالة التلفزيونية وما يترتب عنها من شهرة وضوضاء، وهي في أي حال من الاطلالات التلفزيونية النادرة، لبنانياً وعربياً، كون زاهي وهبي صحافياً مثقفاً وفق ما تتطلب الصحافة وخصوصاً الإعلامية وذكياً و"مشاغباً" في أحيان، على خلاف الكثيرين من مقدّمي البرامج و"مقدماتها". وهو لا يُعدّ مجرد "مقدّم" بل هو صانع برنامج ومحاور يعرف كيف يسأل وكيف يجيب وكيف يستمع الى ضيفه، وأحياناً يكون أهمّ من بعض ضيوفه وأعمق منهم. إلا أن ديوان زاهي وهبي الجديد "ماذا تفعلين بي؟" منشورات رياض الريس، 2004 لا يحمل سمات التجربة التي خاضها الشاعر كواحد من جيل الحرب اللبنانية أو ما بعدها. فالسنوات الستّ التي مضت على صدور ديوان "في مهبّ النساء" التهمت الكثير من شعرية زاهي وهبي، لكنها جعلته في المقابل "نجماً" تلفزيونياً حقيقياً. فالديوان الجديد وهو الرابع في مسار الشاعر ليس في أهمية الأعمال السابقة وقد يكون تكراراً لها، سهلاً ومفضوحاً، علاوة على تأثره المباشر بشاعرين حاضرين بقوّة، هما أنسي الحاج كشاعر حب ومحمود درويش كشاعر نضال وحب. والتأثر يبلغ في أحيان حدّ التقليد القائم على استخدام مفردات وعبارات شائعة لدى هذين الشاعرين. وقد لا تروق محمود درويش القصيدة التي أهداه اياها زاهي وهبي وعنوانها "تليق بك الحياة" وبدت كأنها "معارضة" شعرية خفيفة لديوان وقصيدة محمود درويش "لا تعتذر عمّا فعلت". فهي تدعوه الى رشق "الجندي بحجر" والى "القتال" والى العودة "مفتول الساعد" والى المشي "منتصب القامة" وهذه جملة من قصيدة لسميح القاسم... كلّ هذه الأمور تخطاها محمود درويش في "أعماله الجديدة" كما يدلّ عنوان الأعمال الأخيرة الصادرة لدى الريس الى عالم أشد عمقاً وتوهجاً، عالم مفتوح على الإنساني والكوني والجمالي والحلمي. ولم يعد يهم محمود درويش أن يعكّر غناؤه "مزاج الجنرال" الاسرائيلي ولا أن تغيظ ابتسامته "الجندي المكفهرّ خلف بندقيّته" كما يعبّر وهبي، فشعره بات في مرتبة "الفعل" وليس "ردّ الفعل" وقد أحدث شعره الجديد ثورة في المخيّلة والذاكرة العربيتين بعدما ارتقى الى مصاف الوعي الجمالي الباهر والصنيع الفريد. هل قرأ زاهي وهبي جيداً أعمال درويش الجديدة؟ قد يبدو الجواب متعثراً كون شعر وهبي يجاهر بتأثره به ولكن تأثراً عرضياً لئلا أقول سطحياً. فهو "يستعير" منه بعض "المطالع" القديمة والجمل والصور: "لرنا أكتب هذا المساء/ لضحكتها الأسيرة..."، يقول وهبي في مطلع احدى قصائده، وفي قصيدة أخرى: "حبيبتي صغيرة/ أكبرها بعشرين حباً/ وتصغرني بمليون حديقة..."، وعندما يكتب وهبي عن "البلاد" يبدو كأنه يكتب عن فلسطين، البلاد - الرمز، مثلما كتب عنها درويش: "عن بلاد تتضاءل في الخريطة/ وتتسع في صوت المغني ووصايا الشهداء" يقول وهبي. ويستعير كذلك رمز يوسف استعارة سلبية ليقول: "لست يوسفاً والصحيح يوسفَ لأنها ممنوعة من الصرف ولا أريد اخوتي"، ورمز الشاعر - المغني أيضاً الذي "ينصب شراكاً للعاصفة/ ويغني تحت المطر" كما يقول. ويمضي زاهي وهبي في تلبّس "مواقف" محمود درويش حتى ليخال حبيبته محاصرة كحبيبة درويش في قصائده القديمة: "كيف آتيك والجند عند باب دارك؟" يقول وهبي أو: "هنا أعمّر لك بيتاً/ لا تقوى الدبابة على هدمه ولا يدخله الغزاة". ترى، هل يكتب زاهي وهبي - النجم - عن حبيبة جنوبية في الشريط الحدودي بعدما تخلى عن نضاله قبل سنوات غير قليلة؟ ثم ألم يندحر الاحتلال الاسرائيلي للأراضي اللبنانية؟ أم لعل حبيبته هي في مزارع شبعا المختلَف على هويتها؟ هذا أثر محمود درويش الظاهري أو الخارجي في شعر زاهي وهبي الذي يستحيل عليه الآن في أوج نجوميته أن يحب فتاة من الجنوب الفقير. بل هي ربما ذاكرة وهبي الأولى تستفيق مثلما استفاق فيه "الفتى الذي كان..." في قصيدة "لن يعرفك أحد" وهي بمثابة "فعل ندامة" ولكن متأخر عن الحاضر الذي لم يعد يشبه الماضي أبداً. اللافت في الكثير من قصائد الديوان بروز نبرة ايقاعية تحاول التماهي مع مطالع قصائد التفعيلة ومع بُناها ولكنها تفشل ايقاعياً وتتحول بعض القوافي كما في قصيدة "شمس صدئة" و"أغنية لرنا" وسواهما الى قوافٍ تسجيعية تبعاً لخروج الشعر هنا عن الايقاع التفعيلي. وأصلاً لم يسع وهبي الى كتابة قصيدة تفعيلية، هو الذي يعتبر "شعراء التفعيلة والمناسبات" من أعدائه كما يعبّر في قصيدة "لا وقت لسواك"، لكنه أثر محمود درويش يحفزه على أن يكون شاعراً - مغنياً. وهذه صفة باتت قديمة واستنفدت تماماً ليس عربياً فقط وانما عالمياً أيضاً. ومن يرد أن يكون شاعراً - مغنياً ينبغي له الآن أن يأتي بجديد ما، لغة وتعبيراً. أما الشاعر - المغني الذي يتمثله زاهي وهبي فهو ليس أكثر من مناضل يقول الشعر ويحمل الكمان والبندقية. ومواصفات هذا الشاعر ترد لدى وهبي مثلما وردت سابقاً وقديماً لدى شعراء المقاومة الفلسطينية: "كيف تصلك أغنيتي الآن؟" يقول، أو: "أحمل كماني" أو: "أغنية تضيء ليل المنفيين" أو: "بلاد لا تنصت للمغني" أو: "تقتني كماناً وبندقية... تغنّي وتقاتل...". لقد انطوت صورة الشاعر - المغنّي في اطارها النضالي مع انطواء "الخطاب" السياسي البلاغي والانشائي وأصبح شعر المقاومة أعمق من الخطب التي تثير الحماسة و"الطرب" النضالي. ولا أحد يدري لماذا لن تصل أغنية زاهي وهبي الى حبيبته؟ وليته وظف أسطورة أورفيوس هنا، شاعراً ومغنياً استطاع أن يسحر الآلهة القديمة. استعادة الماضي؟ يحاول زاهي وهبي جاهداً استعادة تجربته السابقة قبل أن يمسي نجماً تلفزيونياً وكذلك "الالتزام" الذي عاشه ببراءة انسانية وكأنّه يشعر في قرارة نفسه أنه أصبح غريباً عن الشاعر الذي كانه ذات يوم. ولعل قصيدته الضعيفة جداً وذات "الكليشهات" المستهلكة عن الشاعر الاسباني القتيل لوركا خير دليل على هذا الإحساس الداخلي الذي يساوره ويؤرقه. فهو يكتب قصيدة عن لوركا من دون أي مناسبة ولا حافز. وقد سمّى القصيدة "ليلة مقتل لوركا"، علماً أنّ لوركا - كما هو معروف جداً - قتل عند الفجر قتلاً مشهدياً ومأسوياً. ويجعل وهبي من نفسه في القصيدة قرين لوركا الذي كان "يصارع الثور وحيداً"، فيما لوركا وحده أيضاً يسأل عن قمره. وليت وهبي قرأ قصيدة بابلو نيرودا التي رثى فيها لوركا غداة مقتله فهو ما كان ليكتب هذه القصيدة المفتعلة والشديدة الانشائية مثلها مثل قصائد كثيرة في الديوان. وان بدا أسلوب محمود درويش مهيمناً على قصائد عدّة فإن أثر أنسي الحاج يبدو بدوره جلياً في "النَفَس" الشعري والصور والعبارات: "كأنك طفلتي التي أشتهي أن تلديها لي" أو: "في الخارج شعراء/ تباً لهم". وقد قال أنسي الحاج جملة أصبحت بمثابة مقولة شعرية شهيرة: "تبّاً للشعراء لولا ضجري منهم لما كتب الشعر..." ويقصد هنا مدح الشعراء ولكن سلباً، فالكره هو الوجه الآخر أو الخفي للمحبة أو الألفة. أما أثر نزار قباني فيبدو لافتاً أيضاً وإن في صميم المواقف التي تجاهر القصائد بها: "أعتذر من السادة الشعراء لأنني لم أجد لديهم/ ما يليق بخصرك". وقد يكون مفاجئاً بروز أثر التلفزيون على شعر وهبي ليس في لغته فقط وانما في بعض "اللقطات" كأن يقول: "ابتسمي للكاميرا، للمارة وعابري السبيل/ ابتسمي مباشرة على الهواء". وهذه جملة سطحية جداً وفاشلة في استحضار عالم التلفزيون الذي نجح شعراء كثيرون في توظيفه في قصائدهم المابعد - حديثة. ولعلّ همّ وهبي التلفزيوني أوقعه في الكلام الانشائي المباشر حتى غدت بضع قصائد كأنها رسائل موجهة الى امرأة ما، وحافلة بمواقف مختلفة، لوماً وعتاباً، حباً وكراهية. وأخطر ما فعل "الهم" التلفزيوني بشعر وهبي أنّه حوّله متكأ له عوض أن يكون رديفه أو قرينه. كان شعر زاهي وهبي في السابق يسبق "الهمّ" التلفزيوني ويدعمه ويمنحه بعداً آخر، أما اليوم فأضحى الشعر وراء هذا "الهمّ" وتابعاً له وربما ضحية له. أصبح الهم التلفزيون هو الأساس فيما الشعر فعل هامشي. وكان من الطبيعي أن تتسطح شعرية وهبي إزاء الاغراء الإعلامي والإطلالة الجماهيرية والنجومية الباهرة. ولم يكن بريئاً هو نفسه في اخضاع الشعر لمصلحة الشاشة والشهرة، وفي جعله مطية اضافية للنجومية أو خلفية لصورة الشاعر - النجم. وكم كان يطيب لزاهي أن يمتدح ضيفه أو ضيفته خصوصاً الشاعر الذي فيه، ولكن طبعاً بعد مدح النجم التلفزيوني الذي صار اليه. قصائد حب بديهية، حافلة ب"الكليشهات" الرواسم والكلمات الرنّانة والمواقف التي تدّعي الابهار، قصائد حبّ لا نار فيها ولا قلق ولا حيرة ولا عشق، قصائد تثرثر وتتكلم وترصف الجمل رصفاً والشعارات والكلام الكبير الذي لم يبق من أثر له: "رافقيني قليلاً/ لتحلو الحياة..."، أو: "مرة تأخّر الغيث وجاء الغزاة/ قلت أحبك/ فانهمر المطر..."، أو: "أكتفي بعينيك الوثنيتين/ أطل منهما/ أرى: الله يرتب الريح والفصول..."! يا لهذا الشعر العاطفي المصطنع والخلو من الوجد والحرقة والمستسلم لليقين والفرح الخارجي. ويمضي الشاعر - العاشق في خرافته حتى ليصبح "الآمر الناهي" عندما يقول لحبيبته: "أحبك"، ويضيف جملة الأمر الإلهي كن من دون أن يعي معناها الميتافيزيقي العميق. أما القصائد القصيرة جداً التي ضمّها الديوان فلم تأتِ بدورها بأي لمعة ما عدا مقطوعة أو مقطوعتين. وفي مثل هذه النزعة لم ينجح الشاعر في قطف اللحظة الشعرية التي تحتاج الى الكثير من الرهافة والوعي الشعريّ.