تواجه المجتمعات العربية اليوم تحديات كبيرة بسبب الاخفاقات المتلاحقة التي توالت عليها في العقود الاخيرة وبخاصة منذ بدايات عصر العولمة الذي أخذ يضغط بقواه الاقتصادية والثقافية والسياسية، بصورة مباشرة وغير مباشرة عليها وعلى الانظمة السياسية التقليدية المتخلفة، من اجل تطبيعها او تطويعها للسير في طريق الاصلاح الشامل والتحديث المستمر وبناء الدولة الديموقراطية الحديثة التي تقوم على التعددية واحترام حقوق الانسان. وعلى رغم ان الاصلاح هو في مقدم أولويات التغيير والتنمية والتحديث من قبل القوى الاجتماعية الا ان المجتمعات العربية ما زالت راكدة في كثير من جوانبها، ليس قياساً مع الدول الصناعية الكبرى وانما بالنسبة الى دول شرق آسيا على اقل تقدير، وبخاصة في بناء اسس الدولة الحديثة ونشر الديموقراطية واحترام حقوق الانسان. ان الاصلاح والتحديث في المجتمعات العربية يحتاج الى جهود كبيرة تتجاوز الاطر التقليدية الراكدة للدخول في عصر الحداثة والعولمة الذي هو حاجة ضرورية ماسة لا بد منها اذا اراد العرب ان يتقدموا في مضمار العلم والتقنية وتحديث المجتمع. فالتحديث ليس مجرد تغيير من حال الى أخرى، وانما هو سيرورة تاريخية واجتماعية مستمرة لا حدود لها ولا تتوقف عند درجة من درجات التطور والتقدم ولا تتعلق فقط بتبلور العلم والتقنية والاقتصادية والسياسية فحسب، وانما تتعلق بنظرة الانسان الى نفسه والى الآخر والى الكون والحياة، وكذلك الى مكانته فيه وعلاقته بمنظومة القيم والمعايير وطرائق التفكير والعمل والسلوك وما يتصل بحياة الانسان في الزمان والمكان. كما ان التحديث يتجاوز القيم والمعارف والتقنيات الى اعادة تشكيل الانسان الحداثي من حيث هو مفهوم تنويري يخرج الانسان من قصوره الذي اقترفه بحق نفسه كما يقول كانط، هذا القصور الذي نتج من عجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر، لأن الذنب في هذا القصور يقع على الانسان نفسه الذي لا يفتقر الى العقل وانما الى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من انسان آخر. هذه المبادئ العقلانية التنويرية هي التي قادت اوروبا الى التقدم العلمي والتقني والاقتصادي والاجتماعي، وهي مبادئ انسانية عالمية وليست اوروبية حتى لو كان الاوروبيون قد سبقوا الدول الاخرى في تطبيقها بعد ان توافرت عندهم ظروفها وشروطها الموضوعية. فقط بنور العقل نهضت اوروبا وتقدمت. ولم تتساءل من اين اتى الاصلاح والتحديث، من الخارج ام من الداخل؟ المهم هو ان يحدث اصلاح وتنمية وتحديث وفي جميع مرافق الحياة، لانه الطريق الوحيد للتقدم الاجتماعي والدخول في الحداثة. أما رفض الاصلاح والتحديث فهو رفض لجوهر الحداثة وقيمها التنويرية: العقلانية والتقدم والحرية والمساواة الاجتماعية. كما ان الخوف من الاصلاح هو خوف من الحداثة ذاتها اي خوف من التنوير والتغيير والتقدم وادخال الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي الرسمي في مأزق يكشفه تخلفه وعجزه وغربته عن المجتمع الذي يعيش فيه وذلك بسبب الخطاب الابوي الاستبدادي الذي يتربع على السلطة والثروة والجاه، وكذلك بسبب الهوة العميقة التي تفصل بين هذه السلطات وبين المواطنين وعجزها عن مواجهة جوهر الحداثة وتحديات العولمة وثورة الاتصالات الالكترونية الجديدة، وفي الاخيرة مواجهة الردة الثقافية - السياسية التي افرزتها هذه التحديات وبخاصة الحركات المتطرفة والارهابية والسياسات الرجعية وما صاحبها من احداث دموية شهدتها بدايات هذا القرن التي تعيدنا دوماً الى ما يدعى بمقولات الصراع الثقافي والحضاري التي هي تبرير لها. ان مؤشرات ازمة المجتمعات العربية وتأزمها أصبحت اليوم اكثر وضوحاً وإحراجاً، فما من اصلاح وتحديث طاول الجانب المادي والسطحي المباشر، وبخاصة في المدن الكبرى، وارتبط بتحديث الدولة والسلطة والمؤسسات العسكرية والاقتصادية ودخول عناصر المدنية المادية ومنجزاتها الاستهلاكية من دون عناصر الحضارة ومنجزاتها المعرفية والسياسية. اما الريف والمدن الصغرى فما زالت الظروف والشروط الاجتماعية والاقتصادية التقليدية المتخلفة تعيق عملية الاصلاح والتحديث وذلك بسبب تحكم النظام الابوي والاعراف والتقاليد القبلية التي ما زالت تقف حاجزاً امام ممارسة الحرية والتقدم الاجتماعي وسيطرة التيار الديني اللاعقلاني الذي يناهض كل تجديد وتغيير وتقدم اجتماعي. والمفارقة ان المجتمعات العربية والإسلامية تتقبل الحرية الاقتصادية وتطالب بالحرية السياسية، ولكنها في الوق تذاته تناهض التعددية والديموقراطية وتجعل الثقافة حكراً على فئة اجتماعية او طائفة معينة، لانها تعلم تماماً بان قضية الحرية والتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر هي قضية التحديث والحداثة. وتعلمنا تجارب الشعوب بان اليابان او بالاحرى العقل الياباني المتفتح يتقبل الحداثة، بسبب عدم وجود نصوص مقدسة لا تقبل النقاش والتأويل، وان فصل الدين عن السياسة لا يعني فصله عن المجتمع. وبسبب العقلية المتفتحة التي لم تغلق باب الاجتهاد، كما فعل العرب والمسلمون تقدمت اليابان في مضمار التحديث والحداثة على رغم حفاظها على عاداتها وتقاليدها واعرافها القومية الى حدود بعيدة. من يقاوم الحداثة ليس الدين او العقيدة والمذهب، وانما التقاليد والعادات المتحكمة في عقلية الجماعات الفرعية والطائفية المنغلقة على نفسها التي تريد الحفاظ على هويتها كما هي وخوفها من الذوبان، وكذلك من ضرب مصالحها وامتيازاتها. وكذلك السلطات الاستبدادية المتحكمة التي لا تريد التنازل عن مواقعها السياسية ومصالحها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية، ولذلك تجدها تختلق التبريرات الواهية لمقاومتها. والحال ان الدخول في عصر الحداثة اصبح خياراً لا رجعة فيه ومن يتخلف عنه يفوته القطار ويصبح مهمشاً وربما يخرج من التاريخ، لأن رياح التغيير والاصلاح والتحديث ستدخل المجتمعات ليس من ابوابها الخلفية كما كان يحدث في السابق، وانما من اوسع ابوابها، وتصبح ممارسة لتغيير نمط الحياة وطرائق التفكير والعمل والسلوك بما ينسجم وروح العصر وتكون بالتالي القدرة على مواجهة التحديات التي تفرضها العولمة وثورة المعلومات الالكترونية والسيطرة على الوجود وتحويل الامكانات المتاحة الى قوة ديناميكية مبدعة تستطيع التحكم بآلياتها المتعددة. وأخيراً، فالحداثة ليست وهماً ولا تنزل علينا من السماء، وانما هي مشاركة وتفاعل وإنتاج وإعادة انتاج وابداع يقوم على ممارسة الحرية والتعددية والعدالة الاجتماعية التي من الممكن ان توفر فرصاً أكبر وأوسع لتحقيق سعادة الانسان. * كاتب عراقي مقيم في لندن.