تمر الأيام والسنون وتبقى الأحداث الكبرى في التاريخ، قديمه وحديثه، أحداثاً كبرى! لا فرق. بين حدث وآخر، ما دام الأمر يتعلق بالتاريخ. لكن بعض الأحداث التاريخية يظل حاملاً في ذاكرة الشعوب المعنية به نكهته الخاصة، كما لو أنه حدث البارحة. من هذه الأحداث ثورة تموز يوليو 1952 المصرية. فهي عبرت، على رغم التعرجات التي مرت فيها، عن مطامح وأحلام كبيرة في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية حملها أصحابها بشجاعة الى الشعب المصري والى الشعوب العربية كافة. وإذا كانت ظروف داخلية، في مصر وفي الوطن العربي، ذاتية وموضوعية، وإذا كانت ظروف خارجية من أنواع شتى، حالت دون تمكن هذه الثورة من تحقيق تلك المطامح والأحلام، فإن أهميتها تكمن في أنها وضعت معالم الى ذلك الطريق، بعضها واضح في صوابه وفي خطئه، وبعضها في حاجة الى الوضوح في الاتجاهين. وهي تجربة في النضال لتحقيق التغيير لم تلق ما تستحقه من البحث والتحليل والاستنتاج، على رغم كثرة ما كتب عنها، مصرياً وعربياً وعالمياً. على أن الحديث عن ثورة يوليو يقتضي الغوص في البحث عن أبطالها وعن جذورهم الاجتماعية، وعن مدى ارتباط كل منهم بأهدافها، من البداية الى النهاية. ومن الطبيعي أن يقترن ذلك البحث بالتدقيق في الفوارق بين كل من هؤلاء الأبطال، الفوارق في الأدوار التي لعبوها، ايجاباً وسلباً. وسيكون من الطبيعي أن يجري التوقف بعمق عند الدور الأساسي للرئيس جمال عبدالناصر، الذي لا يمكن الحديث عن هذه الثورة من دون الحديث عن دوره فيها، منذ البدايات وحتى لحظة الغياب المبكر لهذا القائد العربي الكبير. وغني عن التأكيد بأن الثورة وقائدها هما توأمان. وفي ذلك التأكد اشارة الى أمرين، أمر ايجابي وأمر سلبي. وعلينا، ونحن نبحث في تلك العلاقة الموضوعية بين التوأمين، ألا نهمل هذين الأمرين. فالزعيم، الذي تنتجه ظروف بلاده التاريخية والاجتماعية هو، بالتأكيد، ظاهرة لا يجوز تجاهل أهميتها. لكن الظاهرة ذاتها تحمل، دائماً، تناقضاتها والتباساتها. فالزعيم، من هذا النوع التاريخي، الى جانب أهميته كظاهرة، يلغي - كما تشير الى ذلك جميع الأمثلة في التاريخ القديم والحديث - دور المجتمع، ودور القوى الحية فيه، أو يضعفه ويضعفها. ولذلك فإن على الباحثين في ثورة يوليو أن يواجهوا جميع الوقائع، وجميع الأدوار، الحقيقية منها والمفترضة والمهمشة، في صنع تلك الوقائع، لكي يكون بالإمكان الوصول الى استنتاجات تخص الحاضر والمستقبل، تستخلص من الثورة كحدث تاريخي مضى. ومهمة جميع الباحثين عن أفق للتغيير في بلداننا، من خلال إصلاح ديموقراطي حقيقي، هي في معرفة كيف نستفيد من الصواب والخطأ في تلك التجربة، بعد أن أصبحت جزءاً من الماضي. فلعل ذلك يقودنا الى تصحيح مسار حركة التطور في بلداننا، في ظل هذه الحقبة المضطربة من تاريخ البشرية، وفي ظل انفلات القوى الهمجية من عقالها، وهجومها بكل أدوات القمع والقهر على مصالح الشعوب ومصائرها، ومنها شعوبنا العربية. هنا تبرز أهمية دور المثقف العربي. لكن هذا الدور للمثقف يبقى من دون تأثير إذا هو لم يستند الى قوى التغيير المنتظمة في حركة واضحة الأهداف والمهمات وواضحة في تحديد آليات نضالها من أجل التغيير. لهذا لكلام وظيفة مختلفة، فالتذكير بالأحداث الكبرى في تاريخنا، وفق العادات التي أشير اليها، يترافق مع الحنين الى الماضي، والتطلع الى استعادة ذلك التاريخ كما هو، من دون زيادة أو نقصان، كما لو أنه الحقيقة التاريخية المطلقة التي صنعتها قوانين التاريخ أو مصادفاته الشبيهة بتلك القوانين. فالناصريون القدامى وحتى الجدد منهم، إذ يتذكرون ثورة يوليو وقائدها جمال عبدالناصر، لا يجرؤون على الحديث عن أسباب انهيار الثورة وزوال آثارها، ولا يجرؤون على البوح ببعض ما ارتبط بقيامها وبشخص بطلها الأساسي من أخطاء بنيوية. وبالتالي فهم، حين يحلمون بعودة البطل القديم الى الساحة في الزمن الراهن، فهم يعتبرون أن مجيء هذا البطل المخلص هو الحل السحري لمأساة الحاضر. ولقد سمعت كلاماً صريحاً بهذا الشأن من أحد كبار رموز الناصرية حين قال تعقيباً على كتاب كان قد صدر لي حول الأزمة التي تواجهها حركة التغيير في بلداننا، ما معناه انه لا حل لأزمتنا الراهنة الا ببطل جديد من نوع جمال عبدالناصر وقامته! ويتساوى في هذا الأمر مع الناصريين، أولئك المتباكون على الاتحاد السوفياتي القديم ونموذجه للاشتراكية الذي جرى تعميمه على امتداد ثلاثة أرباع القرن، تماماً مثلما هي حال الذين ينتظرون مخلصيهم المتعددي الأسماء، المتشابهي الوظائف الكبرى التي تعطى لهم. وعلى رغم أن جميع الشعوب التي تواجه المصاعب والآلام والمآسي في حياتها تمارس مثل تلك الأحلام من أجل التخلص من تلك المتاعب والآلام والمآسي، إلا أن ما يعنينا من هذه التجارب في بلداننا العربية يفوق كل المقاييس. والأمر هنا لا يقتصر على محاولات استحضار التواريخ الحديثة وأحداثها وأبطالها والحلم باستعادتها واستعادتهم من دون تعديل في الأهداف والسلوكيات، بل هو يتعدى تلك الأحداث وأبطالها الى التاريخ القديم جداً، التاريخ الذي مرت على انقضائه قرون عدة. ألا يشير الى ذلك شعار حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يتحدث عن أمة واحدة ذات رسالة خالدة؟ فما المقصود بالرسالة الخالدة لتلك الأمة الواحدة؟ واضح من الشعار ان ثمة محاولة لرؤية متخيلة لأمة عربية كانت موحدة في التاريخ القديم وان رسالتها الخالدة هي اليوم الرسالة ذاتها لذلك التاريخ. وواضح، أيضاً، أن المقصود بالأمة العربية، هنا، الأمة التي ارتبط فيها الجنس العربي بالأجناس الأخرى في الانتماء الى الإسلام، خلال فتوحاته الكبرى، التي تشكلت على أساسها الامبراطورية العربية الإسلامية، والحضارة العربية الإسلامية، والفلسفة العربية الإسلامية، والقومية العربية الإسلامية. ولعل هذا الأمر بالضبط هو الذي قاد مؤسس حزب البعث ميشال عفلق الى ما يشبه التوحيد بين العروبة والإسلام في بعض كتاباته ومنها بالأخص ما جاء في مقاله الذي كرسه لذكرى الرسول العربي. لا أريد، هنا، أن أدخل في نقاش حول العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي علاقة معقدة لا تختصر بكلام قليل. ولا أريد الدخول في تحديد فهمي للقومية العربية وللأمة العربية في قديم تاريخنا وفي حديثه، فلهذه المسألة مجال آخر. لكن ما أريد أن أنتهي اليه في هذه الإشارة السريعة الى تقاليدنا المتواصلة والمتأصلة فينا، هو أننا أصبحنا اليوم في حاجة ماسة لأن نغير هذه التقاليد، وان نكف عن البقاء في أسر أحلامنا، وأن ننتقل الى حقل آخر من البحث الحقيقي عن حل مشكلات حاضرنا، وذلك باللجوء الى علاجات العصر الذي نحن فيه، بدلاً من استخدام عقاقير السحرة والمنجمين! تلك هي المسألة، وتلك هي المهمات المرتبطة بها، المسألة والمهمات التي يفترض بأحزابنا وبمؤسساتنا المختلفة وبمثقفينا ونخبنا أن يحملوها كمهمة تاريخية راهنة ومستقبلية، استكمالاً لما حاولت ثورة يوليو أن تفعله، ولم تنجح. وحين تنهض تلك القوى للاضطلاع بتلك المهمة التاريخية تكون ثورة يوليو قد انتصرت، ولو في شكل مختلف، وبأدوات مختلفة، وبالاستناد الى قوى جديدة هيأتها شروط العصر في بلداننا، أسوة بما يحصل في العالم اليوم من تحولات. * كاتب لبناني.