سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رشحه بن غوريون لرئاسة اسرائيل . مواقف ألبرت آينشتاين من الصراع العربي - الصهيوني : السياسة أصعب من الفيزياء
نشر في الحياة يوم 20 - 08 - 2002

كان حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وأول رئيس لدولة اسرائيل يصف ألبرت آينشتاين ب"القديس اليهودي"، وكان الزعماء الصهاينة يستخدمون اللقب في الغالب للغمز من "سذاجة" آينشتاين السياسية. لكن عالِم الفيزياء لم يكن ساذجاً بالقدر الذي يجعله ببراءة القديس، كما لم يكن مسيّساً بما فيه الكفاية لكشف هوية الوطن الذي يخطط الصهاينة لإقامته، وأساليب العنف التي كانوا يعدّونها لتحقيقه. هنا بحث في تطور نظرة آينشتاين الى اسرائيل.
لم يكن آينشتاين يتوقع ان يتصادم مشروع الوطن الصهيوني مع مصالح الفلسطينيين ومشاعر العرب القومية. فالوطن الصهيوني في رأيه مشروع لتحرير اليهود، لا قهر الفلسطينيين واستعداء العرب. وليس هناك على أرض فلسطين فواعل التنافر العرقي والتنافس الاقتصادي التي كانت قائمة على أرض الأغيار الأوروبيين. فالشعبان الساميان هما "الأقرب نسباً" من وجهة عرقية، وليس هناك بالتالي ما يمنع "التعايش والتفاعل الثقافي بين شعبين سبق ان تعايشا ورفدا الحضارة الغربية بقيم خالدة". ولن يكون هناك صراع على ملكية الارض، لأن الصهاينة لن يتوطنوا الا في ارض يشترونها بالمال و"الأرض الذي أقيمت عليها المستوطنات تمّ شراؤها لا مصادرتها"، كما يكتب في نهاية العشرينات، و"لا نريد مصادرة ممتلكات أو انتهاك حقوق". وعلى مستوى الاقتصاد، تصوّر آينشتاين ان العلاقة بين الفلسطينيين واليهود ستكون علاقة تكامل في حقل العمل والانتاج، وتفاعل في مجال الثقافة: "ان الصهاينة سيقيمون علاقات تعاون وتواد بنّاء مع العرب الذين تربطنا بهم علاقات القربى العرقية، وسنشكل معهم نقابات عمالية مشتركة، وكل شيء يدل على ان الوضع الاقتصادي والصحي قد تحسّن بفضل الاستيطان"، والطبقة العاملة اليهودية هي المؤهلة لنسج العلاقات الانسانية بين الشعبين: "وحدها الطبقة العاملة تمتلك القدرة على تأسيس علاقات سليمة مع العرب، وهي أهم المهام السياسية الملقاة على عاتق الصهيونية. ان الادارات تجيء وتذهب، لكن العلاقات الانسانية وحدها هي التي تقلب الموازين في حياة الامم في النهاية".
ما يتحدث عنه آينشتاين من تنظيم نقابي موحّد يضم العمال الفلسطينيين والصهاينة، اضافة الى ان الدور الريادي الذي يوكله الى الطبقة اليهودية العاملة في عملية التكامل والتفاعل بين الشعبين، يقرّبه من التيار الماركسي الصهيوني الذي بقي وفياً للمبادئ الأممية وصديقاً للاتحاد السوفياتي وخاض حرباً حقيقية، لكن خاسرة، ضد الجناح العمالي الذي كان يقوده بن غوريون الذي انتهج سياسة الفصل العنصري بين العمال الفلسطينيين والعرب تحت شعار "الاستيلاء على العمل". وقد تمظهرت سياسة بن غوريون في منع العمال العرب بدءاً بالعام 1916 من العمل في المستعمرات او الانتساب الى النقابات الهستدروت، لكن آينشتاين لم يتقرَّ المرامي الانفصالية لسياسة بن غوريون، وثبت على القناعة بأن فلسطين لن تكون وطناً قومياً مستقلاً عن الفلسطينيين وعلى حسابهم، وإنما ستكون بيتاً جامعاً بين اليهود والفلسطينيين تحت سقف دولة ديموقراطية علمانية واحدة تقدم النموذج النقيض والبديل للأوطان والقوميات العرقية الأوروبية.
ويبدو ان هاجس انقاذ اليهود من "جحيم روسيا وبولندا" أولاً، ومن ألمانيا النازية لاحقاً، أدخل آينشتاين في نوع من تفكير التمنّي حجب عنه الوجه الاستعماري للمشروع الصهيوني. فكتب في نهاية العشرينات: "لا أستطيع ان أتصور ان في امكاننا اليهود ان نقوم بأي عمل يمكن ان يلحق أي أذى بالفلسطينيين". ولذلك نجده يحذّر القيادة الصهيونية تكراراً من اعتبار فلسطين ملجأ لكل يهود العالم، لأن ذلك يعني قيام وطن يهودي على كامل أرض فلسطين.
وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الدامية في آب اغسطس 1929 لتصدم رؤيته المثالية المبسّطة، فبعث برسالة الى حاييم وايزمان في 25 تشرين الثاني نوفمبر 1929 يقول فيها: "إذا عجزنا عن ايجاد طريقة للتعاون المخلص والحوار الصادق مع العرب لا نكون قد تعلّمنا شيئاً من معاناة ألفي سنة تولّت، وكل ما يحصل لنا تبعاً لذلك يكون مستحقاً".
وانتقد آينشتاين اعتماد وايزمان المفرط على اصدقائه الانكليز الذين يمارسون نهج التفرقة بين اليهود والفلسطينيين. وردّ وايزمان مطالباً آينشتاين ب"وقف هجماته المؤذية على الصهاينة". لكن آينشتاين لم يُلق باللوم في انتفاضة 1929 الفلسطينية الدموية على الانكليز والقيادة الصهيونية وحسب، وإنما حمل في رسائل كتبها الى جريدتي "المانشستر غارديان" و"التايم" اللندنيتين على من وصفهم ب"القوميين العرب" و"الاسلاميين المتطرفين".
وأثنى في المقابل على "عرب قاموا بحماية اليهود من الجمهور المتعصب". وقد اتهم المفتي امين الحسيني بإثارة مشاعر المسلمين الدينية وتلفيق إشاعات عن نيات مزعومة للصهاينة بهدم المسجد الاقصى. ويصف المفتي بأنه "مغاير سياسي، وأصل المشكلة".
وحرص آينشتاين في رسائله الى الصحف البريطانية على تذكير الانكليز بأن "اليهود لا يرغبون في العيش في ارض آبائهم في حماية الحراب البريطانية". وأنهم اليهود يجيئون الى فلسطين كأصدقاء للأمة العربية الأقرب نسباً اليهم"، وكان يضاعف خشيته من البريطانيين الدور الذي كانوا يلعبونه في الهند حيث كانوا يبذرون بذور الفتنة بين المسلمين والهندوس. ويبدو في تخوفه من دور بريطاني مماثل في فلسطين وفي تحذيره الصهاينة من اعتماد نهج العنف متأثراً بموقف غاندي من المسألة اليهودية. وهو موقف كتبه غاندي في رسالة وجدت بين أوراق آينشتاين يقول فيها: "أفهم توق اليهودي للعودة الى بلاد أجداده. وهو يستطيع ان يفعل ذلك، لكن من دون حراب الانكليز، ومن دون حراب يهودية كذلك. في هذه الحالة فقط يستطيع اليهودي العائد الى فلسطين ان يعيش بسلام ووئام تامّين مع العرب". وفي هذا السياق كان آينشتاين يردد: "لنحذر التعصب القومي في صفوفنا فإنه خطر عظيم. ولا يمكن استبدال العقل والمنطق بحراب الانكليز".
ومن جهة ثانية يوجه آينشتاين نداء الى "الشعب العربي العظيم" يطالبه بأن "يظهر تفهماً أكبر لحاجات اليهود الى اعادة بناء وطنهم في مركزه القديم: القدس"، مؤكداً قناعته بأن "النهضة العربية القائمة على المساحات الواسعة التي يسكنها العرب ستحقق مكاسب من تعاطف اليهود مع العرب، وسأرحب بحوار صريح وحر لمناقشة إمكانات كهذه. ذلك انني اعتقد ان الشعبين الساميين العظيمين قد أسهما، كل على طريقته، بإغناء حضارة الغرب بقيم خالدة، وأن إسهاماً كهذا يؤهلهما لمستقبل عظيم مشترك".
وبعد هدأة انتفاضة 1929 تبادل آينشتاين عام 1930 الرسائل مع رئيس تحرير صحيفة عربية كانت تصدر في يافا. وقد جاء في رسالة له مؤرخة في 15 آذار مارس 1930: "اعتقد ان الصعاب التي تعترض مسار الوفاق هي نفسية أكثر منها حقيقية، وأن في الامكان التغلب عليها اذا توافرت الاستقامة والارادة الطيبة". ويعبّر عن ثقته بأن "مستقبلاً عظيماً مشتركاً ينتظر الشعبين الساميين العظيمين اذا استعاد كل منهما ثقته بالآخر"، وخلص الى اقتراح "تشكيل مجلس سرّي من ثمانية اعضاء، اربعة من العرب وعدد مماثل من اليهود، يمثلون الشعبين ويوفّقون بين مصالحهم ويحصّنون أمنهم في مواجهة مخططات الانتداب البريطاني"، ويتضمن الاقتراح ان يكون الاعضاء الثمانية "مستقلين عن الاحزاب السياسية كافة، وأن يتمثل كل من الوفدين بطبيب ومحام ورجل دين وعامل منتخبين من مجالسهم واتحاداتهم".
ويوجه رسالة في العام 1930 الى المنظمة الصهيونية العالمية يحذرها من انه "سيوقف كل دعم لهم ان لم يتوصلوا الى سلام مع العرب". ويؤكد مجدداً: "ان الشعبين سيعودان الى التلاقي، على رغم احداث العنف التي أظهرت الطبيعة البشرية في أزرى حالاتها، وهي احداث ما كانت لتحصل لولا سياسة تغريب كل من الشعبين عن الآخر". ويغمز من قناة البريطانيين الذين "يسمحون بنشر الدعايات المسمومة وخلق الاجواء المتوترة".
ضد التقسيم والدولة القومية
في تموز يوليو 1937 اصدرت لجنة بيل Peel الملكية البريطانية تقريرها القاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين. وحسم بن غوريون الانقسام الصهيوني حول القرار بقبوله، تكتيكياً ومرحلياً، تاركاً أمر رفضه للعرب. اما آينشتاين فكان في عداد الرافضين لمشروع التقسيم من موقع الحرص على التعايش مع العرب. فكتب في العام 1937 مقالة ينتقد فيها رعاية بريطانيا لمشروع التقسيم واقامة دولة يهودية مستقلة، وطالب بدولة يهودية - فلسطينية تجمع ولا تفرّق: "ان المطلوب هو دولة واحدة لا دولتان، وإنني أفضّل التوصل الى اتفاق معقول مع العرب والعيش بسلام معهم على ان اعيش لأشهد ولادة دولة يهودية". وهو يرفض ان يستعيد الصهاينة الحقبة المكابية التي قاوم فيها اليهود الرومان بقيادة بارخوبا للحفاظ على دولة مستقلة: "ان الرجوع الى الامة بالمعنى السياسي للكلمة يعادل الارتداد عن روحنة مجتمعنا بالمثالات التي اراد الانبياء غرسها في هذا المجتمع".
وفي هذا الخيار النابذ لمشاريع تقسيمية تضمر العنف يبدو آينشتاين نظرياً على الأقل، أقرب ما يكون الى مفهوم غاندي للصهيونية الروحية. يقول غاندي: "ان الصهيونية الحقيقية المتوطّنة في قلوب اليهود هي هدف يستحق ان يعطيه اليهودي حياته. ان صهيونية كهذه هي موطن الله. لكن الصهيونية الروحية لا يحدّها وطن ولا تحتاج الى وطن محدد، فالأوطان لا تتسع للروح". آينشتاين يفترق عن غاندي الذي يبني على هذه المقدمة الاستنتاج المنطقي الآتي: "ان القدس الحقيقية هي قدس روحيّة، والصهيونية يمكن ان يحققها اليهودي في أي مكان من العالم". في حين رأى آينشتاين أنها لا تتحقق الا في دولة يهودية - فلسطينية تقوم على أرض الميعاد وفي حين كان غاندي جازماً في اعتقاده أن فلسطين هي للفلسطينين العرب، رأى آينشتاين أنها تتّسع للشعبين، وأنها أرض الأجداد العبريين، كما هي أرض الفلسطينيين. إن ايمان آينشتاين بمثالات الصهيونية الروحية العالمية كانت تلابسه القناعة بأن هناك أماكن في العالم، وفي أوروبا تحديداً، لن يكون في إمكان اليهود ان يعيشوا فيها. وكان أفضل ما تمخّض عنه جهده الفكري لحل سلمي للصراع العربي - الصهيوني هو "إنشاء حكومة يهودية - عربية في فلسطين تمارس عملها في عهدة الأمم المتحدة وتحت اشرافها المباشر، وليس تحت وصاية أية دولة منفردة حتى ولو كانت أميركا، والتوصل الى صوغ دستور يكفل حق الشعبين بالمشاركة في القرارات، ويمنع كل منهما من استبعاد الآخر من طريق التصويت والاحتكام الى الأكثرية النسبية".
ويتضمن اقتراح آينشتاين الدعوة الى اقامة ما يشبه فيديرالية الطوائف المتحدة، ما يذكرنا بالمفكر السياسي اللبناني ميشال شيحا ونظرية الديموقراطية التوافقية اللبنانية. وأرفق اقتراحه بحض اليهود على "رذل القومية الصبيانية المستوردة من أوروبا والتي يؤججها محترفو السياسة". ثم يخاطب اليهود عام 1938 في خضم الثورة الفلسطينية ضد الانكليز والصهاينة ليذكرهم بأن الدين اليهودي والدولة اليهودية القومية يتعارضان في المبدأ والأساس، ذلك ان اليهودية ديانة كونية لا قومية: "إن معرفتي بالأسس الجوهرية للديانة اليهودية تجعلني ارفض فكرة الدولة المتصفة بالحدود والجيش والسلطة الزمنية. أخشى ان يلحق اليهود الضرر بأنفسهم نتيجة تنامي القومية الضيقة بين صفوفنا، وهي التي حاربناها بقوة قبل ان يكون لنا دولة ... إن العودة الى الدولة هي ارتداد عن روحنة مجتمعنا كما ارتجى منا الأنبياء".
ويعود ليؤكد عام 1946 ان "فكرة دولة اسرائيل لا تتوافق مع رغبات قلبي. إنني لا أفهم لماذا نحن بحاجة الى دولة كهذه. ان الدولة القومية هي فكرة رديئة وقد عارضتها على الدوام. إننا نقلد أوروبا، والذي دمّر اوروبا في النهاية هو القومية".
ان آينشتاين يريد توطين اليهود الذين تضيق بهم اوروبا، ويريد ان يكون لليهود وطن في فلسطين، لكنه لا يريد فلسطين يهودية كما هي انكلترا انكليزية. وكان هذا هو موقف اديبنا النهضوي امين الريحاني الذي قابل آينشتاين وبادله الرأي حول الصراع العربي - الصهيوني وحمل وجهة نظر الصهاينة الروحيين الى النزاع. فآينشتاين لم يكن، من قبل ومن بعد، في عداد الصهاينة المؤمنين بأن الوعد الإلهي لابراهيم ويعقوب بأن تكون ارض فلسطين إرثاً لذريتهم هو وعد حق. وحين حاول حاييم وايزمان اقناعه بحق اليهود الإلهي في فلسطين، رد آينشتاين بالقول: "إن الله الذي اعطى فلسطين لليهود هو الذي اسكن الفلسطينيين فيها. وكل فريق يرى ان الله معين، فلنترك الله خارج المحاججة".
اعتراض واعتراف
وقبل شهر من اندلاع حرب 1948 بين العرب واليهود، بعث آينشتاين رسالة الى جريدة "نيويورك تايمز" يقول فيها: "إن العرب واليهود المتطرفين يدفعون فلسطين بتهورهم الى حرب عقيمة. إننا نشعر انه من واجبنا الإعلان بقوة اننا لا نجيز الإرهاب والتعصب القومي سواء مارسه اليهود أو العرب. إن نصراً حاسماً يحققه احد الفريقين سيولّد مرارة محبطة. وإننا نتوجه الى يهود هذه البلاد ]اميركا[ وإلى يهود فلسطين بألاّ يسلكوا سلوك اليائس أو يبحثوا عن بطولات زائفة تنجم عنها ممارسات انتحارية".
والنتيجة المنطقية التي تنبني على هذه الطروحات التي حملت رؤية آينشتاين للمسألة اليهودية - الفلسطينية هي ان عالم الفيزياء سيكون اول المعترضين على حرب 1948 وتداعياتها الناقضة لكل مثالاته اليهودية والاشتراكية والإنسانوية، وأولها عدم جواز احتلال الأرض بالقوة. لكن آينشتاين يفاجئنا بإعلان اغتباطه لقيام دولة اليهود على ارض مغتصبة بالقوة، إذ لم تكن نسبة الأرض التي كانت الوكالة اليهودية اشترتها بالمال عند قيام الحرب تزيد على 6 في المئة من مجموع الأرض الفلسطينية. وهو يكتفي بالتعبير عن اسفه لأن الدولة شقت طريقها الى الوجود بطريق العنف و"لأن علاقاتنا مع العرب لا تتوافق مع المبادئ الأخلاقية اليهودية التي تكونت على مدى تاريخ طويل". ودان نزعة العنف التي تمظهرت في مجزرة "دير ياسين". وفي 15 آذار مارس 1949 يُلقي آينشتاين خطبة لمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية من الجامعة العبرية، يلقي فيها مسؤولية الحرب على البريطانيين، ويزعم "ان اليهود والعرب كانوا راغبين في تحقيق السلام المبني على الفهم بدل الاحتكام الى العنف لولا ضغوط الخارج"، ويدل بإصبع الإتهام، مجدداً، الى بريطانيا.
ويعبّر عن خشيته من ان تؤدي المواجهة المستديمة بين العرب واليهود الى اعماد اليهود على قوى دولية خارجية تجعلهم تابعين بدل ان يكونوا مستقلين. ويجدد بالتالي الأمل ب"التعاون البنّاء مع العرب على قاعدة الثقة والاحترام لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لاستقلال الشعبين الحقيقي عن العالم الخارجي".
ويكتب عام 1952 رسالة الى آبا ايبان يقول فيها: "إن الموقف الذي نتخذه من الأقلية العربية سيكون الامتحان الحقيقي لمقاييسنا الأخلاقية كشعب". والحديث عن "اقلية عربية" يتضمن التسليم بشرعية الدولة اليهودية التي قامت على حساب الغالبية العربية. ولا يفسّر خفض آينشتاين لسقف مثالاته إلا بتقاطع هويته اليهودية الثقافية مع تاريخ التنافي والاستبعاد المتبادل والعنف الذي كانت الأكثرية في الغرب الأوروبي قادرة على ممارسته ضد الأقلية اليهودية. والأرجح ان تغاضيه عن الولادة الدموية للدولة اليهودية وتداعياتها ناجم الى حد بعيد عن تجربة اليهود مع النازية ومحرقتها من جهة، وعن نهج العنف والقطيعة ومطالب الحد الأقصى الذي قابلت به الدول العربية المشروع الصهيوني من جهة ثانية. ومع ذلك يبقى لآينشتاين ما يميزه عن الصهاينة. فهو على رغم تسليمه بنتائج حرب 1948، إلا انه لم يُسقط مصالح الفلسطينيين في المطلق من حساباته، واستمر يصف الصراع على فلسطين بأنه "صراع بين حقين". من هنا توزعه بين ايمان بوطن يهودي في فلسطين، وحق الفلسطينيين في الوطن، وبين خوف على اليهود من "الأغيار" وخوف عليهم منهم.
وقبيل وفاته عام 1955 سئل آينشتاين: "لماذا يستطيع العلماء ان يكتشفوا الذرّات ولا يستطيعون ان يسيطروا عليها؟"، فأجاب آينشتاين: "لأن السياسة اصعب من الفيزياء"، وقد صعب عليه فهم السياسة الصهيونية في الشكل والمضمون.
لقد دخل آينشتاين السياسة من باب الدين والفلسفة. وعبثاً حاول ان يصالح موسى، وسبينوزا وكانط مع مكيافيلي الذي طالع ملامحه في قادة الصهاينة بدءاً بحاييم وايزمان الذي لم يكن من صقور الصهاينة قطعاً مقارنة باليمين الفاشي أو حتى ببن غوريون. وهو يقول انه لا يستطيع ان يفهم شخصية بن غوريون، وهذا ليس بالأمر المستغرب. فالزعيم الصهيوني كان اشتراكياً أممياً وصهيونياً عنصرياً في آن، يراسل غاندي، مثله، ويبني الهاغاناه ويصنّع السلاح ويفصل اليهود عن العرب، ويقبل تكتيكياً قرار التقسيم، ويستكمل استعداداته لحرب توسعية تفضي الى قيام "دولة اليهود" على كامل ارض فلسطين. وهو يدعو آينشتاين لترؤس دولة اسرائيل على الملأ وفي العلن وعبر وسائل الإعلام، ويُسِرّ لإسحاق نافون الذي اصبح رئيساً لدولة اسرائيل بخشيته من ان يقبل آينشتاين دعوته ويترأس الدولة بالفعل.
في العام 1953 التقى آينشتاين محمد حسنين هيكل خلال زيارة قام بها الأخير الى اميركا. وحين استشف علاقة خصوصية بين هيكل وعبدالناصر، وعرف من هيكل ان عبدالناصر هو القائد الفعلي للثورة وأن محمد نجيب هو واجهتها، مدد الوقت الذي خصصه لمقابلته، ودعاه الى منزله، وحمّله رسالة خطية الى عبدالناصر يسأله فيها عن خطته لحل الصراع بين اليهود والعرب. ويعرض خدماته، لا كوسيط، وإنما ك"عامل مساعد". Catalyst. وحين مرّ الزمن ولم يتلقّ جواباً عن مبادرته، بعث برسالة الى نهرو، رئيس الهند، كي يحدّث عبدالناصر في الموضوع الذي سبق ان حدّث به "احد اصدقاء عبدالناصر... يقصد هيكل، لكن نتائج المقابلة ظلّت معلّقة في الهواء". ومات آينشتاين عام 1955 قبل ان يتلقى رسالة جوابية.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.