باستثناء قلة هامشية قليلة، تعتبر التوجهات الفكرية والسياسية المختلفة في الولاياتالمتحدة أن الطلقة الأولى في "الحرب على الإرهاب" جاءت من تنظيم القاعدة في 11 أيلول 2001. لا خلاف إذاً حول الطبيعة الإلزامية لهذه الحرب، وضرورة اعتماد نهج إقدامي استباقي لتقويض هذا التنظيم ولإخماد الظاهرة التي يشكل أبرز صورها. غير أن الإجماع يتبدد عند التطرق إلى الخلفية السببية لاعتداء 11 أيلول وللعداء للولايات المتحدة في العالم الإسلامي ككل. ففيما يؤكد البعض أن أصل هذا العداء هو السياسة الخارجية الأميركية، يشدد البعض الآخر على أنه نابع من موقف عقائدي مناقض للقيم الأميركية، يهدف إلى إطاحة أميركا بمعزل عن سياساتها. ويبرز أصحاب الرأي الأول، السياسة الخارجية محرك العداء، في وسطين رئيسيين، هما: مراكز الدراسات الجامعية، وبعض الدوائر الرسمية، لا سيما وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية. غير أن ثمة استياء وريبة في الثقافة الأميركية من مراكز الدراسات الجامعية لتخلفها المفترض عن التنبيه إلى خطر الحالة الإسلامية الجهادية، بل لتعاطفها المزعوم مع هذه الحالة أحياناً، وللجوئها إلى صيغ تبريرية في تحليلها للأوضاع القائمة. والواقع أنه يمكن إدراج هذه الآراء شبه السائدة إزاء مراكز الدراسات الجامعية في إطار مواجهة فكرية أخرى بين النهجين المحافظ والتقدمي في الثقافة الأميركية، والتي أسفرت حتى قبل اعتداء 11 أيلول عن نجاح محافظ في محاصرة المكاسب الفكرية التقدمية ضمن خانة "الصواب السياسي". فالتطورات الحاصلة في الأعوام الثلاثة الماضية ساهمت وحسب في تعزيز النجاح المحافظ ودفع النهج التقدمي إلى مزيد من التقوقع بعيداً عن التأثير الفاعل اجتماعياً. أما الخارجية، فتعرضت في عهد الرئيس بوش لقدر ملحوظ من التهميش والانكفاء وتبدد الأهمية، كانعكاس للعزلة النسبية للوزير كولن باول وتخلفه عن اتخاذ المواقف الحاسمة، مقابل تصاعد نفوذ كل من نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ومستشارة الأمن الوطني كوندوليزا رايس. ونتيجة هذا الضعف في موقع الوزير، غابت عن التداول في الوسط الحكومي مقولة مسؤولية السياسة الخارجية في تأجيج الشعور المعادي للولايات المتحدة. فآخر معاقل هذه المقولة كانت وكالة الاستخبارات التي شهدت، بدورها، تطويعاً سياسياً أمعن في إنهاك صورتها. ويأتي صدور كتاب كاشف عن أحد المسؤولين في الوكالة، مع تحفظ قيادته عن الإفصاح عن اسمه، ليشكل أوضح إشهار لهذه المقولة التي كاد أن يقتصر تداولها على الهمس في أوساط المعنيين. ويستعرض مؤلف الكتاب مقومات هذه السياسة، بدءاً بالتأييد الأميركي المطلق لإسرائيل، مروراً بالحضور العسكري في الجزيرة العربية، والتغافل عن قمع حركات التحرر الإسلامية في الهند وروسيا والصين، وصولاً إلى الحرب في العراق، والدعم الأميركي للأنظمة التي تفتقر الى الشرعية في العالم العربي. وإذ يشكل الكتاب إدانة صريحة للسياسة الأميركية، ويطالب فعلياً بإعادة النظر ببعض مقوماتها لتنفيس الغضب العربي والإسلامي، فإن الوصفة العملية التي يتقدم بها لا تخرج، في النهاية، عن ضرورة السير قدماً في حرب بلا هوادة على الإرهاب، وصولاً إلى إنزال الهزيمة الفعلية بالمنظمات المعادية وتوطيد أسس نظام دولي قادر على منع إعادة تشكلها. ويلقى هذا الربط بين السياسة الخارجية وتفاقم العداء لأميركا، نفوراً ورفضاً في معظم الوسط الفكري الأميركي كما في معظم المجتمع، انطلاقاً من الشعور بأنه يبطن إلقاء للوم على الولاياتالمتحدة نفسها للاعتداء الذي تعرضت له. والتفسير المتداول المفضل أن الإرهاب ليس وليد ظروف ومواقف وردود فعل، بل أداة في مواجهة بين رؤيا تدعو إلى الحرية والتسامح، وهي الرؤيا الأميركية، وأخرى قائمة على القمع والشمولية، وهي الرؤيا المعادية. فالهجوم على الولاياتالمتحدة كان محاولة لنقل المعركة إليها إثر اقتراب النموذج الذي تمثله، والقائم على العدالة والانفتاح، من الترسخ في كافة أنحاء العالم، لا سيما بعد سقوط النموذج الشمولي الآخر، أي الشيوعية التي سعت إليها فاشلةً المنظومة الاشتراكية. وبعد طول تردد ومحاولات عدة لتأطير يتجنب الربط العلني بين "العدو" والإسلام، لكن بعد ثلاثة أعوام استفحل فيها الخطاب شبه الثقافي التبسيطي إلى حد التعسف، والمستدعي للصور النمطية من المخزون التاريخي الأوروبي، والمبرز للممارسات الإجرامية لبعض الجماعات، من الخطف والقتل وقطع الرؤوس والتمثيل، يشهد الوسط السياسي الأميركي توضيحاً خطابياً وفكرياً لماهية العدو، مع الحديث المتكرر على أن المواجهة العالمية اليوم هي مع الحركة الإسلامية. ويمكن اعتبار "لجنة الخطر الداهم" التي أعيد تشكيلها مؤخراً مثالاً بارزاً. ويذكر هنا أن لهذه اللجنة سابقتين مرتبطتين بالحرب الباردة، إحداهما في مطلع الخمسينات والأخرى أواسط الستينات. فاللجنة تندرج إذاً في إطار تصوير مديرها، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق جايمس وولسي، للمواجهة العالمية القائمة اليوم على أنها حرب عالمية رابعة إذ الحرب الباردة كانت الثالثة. وهي تضم مجموعة وجوه فكرية محافظة أو مؤيدة للحرب على الإرهاب ولاعتبار العراق معركة رئيسية فيها. ويجمع المنتسبون إلى اللجنة على اعتبار الحرب مواجهة جوهرية بين عقيدتين. وقد لخّص جوزف ليبرمان، عضو مجلس الشيوخ والمرشح الديموقراطي لمنصب نائب الرئيس في انتخابات 2000، وزميله في مجلس الشيوخ الجمهوري جون كيل، في مقال أعلنا فيه عن إعادة إحياء اللجنة، موقف العدو بأن "له مآرب شريرة في أرجاء العالم، ومنها شن الجهاد على الأميركيين كافة وإقامة إمبراطورية دينية شمولية في الشرق الأوسط". والمؤسف في الموقف الأميركي، سواء كان توجهه سياسياً أو عقائدياً، ختزاله الإسلامية السياسية بجزء منها، إذ لا يبدي منظرو المواقف الأميركية أي قدرة أو رغبة للتمييز بين المقومات الإصلاحية والسلفية والجهادية والتكفيرية ضمن الإسلامية السياسية. وفيما قد ينعتون العدو بالتطرف أو الجذرية أحياناً، فإن الحديث عن "إرهاب إسلامي" يؤدي إلى فرز يناسب جزء الجزء هذا. واللافت، في سياق هذه المواجهة الفكرية، غياب الصوت العربي والمسلم عن المساهمة في توجيه النقاش مع الإشارة إلى أن لجنة الخطر الداهم تضم شخصية أميركية مسلمة. غير أنه لا يكفي إلقاء اللوم على انطوائية عربية ما أو حتى استشفاف يد إسرائيلية في هذا الموضوع دون إنكار أن للجهات المؤيدة لإسرائيل مصلحة أكيدة في استبعاد الصوت العربي. فالحالة الثقافية العربية تبدو اليوم، من منظور أميركي، غير قادرة على المساهمة الموضوعية، لشبه اقتصار في أوساطها على سجاليات أكثر اهتماماً بنقض الموقف الأميركي منها بدعوته إلى حوار. ونتيجة هذا الغياب، أو التغييب الذاتي، لا يتم فقط تمكين السياسات والخطابيات المجحفة من الاستتباب في أميركا، ولكن أيضاً تحبيذ الطرح التعبوي الجانح نحو الشمولية والرافض للتعددية الفكرية في العالم العربي نفسه.