كادت "حروب الثقافة" ان تكون لسان حال الولاياتالمتحدة في التسعينات. والمقصود بها المواجهة الفكرية والاعلامية والقضائية بين توجهين متناقضين ما زالا يتنافسان لتحقيق نفوذهما على المجتمع: احدهما يدعو الى التمسك بالقيم التقليدية في مواجهة النسبية الاخلاقية وما يستتبعها من "انحلال للأسرة وانحطاط وعدمية"، والآخر يسعى الى توسيع مكاسب حركة الحقوق المدنية التي حققت انتقالاً نوعياً في الثقافة الاميركية في الستينات، عبر ترسيخ مفهوم التعددية الثقافية والمساواة والحرية الفردية. وفيما كان هذا التوجه الثاني، التقدمي، قد تمكن بشكل عام من تحديد بنود الحوار الثقافي، لا سيما على مستوى الطرح الاجتماعي، عبر دعوته الى الاقرار بحق المرأة في الاجهاض وسعيه الى تطبيع المثلية، وصولاً الى الزام خصمه المحافظ بالاقتصار على حال رد الفعل ومقاومة المستجدات، فإن الهفوات والمبالغات التي اقدم عليها دعاته، لا سيما في الاطار الثقافي، أتاحت للمحافظين تشكيل خطاب يسعى الى نقض ما سماه "الصواب السياسي" ونقد ما بعد الحداثة كتجسيد معاصر للسفسطة المغالطة. واذا كان اعتداء 11 ايلول سبتمبر قد أدى الى اعادة نظر عامة بالمسلمات لدى كافة الجمهور الاميركي، فإن السعي الى تثميره في اطار "حروب الثقافة" ظهر على الفور. فقد اعلن جيري فالويل عشية الاعتداء ان ما جرى قصاص الهي للفساد الاخلاقي الذي جلبه المثليون والنسويات للمجتمع الاميركي. وفالويل احد ابرز القساوسة الواعظين المسيحيين، وذو حضور اعلامي بارز. ولا يخفى ان طروحاته لا تتسم البتة بالعمق الفكري او التروي الموضوعي فهو صاحب التصريح الصادر مؤخراً والذي يصف رسول الاسلام وصف استفزازياً قبيحاً. غير انه لا بد من الاقرار بأنه يشكل مرجعية دينية وفكرية لقطاع جماهيري واسع من الانجيلانيين اي الانجيليين الذين يلتزمون عقيدة غيبية تضع حركة التاريخ المعاصر، خصوصاً نشوء دولة اسرائيل وصدامها مع جوارها، في اطار الملاحم والفتن السابقة للقدوم الثاني للسيد المسيح. وفي اجواء التراص الوطني التي برزت في اعقاب الهجوم، شهدت تصريحات فالويل استهجاناً واسع النطاق دفعت به بالفعل الى التراجع عنها. غير ان هذه التصريحات، في تجاوزها للمحرمات الجديدة التي تمكن التقدميون او "الصواب السياسي" من فرضها خلال التسعينات، شكلت بالفعل ارهاصاً بلغة جديدة يجتهد جهابذة المحافظين لترسيخها اليوم، وهي لغة التجريم والاستعداء لمن يخرج عن النمظ المرغوب والمقبول وفق وجهة نظرهم. ويشكل الدين الاسلامي، ومعه المسلمون والعرب، الحلقة الاضعف في سلسلة التعددية الثقافية في الولاياتالمتحدة، وذلك على خلفية تاريخية طويلة تبتدىء بالارث الثقافي الاوروبي الذي يعتبر الاسلام "الآخر" حيناً و"العدو" احياناً، مروراً باستعمال سلاح المقاطعة النفطية في اعقاب حرب 1973، والثورة الاسلامية في إيران وأسرى السفارة الاميركية فيها، واستهداف "المارينز" في بيروت واختطاف المدنيين الاميركيين فيها خلال عقد الثمانينات، وصولاً بالطبع الى اعتداء أيلول. ولا يجوز بالطبع اعتبار العداء للاسلام واقعاً مستتباً في الولاياتالمتحدة، لكن الريبة منه على المستوى الشعبي العام أمر قائم. واذا كانت الازدواجية في موقف حكومة الرئيس بوش، والتي اعلنت بلسان الرئيس نفسه ان احترام الاسلام والمسلمين واجب وطني، ثم عمدت الى ممارسات تمييزية تتجاوز الاعراف الدستورية، اعتقالاً وترحيلاً ورقابة، قد ساهمت في اطلاق العنان للاصوات التي تستهدف الاسلام اليوم، فلا بد من التشديد على ان هذا الاستهداف عرضي وحسب، اذ يأتي في اطار استعادة التوجه المحافظ زمام المبادرة في صراعه مع خصمه التقدمي، وفي سعيه الى قلب المكاسب التي حققها هذا الخصم. فحرب الرئيس بوش على "الارهاب" والتنصيص هنا ليس للتقليل من فداحة الارهاب الذي تعرضت له الولاياتالمتحدة، بل للتذكير بأن هذا المستهدف يتسع ويضيق بعيداً عن الاعتبارات الموضوعية الثابتة ليشمل ما يتناسب ورغبة الحكومة الاميركية منحت التوجه المحافظ السياق المبدئي المطلوب للمباشرة بقضم المكاسب التقدمية، والخشية الصادقة في الأوساط الشعبية الاميركية من الاسلام الذي تم إظهاره كأنه المعتدي عليهم، تجسد صيغة متشددة ولكن غير شاذة من ذاك التوجه. وهذا ما قدم للمحافظين المادة الفعلية للشروع العملي بقلب هذه المكاسب، فحين أمعن احد المعلقين المحافظين بالاساءة الى القرآن الكريم، معترضاً على توجيه احدى الجامعات طلابها لقراءة بعض سوره، فإن كلامه لا يندرج في اطار حملة صليبية. فالهدف الاول منه ليس الدين الاسلامي او مقدساته، بل اعتماد معظم الجامعات الاميركية لمفهوم التعددية الثقافية، اي الإقرار بنسبية حضارية وفكرية تضع كافة الثقافات والمعتقدات على قدم المساواة. اي ان الاسلام، حتى حين يشتم ويستهان به، ليس الهدف الاول من الهجمة المحافظة، بل الهدف هو التوجه التقدمي الذي جعل من العولمة اطاراً يفترض التساوي المعنوي بين الثقافة الاميركية وغيرها، بما في ذلك الثقافة الاسلامية. والقابلية الشعبية القائمة اليوم لتوجيه الاساءة الى الاسلام والمسلمين والعرب تجعل من هذا الموضوع مدخلاً للعودة الى حالة فكرية لا ترضى بافتراض التساوي المبدئي بين الطروحات، على ان يحتل الطرح المحافظ في فهمه للخصوصية الاميركية، قمة الهرمية التراتبية. ولا عجب ان ينقضّ انصار اسرائيل للاستفادة من الترويض الجديد للجمهور الاميركي للتخلي عن قبوله بمساواة فكرية مبدئية، اذ ان هذا القبول وهو انجاز تقدمي تحقق وكاد ان يترسخ في الاعوام الماضية، ساهم في بعض التعديل في الموقف الشعبي ازاء القضية الفلسطينية. فقد اصبح بالامكان اليوم لدانيال ياييس، احد ابرز الاصوات المؤيدة لاسرائيل، انشاء موقع على الانترنت يُخضع فيه الاساتذة الجامعيين للتمحيص والتشهير والاتهام تلميحاً وتصريحاً بالخيانة الوطنية لإقدامهم على تقديم طرح للحالة الاسلامية او للقضية الفلسطينية لا ينطوي على النقد الذي يعتبره ياييس وامثاله شرطاً للخوض في هذه المواضيع. فياييس، والعديد من انصار اسرائيل، يحاولون الاستفادة من المواجهة بين التوجهين المحافظ والتقدمي لتحقيق مصالح قضيتهم. الا انه لا بد من التشديد مجدداً على ان الموضوع الاسرائيلي يبقى عرضياً بالنسبة لهذه المواجهة، كما حال الموضوع الاسلامي. والمواجهة تبقى في جوهرها مسألة محلية ثقافية اميركية بين فئة تتخوف من ضياع القيم وأخرى تخشى فقدان الحريات. والتفاعل مع هذه المواجهة، ومع الهجمة المحافظة تحديداً، لا بد ان يبتدئ بادراك واقع محليتها، وعدم الانجرار الى سجالات تساهم في تأجيج نيرانها، كما فعل على سبيل المثال الشاعر الافريقي الاميركي اميري بركة حين قرأ شعراً اتهم فيه الاسرائيليين بالمعرفة السابقة باعتداء أيلول. فموقف اميري بركة، من حيث جزافيته، يأتي مؤيداً لهدف التعدي الكلامي على الاسلام، من حيث ترويجه لحالة ثقافية تتحكّم بها الأهواء فيما تدفع الى التقوقع. والاجدى، من وجهة نظر تقدمية اميركية، كما من وجهة نظر ثقافية عربية عامة، تعزيز الاجواء الحوارية التي تسمح بعودة متزنة الى مبدأ احترام الآخر.