ذهل الأوروبيون بكارثة تفجيرات 11 أيلول سبتمبر وسارعوا للتضامن المطلق مع الولاياتالمتحدة عبر وضع السياسات والاجراءات المالية والأمنية التي دعتهم اليها من أجل تحييد المنظمات الارهابية والأخرى التي لا تستجيب للمعايير والمفاهيم التي تولدت بعد تفجيرات نيويورك. وللضغط على البلدان العربية والاسلامية وضع الاتحاد الأوروبي معايير مكافحة الارهاب في صدارة أولويات علاقاته الخارجية معها من دون التوصل بشكل مسبق الى تفاهم معها حول مفاهيم الارهاب والفرق بين مناهضة العمليات الارهابية وشرعية مقاومة الاحتلال. إلا أن السيطرة العسكرية التي فرضتها الولاياتالمتحدة من افغانستان حتى شرق حوض البحر الأبيض المتوسط جعلتها تفرض سياسات أحادية الجانب على حلفائها في البلدان الأوروبية التي "كانت أقزاماً" في حرب أفغانستان حسب عبارة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي جورج روبرتسون. وانعكست السيطرة العسكرية على السياسات الخارجية للولايات المتحدة التي شددت قبضتها في الشرق الأوسط والخليج وأصبحت في وضع يغنيها عن التحالف مع الاوروبيين. ترسانة اجراءات متشددة واكتشف الأوروبيون مثل غيرهم بأن رموز السيادة والمؤسسات والقصور الحكومية والمطارات والمحطات النووية قد تكون هدفاً للعمليات الإرهابية. ورأى وزراء الخارجية ال15 في اجتماع استثنائي في بروكسيل بعد 24 ساعة على تفجيرات نيويورك، بأن "الاعتداءات الفظيعة لم تستهدف الولاياتالمتحده فقط، وإنما الانسانية جمعاء وقيم الحرية التي تجمع بين الأميركيين والأوروبيين". وتبنوا حملة على الشبكات الارهابية والجهات التي تؤويها وتساعدها وتمولها، وأوصوا الأجهزة الأمنية والمصرفية بإعداد ترسانات الاجراءات التي ستتوالى على مدى شهور لتفكيك تلك الشبكات وقطع أي دعم يمكن أن تتلقاه من الجاليات الاسلامية في اوروبا. وفي مؤشر عن الهبّة الأطلسية لنصرة واشنطن، شارك الأمين العام لحلف شمال الأطلسي جورج روبرتسون، للمرة الأولى، في اجتماع وزراء الخارجية ذاك. وتأكد الاجماع الأوروبي المطلق على دعم الولاياتالمتحدة خلال الاجتماع الاستثنائي لرؤساء الدول والحكومات الذين شددوا في 21 أيلول 2001 على "شرعية رد الفعل على الأعمال البربرية"، مما أكد اقتناع الأوروبيين بأن الولاياتالمتحده ستشن الحرب على شبكة "القاعدة" ونظام "طالبان". واعتبر حلف الأطلسي تفجيرات نيويورك اعتداءً على بلد عضو وبادر بتحريك البند الخامس من ميثاقه، الذي يؤكد استعداد البلدان الأعضاء ال19 للدفاع عن الحليف. لكن الولاياتالمتحدة كما تبين لاحقاً، لم تطلب من الأطلسي مساهمات عسكرية ميدانية. وقلبت تفجيرات 11 أيلول أولويات السياسات الداخلية والخارجية وقاربت إلغاء معايير احترام حقوق الانسان التي يصر عليها الاتحاد في المعاهدات الداخلية والاتفاقات الخارجية. وأصبحت مكافحة الارهاب على رأس أولويات الاتحاد، خصوصاً بعدما كشفت التحقيقات بأن أنصاراً ل"القاعدة" يقيمون في بلدان الاتحاد ويحملون جنسيات أوروبية. وارتفعت أصوات محذرة من "الارهابيين النائمين" في أوروبا الذين قد ينهضون فجأة لتلبية نداءات "أمرائهم" في أفغانستان وغيرها. ونشطت حملات المداهمة واعتقل العشرات من النشيطين العرب والمسلمين المشتبه في انتمائهم إلى "القاعدة". وسجلت أهم الاعتقالات في المانيا واسبانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا. وسارعت البلدان الأوروبية إلى المصادقة على القوائم الأولى التي أعدتها الولاياتالمتحدة لأسماء أشخاص ومنظمات يشتبه بهم لحظر نشاطهم وتجفيف مواردهم المالية. وعدّلت القوائم تباعاً لتضم أسماء 36 شخصاً و23 منظمة. وعلى الصعيد الأمني، كانت كارثة نيويورك حافزاً لتعزيز آليات التعاون بين الأوروبيين بعدما ظلت عالقة أعواماً بسبب خلافات داخلية. وتمكنت البلدان الأعضاء من تعزيز جهاز البوليس الأوروبي "يوروبول" وإحداث خلية داخله لمكافحة الارهاب وتوحيد مذكرة التسليم التي تسرع اجراءات تسليم المتهمين المطلوبين، وكذلك إقامة هيئة تجمع قضاة مكافحة الارهاب واستحداث آليات متعددة لتبادل المعلومات عن الشبكات الارهابية وأنصارها المشتبهين. مكافحة الارهاب في أولويات السياسة الخارجية وأدرج الاتحاد الأوروبي، وتباعاً البلدان الشرقية المرشحة لعضويته، عنصر مكافحة الارهاب والتزامات التعاون في جهود تفكيك الشبكات الارهابية، ضمن علاقاته الخارجية مع البلدان الأخرى في مقدمها البلدان العربية التي كان بعضها عانى من رفض الأوروبيين تسليمه بعض رعاياه المشتبهين. وكان وزير الخارجية التونسي حبيب بن يحيى أول وزير عربي وصل بروكسيل، بعد يومين فقط من تفجيرات 11 أيلول ليطلب من الحكومة البلجيكية تقييد حركة النشطاء التونسيين وتسليم تونس بعض الرعايا الذين كانوا ضمن المحكوم عليهم في قضايا حركة "النهضة" المحظورة وتنسب إليهم الاستخبارات البلجيكية اتهامات بدعم شبكات "القاعدة". وتعهدت الديبلوماسية الأوروبية مراجعة العلاقات مع البلدان الأخرى بشكل منتظم وفق معيار مكافحة الارهاب. واحتلت مناهضة الارهاب صدارة اجتماعات عقدها الاتحاد الأوروبي مع الأطراف الأخرى كافة ومنها العربية. ولكن ديبلوماسية الاتحاد الأوروبي تميزت عن سياسات الادارة الأميركية خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. فبينما كان الرئيس بوش يدعم السياسة الاسرائيلية ويرفض لقاء الرئيس ياسر عرفات في خريف العام الماضي، على رغم تطوع الأخير بدمه لفائدة ضحايا تفجيرات نيويورك، صمد الاتحاد الأوروبي في الربع الأخير من العام الماضي أمام ضغوط اسرئيلية - أميركية رافضاً شطب السلطة الفلسطينية. إلا أن الموقف الأوروبي اضطر للتراجع أمام تطورات حرب الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. فقد نجح ارييل شارون في اقناع الرئيس بوش بوحدة أهداف الحرب في افغانستان مع أهداف حرب الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. كما أن العمليات الانتحارية التي واصلتها الفصائل الفلسطينية ساعدت الاسرائيليين في التخلص من أي ضغط اوروبي بل قلبت الانتقادات اليومية، التي كانت تصدر في العواصم الأوروبية ضد الدولة العبرية، الى صمت مستديم فيها. وكان تصنيف الاتحاد الأوروبي فصائل في المقاومة الفلسطينية إسلامية وغير إسلامية ضمن المنظمات الارهابية دليل نجاح السياسة الأميركية الاسرائيلية في خلط صور مقاومة الاحتلال الاسرائيلي مع عمليات "القاعدة" و"طالبان". ومع ذلك اضطلع الاتحاد الأوروبي بدور كبير في اقناع الولاياتالمتحدة بالتحرك والقبول بعقد اجتماعات اللجنة الرباعية ووضع خطة عمل متدرجة تتبنى طلبات الولاياتالمتحده واسرائيل إزاء السلطة الفلسطينية وترسم من ناحية أخرى الخطوات التي تقود الى قيام الدولة الفلسطينية. اتساع الهوة الأطلسية الأوروبية ومع توالي أسابيع الحرب في افغانستان من دون توصية أو تزكية دولية، بدأت التباينات والاختلافات تبرز بين ضفتي المحيط الأطلسي. وأظهرت الولاياتالمتحده سيطرتها السياسية والعسكرية من خلال الانفراد بقرار الحرب وأدائها وشروطها، ودفعت غالبية الأوروبيين الى التيقن لخطر السياسات الأحادية الجانب. وتحدث المجلس الوزاري الأوروبي في بياناته المتعددة عن "أهمية العمل في إطار متعدد الأطراف تحت رعاية الأممالمتحده من أجل تعزيز التحالف ضد الإرهاب". ويستنتج خبراء مستقلون بأن الحرب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة واحتكرت إدارتها قد مكنتها بشكل مسبق، ونيابة عن التحالف الدولي من بسط نفوذها العسكري والسياسي في أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى وباكستان. وأثبتت حرب افغانستان قدرة الولاياتالمتحدة على شن الحروب في أي بقعة من بقاع الأرض من دون حاجة إلى مساهمة مباشرة من حلفائها الأوروبيين باستثناء تراخيص فتح الأجواء وتزويد طائرات وقوداً وأحيانا تبادل المعلومات أو القيام ببعض العمليات. فدور بريطانيا في حرب افغانستان كان مكملاً لدور الولاياتالمتحدة وليس ضرورياً لنجاحه. وينعكس التفوق العسكري والتكنولوجي على السياسة الدولية للولايات المتحدة حيال شركائها، وفي مقدمهم الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. إذ كان دور الأخير شبه منعدم في حرب افغانستان، عدا مساهمة طائرات "أواكس" في مراقبة الأجواء الأميركية وفتح الموانئ والقواعد العسكرية في اوروبا أمام القوات والطائرات الأميركية. وتتزايد أصوات الأوروبيين الذين ينتقدون هيجان السياسات أحادية الجانب التي تسلكها الولاياتالمتحده خارج المعاهدات والمنظمات الدولية. ويلاحظ خبراء في الشؤون العسكرية بأن حرب افغانستان ضاعفت الهوة المتسعة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا التي كانت استفادت من نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين لتخفض موازناتها الدفاعية والانفاق على التسلح. وتقدر موازنة الولاياتالمتحدة هذا العام بنحو 329 بليون دولار، أي أكثر من موازنة 9 بلدان اوروبية. وستزيد الولاياتالمتحده موازنتها في العام المقبل بقيمة 50 بليوناً. واستنتج وزير الدفاع الأميركي السابق ويليام كوهين في مؤتمر الدفاع في بداية شهر شباط فبراير الماضي في ميونيخ أن اتساع الفارق بين اوروبا والولاياتالمتحدة سيجعل الأخيرة تستغني عن التحالف مع البلدان الأوروبية. وقد وجدت الولاياتالمتحدة في الحلف الأطلسي تحالفاً جامداً وعاجزاً عن المشاركة في مكافحة الارهاب. وتمثل إشكالية مناهضة الإرهاب، بالإضافة الى استيعاب بعض البلدان الشرقية، القضية الرئيسية في القمة التي ستعقد في 20 و21 تشرين الثاني نوفمبر المقبل في براغ، عاصمة تشيخيا. ومن النظريات الأميركية الجديدة تلك التي يرددها نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز الذي يعتبر أن أفضل طريق لمكافحة الارهاب هي "تلك التي تنقل الحرب الى أرض العدو" قبل تفجيره العمليات الارهابية. وتعد التهديدات الأميركية ضد العراق ترجمة لمثل هذه الفكرة. وكان العراق وإيران في الاستراتيجية الأميركية حاجزاً يحول بشكل موقت دون بسط نفوذ عسكري أميركي غير منقطع من شرق حوض البحر الأبيض المتوسط حتى حدود الصين شرقاً وحدود الفيديرالية الروسية شمالاً.