بين مصرع الرهينة الأميركي نيكولاس بيرغ، على أيدي جلاديه من إرهابيي "القاعدة"، وبين صور تعذيب الأسرى العراقيين والتنكيل بهم في سجن أبو غريب، وشيجة أعمق بكثير من مجرد المباراة في الفظاعة، وأبعد غورا من مجرد ضربٍ من علاقةِ سببيّةٍ غبيّة، بين الفعل ورد الفعل، أو من محض مسلسل ثأري، آخذ بعضه برقاب بعض، لا يني مُشرَعاً على ما هو أشنع وأنكى. فبين الفعلتين، أو الجرمين وفداحتهما أهول من أن تسنفدها ألفاظ الإدانة والاستنكار مهما أسرفنا فيها وغالينا حميمية حقيقية، مكينة ودفينة، قد تتمثل في أنهما يصدران في العمق عن منطق إبادي، وإن بالقوة دون الفعل، وإن كان الفعل ذاك لا عاصم منه إلى حين؟ إلا العجز وقلة الحول والقوة عليه، وإلا موانع من قبيل موضوعي أو إجرائي أو معياري. يلوح ذلك واضحا جليا في جريمة قتل الرهينة الأميركي، على ذلك النحو الهمجي الذي تم به تداول صوره عبر الإنترنت، فذاعت وانتشرت وشاهدها الملايين بالرغم من إحجام وسائل الإعلام "المسؤولة"، من صحف وتلفزيون، عن عرضها. فنيكولاس بيرغ، كان شابا غُفلا، أميركيا نكرةً، ذهب إلى العراق بحثا عن عمل ولم يكن له، على ما يبدو، شأن بقوات الاحتلال، بجندها ومرتزقتها وسواهم من "المتعاقدين المدنيين" الذين برزت مآثرهم في معتقل أبو غريب... لكن سماته تلك، أي براءته المُفترضة والتي كان يمكنها أن تحميه وأن تدرأ عنه الأخطار ولا تجعله هدفاً، هي التي سببت مقتله بل هي التي جعلته هدفاً ممتازاً. فهو ليس له من صفة إلا كونه أميركياً، وهو قُتل بصفته تلك حصراً، وحتى لا يقوم أي لبس حول النيّة من وراء تلك الفعلة: قُتل بسبب هويته لا بسبب وظيفته، الحقيقية أو المفترضة، في آلة الاحتلال، وفي مراتب القرار فيها أو التنفيذ مهما كانت دنيا. فإذا مصرعه، والحالة هذه، كناية عن فعل إبادة، ينال منه فعلا، لكنْ يتجاوزه رمزا إلى كل الأميركان، أولئك الذين أُسندت إليه عنوة ودون اختيار منه مهمة تمثيلهم أجمعين. فحسب ذلك المنطق الإبادي، من أجدر بذلك من مطلق أميركي، أي أحد الساعين على وجه الأرض من بني جلدته، لا يميزه عنهم شيء من حيث الوظيفة أو الجاه أو ذيوع الصيت، "يتولى تمثيل" الأميركان بإطلاق، بمن فيهم أولئك الذين قد يتظاهرون ضد حرب العراق وما نجم عنها من احتلال وقد يعترضون عليها؟ هي حرب ضد الآخر في هذه الحالة: الأميركي، والآخر ذاك كتلة صماء، عدو جوهري شامل العداء، لا سبيل إلى التمييز بين فئاته وتياراته وتلويناته، يُضرب حيثما أدركته اليد، في أفراده كناية عن الكل، تُنزع عنهم كل سمة من إنسانية، ويُؤخذون بجريرة "أهلهم"، كل "أهلهم"، فيُذبحون كما تُذبح الشاة، في طقس همجي، على صيحات "الله أكبر"! نفس ذلك المنطق الإبادي الضمني، يُلمح ويُستشف في ما ارتكبه الجلادون الأميركيون في حق الأسرى العراقيين في سجن أبو غريب. فأعمال التعذيب والتنكيل تلك، لم تنحصر، على ما هو ديدن التعذيب منذ أن وُجد ذلك الوحش الكاسر المُسمى "الإنسان" على وجه الأرض، في النيل من الضحية جسداً، أي في استغلال نقاط ضعفه البيولوجية من جَلَدٍ على تحمل الألم أو من قدرة على مكابدة الحرمان من النوم والأكل وما إلى ذلك، بل إن السمة الفارقة لهذا التعذيب أنه، فضلا عن كل ذلك، "ثقافي" في المقام الأول. لم يسبق ربما أقله في انتظار شهادة الفلسطينيين في هذا الصدد، أن وُجد تعذيب أو تنكيل "ثقافيان" مثل ذينك اللذين كان معتقل أبو غريب، وسواه من معتقلات العراق بالتأكيد، مسرحاً له. حيث كان كان؟ واضحاً هاجس النيل من الآخر ليس فقط في جسده، بالمعنى البيولوجي الأولي، بل في التصور الذي لديه حول جسده، أي، في نهاية المطاف، في كينونته الثقافية، الحقيقية أو كما يتوهّمها جلادوه ووفق الصورة التي كوّنوها عنه. إنه تعذيب "استشراقي" بمعنى ما، وفق أرذل دلالات "الإستشراق"، لا أرقاها طبعاً. فالجلادون الأميركيون لم يعذبوا مجرد معتقلين يشتبهون في علاقتهم ب"الإرهاب" فعلا أو امتلاكَ معلومات، بل عذبوا فيهم "العربي" و"المسلم" كما يتصورونهما، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا الجسد والجنس والمرأة. أي لم يعذبوا فيهم المذنب، واقعاً أو ريبة، بل عذبوا فيهم "الآخر"، أو أنهم رأوا في آخرية ذلك الآخر ترجيحا لذنبه المُفترض. وفي هذا الصدد، كان لافتاً إسهام النساء في أعمال التعذيب تلك، عملا بنفس تلك "القراءة الثقافية" التي اعتبرت أن إشراكهن في إذلال رجالٍ من ثقافة ذكورية تحط من قيمة المرأة، من شأنه أن يكون له وقع نفسي مدمّر... على ما أوحت صور كثيرة: صورة تلك المجندة التي تجر سجيناً ملقى على الأرض بسلسلة، أو تلك التي تقف ضاحكة وراء كومة من السجناء لا تظهر سوى مؤخراتهم، كأنها تحاكي فعل إيلاج. ثم هنالك تلك "البراءة" في ارتكاب كل ذلك، تلك الاستهانة بالآخر إلى درجة الاعتقاد بأن ما يُقترف في حقه ليس فعلا مرذولا أو خرقاً لقوانين سارية ولقيم راسخة. فصور التعذيب لم تُلتقط خلسة واستراقاً، بدافع الفضح والإدانة، بل لم تؤخذ حتى لاعتبارات "مهنية"، أي على سبيل استغلالها في كسر مقاومة معتقلين آخرين وقصد إنذارهم بمغبة ما ينتظرهم إن لم يبدوا تعاوناً، أو لمثل هذه الأغراض أساساً، بل من قبيل التذكارات، كتلك التي يستجلبها العائدون من رحلات "السافاري" مثلا، يؤوبون بصور لهم إلى جانب جثة أسد اصطادوه، أو برأس وعل يحنّطونه ويتصدر صالوناتهم. يجب أن يكون الآخر قد فقد كل صفة إنسانية، حتى يجري تعذيبه وقتله وامتهانه دون أدنى شعور بالذنب أو دون وعي بإتيان فعل مشين يتعين التستر عليه! ويبدو أن المحققين الأميركان لم يجدوا كبير مشقة في العثور على تلك الصور، حيث كانت مُتداولة على كومبيوترات رجالهم، في أبو غريب وخارجه، علانية ودون وجل. وكل ذلك من تبعات الأخذ بصراع الحضارات أو حروب الهوية سمّها ما شئت. فهذه الأخيرة، إذ تضع الذات في مواجهة الآخر، وإذ ترى كينونة تلك الذات وذلك الآخر في انتماء ثقافي، جوهري مطلق الغيرية عنيد في غيريته، لا تشترك مع سواها في إنسانية ولا في قانون، إنما تجعل من منطق الإبادة، بالفعل أو بالقوة، أفقها الوحيد والمحتوم، ما دام ما يؤخذ على الآخر، حقيقة أو توهماً، ليس شذوذاً قياساً إلى سوية مسلّم بها، بل هو صادر عن مواصفات فيه جبلّية، شبه جينية، تتأسس عليها غيريته الثقافية المزعومة، مَكينة لديه لا تحول ولا تزول... إلا بإزالته. وفي ذلك، يتماثل قتلة الرهينة الأميركي وجلادو معتقل أبو غريب. فهنيئا لهم، وبئس ما ينتظرهم.