لا أدري لماذا عادت إليّ صور تعذيب المسيح في فيلم ميل غيبسون عندما كنت أشاهد صور تعذيب الأسرى العراقيين في سجن أبو غريب. الجسد المجروح امام الكاميرا السينمائية تقابله اجساد منتهكة امام الكاميرا الفوتوغرافية والتلفزيونية. لكن تعذيب المسيح هو تعذيب مستعاد مشهدياً مضافاً اليه عنف مبالغ فيه. اما الاجساد العراقية فخضعت لتعذيب حقيقي ومشهدي في الحين نفسه. والألم المجازي الذي خالج مُشاهد الفيلم يستحيل حقيقياً وملموساً في الصور القاسية. تُرى هل قرأ الجلادون الاميركيون ما قالت التوراة عن الجسد الانساني وعن "الصورة" و"المثال" الشهيرين؟ ألا يدركون ان الجسد هو مرآة الكينونة وجوهرة الروح؟ ألا يعلمون ان البارئ هو الذي خلق هذا الجسد ليزهر في الارض؟ هذا، اذا افترضنا ان هؤلاء السجانين هم مؤمنون، كما تفيد الجملة الذائعة المطبوعة على الدولار الاميركي! شاء الجلادون ان يجعلوا من الاجساد العراقية المعذبة جسداً واحداً، جسداً بأجساد او كتلة من اللحم البشري. فالجسد يصبح واحداً عندما يغيب الوجه عنه، جسد نكرة ضمن اجساد نكرة، تلهبها السياط وتحرقها عزلتها أمام أعين الجلادين. اما عريها السافر فيعيدها الى غريزتها القديمة وكأنها اجساد من لحم ودم فقط، او كأنها اجساد في مختبر تخضع لتجارب نفسية وحسّية. انها جسد المسيح او جسد الحلاج، انها اجساد الرسام فرنسيس بيكون الذي كان خير من رسم "ملحمية" الجسم الانساني، انها اجساد الشهداء المعذبين، اجساد الضحايا في التاريخ. اجساد حية ولكن على شفا هاويتها، اجساد فقدت معناها وأضحت مادة مشهدية بامتياز. اجساد لا اصحاب لها، متراكمة مثل قطع لحم في مسلخ. في فيلم "آلام المسيح" يبلغ العنف ذروته حتى يصبح كأنه عنف للعنف، او عنفاً مجانياً من فرط إصراره على فرض مشهديته! هل يكمن العنف الحقيقي في مثل هذا التعذيب او في مثل هذا الجَلْد او السلخ؟ ربما شاء ميل غيبسون ان يحصر صورة المسيح في جلجلة الآلام هذه ليحمّله عنف التاريخ ووحشية البشرية! شاء ان يجعل منه بطلاً وضحية، بطل الضحايا وضحية العنف اليهودي والروماني معاً. اما صور الاجساد العراقية فتثير من الألم ما يجعلها اجساداً نقية، اجساداً معذبة، اجساداً تصرخ بصمت وتتعرى بخفر، وتتعذب بشدة وترتعش وتخاف. صورة بشعة من تاريخ اشد بشاعة، هو تاريخ التعذيب، تحضر فجأة، بقساوتها ورعبها ووحشيتها، وكأن الحضارة الانسانية لم تستطع ان تقتل في قلب الجلاد نزعته الدموية وعنفه الغريزي. يعذب الجلاد الاميركي ضحيته برغبة لا تضاهيها رغبة: انها متعة التعذيب الأقسى من متعة القتل، بل هي متعة التعذيب المشهدي وكأن الجلاد بطل ولكن في الواقع وليس أمام الكاميرا!