لا أحد حتى وقت كتابة هذه السطور يعرف بالتأكيد إن كانت القمة العربية المقرر عقدها في تونس ستلتئم أو لن تلتئم. واعترف أنني وللمرة الأولى، على ما أذكر، أتمنى أن لا تعقد. كنت دائماً داعياً لقمة دورية ومنتظمة الانعقاد. كان في رأيي أن التئام الشمل في حد ذاته حافز كاف. لم يكن مهماً من وجهة نظري صدور قرارات. فقد خرجت القمة بقرارات مترددة في أفضل الأحوال، فاقدة الروح والمعنى في أسوأها، ومع ذلك كانت القمة دائماً فرصة ليجلس الحكام مع بعضهم البعض يتشاورون ويقلّبون الأمور على وجوه مختلفة، ويتبادلون الشكوى من هذه القوة العظمى أو تلك، كانت معظم مؤتمرات القمة مناسبة للعتاب الهادئ بعيداً عن تعقيدات الزيارات الرسمية والحرج المرافق لها . ففي القمة يستطيع أي رئيسين عقد خلوة لا تقتنصها عدسات آلات التصوير ولا تلحظها عيون الصحافيين والمراقبين، ولا ينتبه لها حاسد أو شامت أو متآمر متربص أو مترصد. لماذا أتمنى أن لا تنعقد هذه القمة المقرر إعلامياً انعقادها في العاصمة التونسية؟ من بين أسبابي لا يوجد سبب واحد يتعلق من قريب أو بعيد بمقر الانعقاد، أي تونس. إنما خشيتي الأكبر أن تعقد هذه القمة وشهية الولاياتالمتحدة، كما هي الآن، مفتوحة إلى حدود قصوى. أفهم بعض الشيء السياسة الأميركية نتيجة متابعتي لها على امتداد عقود. أعرف عن الولاياتالمتحدة شراهتها، ولكن، في ظني، لم تكن يوماً شرهة كما هي شرهة هذه الأيام . وما يقلقني أشد القلق أن هذه الشهية مفتوحة لطيبات عربية أكثر من أي طيبات أخرى في عوالم أخرى ، وأكثر هذه الطيبات غير مادي. أعتقد أيضاً أن قابلية بعض العرب للعطاء في هذه الأيام نفسها التي انفتحت فيها الشهية الأميركية قابلية غير محدودة. لعلها مفتوحة بقدر انفتاح شهية أميركا لطيباتهم. من أين نبدأ. لن نعود إلى الوراء كثيراً رغم أن الشهية الأميركية مفتوحة منذ زمن غير قصير والقابلية للعطاء العربي معروفة أيضاً منذ استقلال معظم دولنا. فلتكن نقطة البداية القمة التي انعقدت في بيروت منذ عامين أو أكثر قليلاً في بيروت خرجت القمة بمبادرتها الشهيرة ، وقتها زاد يقين الأميركيين من أن العرب مستعدون لعطاء أكثر في قضية فلسطين مقابل أن يحصلوا من الإدارة الجديدة في واشنطن على شروط أفضل للتعامل الثنائي . كانت المنطقة تعج على ألسنة نخبها السياسية وأقلامهم بأفكار تشيد بالجمهوريين الذين كانوا دائماً حسب الخرافة السائدة في العالم العربي أقل انحيازاً لإسرائيل وأكثر قرباً للعرب بسبب غزارة مصالح الشركات الكبرى الأميركية في المنطقة العربية ، وهي الشركات التي يعتمد عليها الحزب الجمهوري في تمويل حملاته الانتخابية وتسيير سياساته الخارجية . فلتكن الصفقة إشباعاً أعظم لمصالح أكثر مقابل بعض الرضاء . ولم تمض أسابيع إلا وعرف الرأي العام العربي وكل حكومات العرب وأوروبا أن إدارة الجمهوريين لم تفعل شيئاً على الإطلاق بهذه المبادرة ، ولم تقدم في المقابل شيئاً ولا حتى الرضاء القليل . لم يكن خافياً علينا أن إدارة الحزب الجمهوري جاءت إلى الحكم حُبلى بأفكار عن صدام الحضارات والصحوة الإسلامية والرغبة في تحقيق انتصارات عسكرية سريعة في مكان أو آخر من العالم . لم تجد المبادرة العربية موقعاً مناسباً تصطف فيه إلى جانب الخطط التي استعد بها نائب الرئيس الأميركي وجماعته ابتداء من دونالد رامسفيلد وانتهاء بأمير الظلام ريتشارد بيرل مروراً بعشرات من المتشددين والكارهين للعرب وللمسلمين . لم تقنع الولاياتالمتحدة بمبادرة بيروت فطلبت المزيد بعدها. تفاقمت الضغوط على دول عربية بعينها لكي تغير في مناهج تعليمها لتأكيد صدق دعواها في تبني مبادرة بيروت أو غيرها ومدى إخلاصها لقضية سلام إسرائيل. وتغيرت بعض حوادث التاريخ في الكتب العربية واختفت آيات بعينها وصار بعض أطفالنا يقرأ سيرة مختلقة عن الغزوة اليهودية الكبرى . ثم وقعت أحداث 11/9 وتغيرت اللهجة الأميركية من لهجة الطلب إلى لهجة الأمر . زاد عدد القوات الخاصة التي نقلت لدول عربية . وانتشر عملاء مكتب التحقيقات الأميركي في المنطقة وتمركزوا في عواصم عربية متعددة ، وفتحت خزائن أسرار أجهزة الاستخبارات لتحكي للأجانب روايات عن المواطنين . وحين بُدئ في تنفيذ خطط غزو أفغانستان والاستعداد لغزو العراق قبل الانتهاء من معركة أفغانستان كان المطلوب أن يكون العطاء العربي بغير حدود وخاصة فيما يتعلق بتسهيلات المرور واستخدام القواعد. هذا العطاء أنكره بعض الدول العربية في مرحلة من المراحل. وحين سقط الرئيس صدام حسين ووقع اعتقاله تفتحت شهية أميركا للمزيد. فكان الانقلاب الذي حدث في العلاقات الليبية الأميركية، وعلاقات ليبيا بالغرب عامة، وعلاقات الطبقة الحاكمة الليبية بعقيدتها وفلسفاتها وشعبها وجيرانها وماضيها، أي علاقاتها بجميع أسباب وجودها. هذا التطور الانقلابي لم يشبع نهم واشنطن، فطلبت المزيد من عرب آخرين. فكان أن قام الرئيس الفلسطيني بطرد المقاتلين الفلسطينيين الذي احتموا بالبناية المحاصر فيها. فعل ذلك استجابة لطلب أو لأمر، أو ربما استجاب بحركة استباقية أملاً في أن تعطل هذه الحركة أو تؤجل تنفيذ قرار اغتياله أو ترحيله. ومع ذلك فليس كل ما تطلبه أميركا من الدول العربية تتوقع الحصول عليه. وفي بعض الحالات أظن أنها تطلب استمتاعاً لا أكثر. فبعض الإشباع يتحقق بالاستعداد لتلبيته. أحياناً أتصور أن الهدف من بعض الطلبات الأميركية تسخين المقاعد التي تجلس عليها الطبقة الحاكمة في العالم العربي ، طلبت أمريكا إجراء الإصلاح السياسي. كان السؤال المتردد في كافة قصور صنع السياسة العربية هو إن كانوا حقاً في واشنطن يريدون لنا الاستقرار فلماذا هذه الحملة الصاخبة. لم يكن الإصلاح في حد ذاته هدفاً بقدر ما كان الصخب المصاحب لهذه الحملة. فبالضجة تفقد الحكومات العربية توازنها إن لم تفقد اتزانها. حدث هذا، وحدث ذاك. فالصخب يمزق أستار الصمت ويكشف الأسرار ويفضح نفاق جوانب في السياسة العربية. ولن يتوقف هذا النفاق إلا عندما تعتمد الحكومات العربية أخلاقيات واضحة في تعاملها السياسي، إما الفضيلة في أبهى صورها مع مسحة مسموح بها من الرذيلة، وإما الرذيلة في أقبح صورها مع مسحة ممسوخة من الفضيلة، ولكن ما يحدث في بعض الحالات هو إدعاء واحدة وممارسة الأخرى، وهو ما صارت ترفضه معظم الدول المتعاملة مع العرب. فالنفاق كطريق ثالث بين ادعاء الفضيلة وممارسة الفساد والاستبداد لم يعد مقبولاً. كذلك لم يعد مقبولاً النطق بخطابين في آن واحد، خطاب علني إلى الرأي العام العربي وخطاب سري إلى واشنطن. ومع ذلك يعيب بعض العرب على الولاياتالمتحدة أنها تحصل من الدول العربية سراً على الكثير مما تشتهيه، وبعد فترة تسرب للصحافة العالمية وللرأي العام العربي والأجنبي أسرار وتفاصيل العطاء الكريم الذي يصلها من هذه الدول . تصطاد عصفورين بحجر واحد. تحصل على ما تريد ثم تفضح مَنْ تريد. أظن مثلاً أننا سنعرف قريباً أن اجتماعاً طارئاً للقمة الإسلامية جرى تخفيضه إلى مؤتمر طارئ لوزراء الخارجية وانتهى باجتماع طارئ لعدد محدود جداً من وزراء الخارجية استجابة من دول عربية وإسلامية لطلب صريح أميركي، أو على الأقل "استباقاً" بهدية متواضعة من جانب هذه الدول للولايات المتحدة الأميركية . قد تعرف هذه الدول، أو لا تعرف، أن هذا العطاء الكريم تفسره الولاياتالمتحدة ودول عديدة في العالم على أنه رفض غير مباشر لكل ما قيل عن أن هناك عتاباً أو انتقاداً أو غضباً على الموقف المعادي للعرب الذي اتخذه الرئيس بوش في لقائه مع شارون وتوني بلير ، وتحدى به كل العرب ممثلين في أشخاص قيادات عربية كثيرة منها من تصادف وجوده في الولاياتالمتحدة . وستبقى شهية أميركا مفتوحة لطيبات العرب. أرادت أميركا شرعية وتسهيلات عربية والسكوت لتغزو العراق. وحصلت على ما أرادت. وهي تريد الآن شرعية لإجراءات جديدة تنوي اتخاذها في العراق وفي فلسطين. تريد شرعية لحكومة انتقالية جديدة، ولأعمال ردع، ولسكوت مطبق عن وحشية الجنود الأميركيين والبريطانيين وإذلالهم المتعمد للعراقيين. تريد موافقة مسبقة لحرب أشد ضراوة في العراق وتصفيات لأشخاص وقضايا في فلسطين والسودان ودول عربية أخرى . وتريد وجوداً عربياً في الداخل العراقي يحمي القوات الأميركية كالوجود العربي من الخارج الذي يحمي إسرائيل عسكرياً وسياسياً ودولياً، تريد تعبئة عسكرية في كل دولة عربية لحماية العسكريين والمدنيين الأميركيين ومعاملتهم"خارج السيادة الوطنية". تريد نفطاً أرخص وأموالاً أوفر. تريد رقابة حكومية أشد على أجهزة الإعلام لمصلحة ممارسات أميركا العسكرية والسياسية في العراقوفلسطينوأفغانستان. وتريد في الوقت نفسه حرية مطلقة لأجهزة الإعلام في الدعوة إلى الديموقراطية وتمكين المرأة واحترام حقوق الإنسان بشرط عدم المساس بتجاوزات الأميركيين والإسرائيليين في كل هذه الأمور. ولا يخفي مسؤولون أميركيون، وأصدقاء لهم من المسؤولين العرب، أن الأولوية في المرحلة القادمة ستكون للتركيز على إقناع بوش شخصياً وحكومته أن الحكومات العربية تتمنى فوزه في الانتخابات وستعمل لتحقيق ذلك . ولتأكيد هذه النية تجري محاولات لمنع القمة العربية القادمة من إصدار قرارات أو بيانات تخدش مكانة الرئيس أو سمعة إدارته أو ممارسات جنوده ضد المدنيين في أي مكان أو تحرمه وحكومته من أهداف وطيبات أخرى في هذا الإقليم. تريد أميركا أن تؤكد القمة المقبلة واقعيتها وموضوعيتها فتصدر مواقف تتناسب والواقع الجديد على الأرض في الشرق الأوسط الكبير، أي تتناسب وواقع الهيمنة الأميركية المطلقة، وتتناسب مع واقع العجز العربي ممثلاً في نقص الإرادة والقيود على السيادة. مطلوب من هذه القمة أن تضغط بشدة أكثر على دولة قطر لتقييد حرية فضائيتها الشهيرة وتهبط إلى مستوى فضائيات أخرى تم فعلا تقييدها حتى إنفض الناس عنها. مطلوب شرعية مسبقة لمشروع الإبراهيمي للعراق ومشروع الكونغرس لسورية ومشروع إسرائيل لفلسطين ولمجموعة تشريعات عربية تخدم أمن إسرائيل ومصالح كل يهود العالم. ومطلوب من القمة تقنين الغياب بأمر أميركي لعضو أو أكثر من أعضائها. المطلوب أميركياً من هذه القمة كثير، ومعظمه يحتويه جدول أعمال لم يعلن ولن يعلن. والمطلوب شعبياً أيضاً كثير، مطلوب أن تؤكد القمة العربية مسؤوليتها تجاه شعوبها فتصدر مواقف تتناسب وواقع آخر على الأرض، واقع الورطة الأميركية والغضب العام في معظم أركان الشرق الأوسط. بعض الناس متفائل بانعقاد القمة وإن من دون مضمون، وبعضهم يحلم باحتمالات تمردها وأنها قد تفاجئ الرأي العام العربي بما لم يتوقع. وسط كل هذا، سمعت من يقتبس من"أليس في بلاد العجائب"قولاً ذائعاً"إن كنت يا أليس لا تعرفين أين أنت ذاهبة، فاسلكي أي طريق لأن كل الطرق ستأخذك إلى هناك". * كاتب مصري.