مثلث الاوجاع المتفجرة يستحوذ على دوائر الاهتمام في هذه الايام. وقوائم هذا المثلث: العراق، فلسطين، لبنان. ففي القائم الاول احتلال يناضل ويعاني ويكابد لتكريس سلطته. وفي القائم الثاني احتلال مفترس يسعى الى اطالة امد اقامته وتسلطه على سلطة وعلى شعب بكامله بمعزل عن "خريطة الحل" والتي حولها الى "خريطة المأزق"، وفي القائم الثالث احتلال آخر اياه يتحرش بلبنان في محاولة لانتزاع ثأر دفين يعود الى هزيمتين من الوزن الثقيل: اولاهما، هزيمة ارييل شارون المعروفة في الاجتياح عام 1982 والذي بلغ به حد العاصمة اللبنانيةبيروت، وثانيتهما: هزيمة الانسحاب من الجنوب اللبناني العام 2000 من دون قيد ولا شرط ولا معاهدة سلام، مسجلاً بذلك سابقة من نوع مميز في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي المعاصر. واذا كان الاحتلال هو الجامع المشترك بين مثلث الاحزاب في المنطقة. ففي استعراض ولو خاطف للوضع يتضح مدى سقوط هذه الاحتلالات في المأزق الامر الذي يجعل هذه المنطقة بأسرها اسيرة التخبط والتعثر وعمليات التجاذب الحادة بين اكثر من اتجاه وتيار ومصلحة، للفترة المقبلة وللمستقبل المنظور قدر المستطاع، او ما هو مباح من معلومات يمكن ان يبنى عليها اي تحليل سياسي يريد الاقتراب من الموضوعية. الوضع العراقي بالنسبة الى الوضع العراقي: انقضت فترة المئة يوم من عمر الوجود الاميركي. وهذه المدة الزمنية تشكل في العالم اختباراً لكيفية سير الامور سواءً في الاتجاه الصحيح او في الاتجاه الخاطئ. لذا كان من الطبيعي ان "يحتفل" الرئيس جورج دبليو بوش بهذه الذكرى بالقول: "ان مئة يوم ليست كافية لاعادة الاستقرار الى العراق". وبتعبير آخر يقر الرئيس الاميركي بعدم نجاح "خطط الورق" التي أُعدت ل"العراق الجديد" والتي يتضح يوماً بعد يوم ان لا وجود لخطة محكمة ومركزة لضبط "الحالة العراقية"، بقدر ما كان التركيز على تفكيك حكم صدام المطارد من قبل القوات لاميركية، والتي لم ينفع حتى كتابة هذه السطور رصد مبلغ 25 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات او وشاية تفضي الى العثور عليه حياً او ميتاً. وفي معرض البحث عن الاسباب والتبريرات لعدم تمكن الوجود الاميركي في السيطرة على الوضع في العراق يرى الرئيس بوش: "… ان هذا الالتزام الطويل الأجل حيوي من اجل السلام في المنطقة ومن اجل الولاياتالمتحدة وجزء من رؤية شاملة لتغيير الشرق الأوسط". ومثل هذا الكلام يعني ان الطريق الى الأمن الاميركي يمر في العراق وفي المنطقة. وفي تقرير من 24 صفحة نشره البيت الابيض بهذه المناسبة بعنوان: "مئة يوم نحو الامن والحرية" ورد: "… ان معظم انحاء العراق يسودها الهدوء ولا تقع هجمات سوى في مناطق معزولة" كذا. لكن هذه الصورة المفرطة في التفاؤل تناقضها الحقائق الميدانية على الارض. ويُعلّق احد الخبراء المتابعين من قرب لمسار التطورات في العراق بالتالي: ان كل شيء في الولاياتالمتحدة الاميركية في هذه الايام هو في حال انخفاض. من الدولار الى حالة الاقتصاد، الى نسبة المؤيدين للحرب. وحده عدد القتلى الاميركيين في العراق وفي حال السلم في ارتفاع متواصل بدأ يثير القلق في الداخل الاميركي. ومن هذا المنطلق واذا كانت الادارة الاميركية باتت على قناعة بأن الجهاز المكلف الاشراف على ادارة الاحتلال ارتكبت ويرتكب بعض الممارسات الخاطئة التي تعمق ازمة الثقة بين الوجود الاميركي والمواطن العراقي، فالاجدى بها ان تجري مراجعة جذرية للخطط التي اعدتها وللتوجهات الي تسير بموجبها حتى لا تتفاقم حال الغضب العراقي اكثر فاكثر. وحبذا لو كانت البداية بتأمين الخدمات الحياتية الاساسية بالكهرباء والماء والغذاء والدواء كي يشعر هذا المواطن العادي بالتغيير الذي وعد به بعد اسقاط نظام صدام حسين. وعلى صعيد آخر تخوض واشنطن معركة تثبيت واقرار سلطة مجلس الحكم المحلي الانتقالي كي يتمكن من القيام بدور اكثر تأثيراً وفاعلية. ومرة اخرى تنجح الولاياتالمتحدة في انتزاع تصويت مجلس الامن الدولي على اعتبار "ان تأليف هذا المجلس خطة مهمة في الاتجاه الصحيح". وهذا ليس اعترافاً قانونياً وبشرعية وجود هذا المجلس ولا تنصلاً منه، بل هو في منزلة بين المنزلتين. والقرار الاخير يمكن ادراجه في سياق توسيع رقعة التأييد الدولي لادارة الاحتلال الاميركي في العراق من جهة، وتنازل تدريجي من قبل الولاياتالمتحدة والتي تؤكد التجارب يوماً بعد يوم ان اميركا وبريطانيا تمكنتا من خوض الحرب بمفردهما، لكن كسب معركة الحرب واعادة اعمار العراق يحتاجان الى مساعدة العديد من الاطراف الدولية. وفيما تسعى الاسرة الدولية الى العمل على احتواء الوضع الجديد في العراق، فان الاسرة العربية لا تزال تعتصم بموقف رفض الاعتراف بشرعية مجلس الحكم العراقي، وتصر ما يسمى ب"لجنة المتابعة العربية" على ضرورة اجراء انتخابات لمعرفة التمثيل الحقيقي لكافة شرائح واطياف التركيبة العراقية. ومع ايماننا القاطع بمبدأ الديموقراطية وشرعية التمثيل النيابي فان الموقف العربي غير مبرر على الاطلاق حيال ما يجري في العراق. لأن الاطراف العراقية تعرف جيداً ان الوضع الراهن لا يسمح باجراء انتخابات في العراق. يضاف الى ذلك ان لجنة المتابعة العربية تصدر العظات الديموقراطية وكأن كافة الانظمة العربية المنضوية تحت شعار الجامعة العربية هي منتخبة عن طريق الاقتراع النظامي والحضاري والنزيه والعادل الذي لا تشوبه شائبة! ويقال ان الامين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى وقلوب المخلصين قلقة عليه في هذه المرحلة من انكسار النظام العربي تلقى اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الاميركي كولن باول حمل بعض العتب وحتى بعض الغضب من عدم صدور ترحيب عربي اكثر حرارة من البيانات الباهتة والباردة التي صدرت حتى الآن في ما يتعلق بمجلس الحكم في العراق. وقيل للوزير كولن باول ان ميثاق الجامعة العربية يحول دون قبول انضمام دولة، الى عضوية الجامعة وهي تحت الاحتلال، فكان رد باول على الرد: وماذا فعلتم لادخال فلسطين في الجامعة العربية وهي لا تزال تحت الاحتلال؟ واذا كان كلام باول يساوي عن قصد او غير قصد ما بين الاحتلال الاميركي للعراق والاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، فان الموقف العربي يجب مطالبته بالحاح والعمل السريع والجاد على استرداد العراق الى الاسرة العربية، وفتح حوار مباشر على الاقل مع اعضاء مجلس الحكم الانتقالي. فهل يعقل ان تكون ايران الدولة الاولى التي سارعت الى ارسال وفد للتحاور مع المجلس الموقت ولم يتم حتى الآن اي اتصال رسمي بين جامعة العرب و"العراق الجديد"؟ عراق الوطن والشعب لا الاحتلال ثم أيُعقل ان تتحادث اكثر من دولة عربية مع اسرائيل ولا يجري التجرؤ على فتح حوار عربي عربي مع العراق؟ ايها العرب من المحيط الى الخليج: لقد خسرتم العراق عندما وقعت الحرب… لكن لا تخسروا استعادة العراق للحظيرة العربية. واذا كان هناك في العالم العربي المستمر في غيبوبته السياسية والقومية من لا يعلم حقيقة ما يُخطط له فإلى من يهمه الامر نقدم ابرز الملامح عن بعض الوثائق الاميركية التي سلمت اخيراً الى المسؤولين العرب ليس لدراستها وابداء الرأي فيها بل للتأقلم مع "الوضع الجديد" منذ الآن. المشروع الاول: يطلق عليه النظام الاقليمي الجديد في الشرق الاوسط، وتبدأ مرحلته الاولى بتبني الدول الخليجية اصلاحية ديموقراطية وخطوات اكثر بعداً وتنفيذاً في سلامة الانتخابات وتكوين مجالس نيابية قوية منتخبة واصلاحات في مسائل حقوق الانسان وتعديل الخطاب الديني ليتم بالاعتدال والواقعية. وكل ذلك ستتضمنه اوراق تفصيلية يناقشها الخبراء الأميركيون مع مسؤولي الدول الخليجية، على أن يتم انجاز هذه الإصلاحات المطلوبة في غضون 18 شهراً من تاريخ البداية. ويرى المشروع الأميركي أنه "خلال الثمانية عشرة شهراً التي سيجري فيها تنفيذ هذه الإصلاحات، فإن الأوضاع في العراق تكون قد استقرت وأخذت درجة كبيرة من الشكل والتطور نحو بناء نظام ديموقراطي مستقر وحكومة قوية داخل العراق". وفي إطار المرحلة التالية: يركز هذا المشروع على تطوير مجلس التعاون الخليجي القائم حالياً ليضم العراق إلى جانبه كخطوة أولى، وربما دولاً أخرى في خطوة ثانية. وسيكون غرض الاتجاه الرئيسي هو التنسيق في السياسات الأمنية والدفاعية المشتركة ازاء كافة أنواع التهديدات التي تتعرض لها هذه الدول. كما ان التعاون الاقتصادي بين هذه الدول سيكون محكوماً باتفاقات مع الولاياتالمتحدة، وان بريطانيا قد تنضم إلى هذه الاتفاقات. وتشير المذكرة إلى "أن اليمن ستكون من أوائل الدول المرشحة للانضمام إلى هذا النظام الاقليمي الجديد، شرط أن تلتزم اليمن بعدد من خطوات الإصلاح السياسي والاقتصادي. وفي حال تعذر انضمام اليمن إلى هذا المجلس الاقليمي، فهي اليمن ستكون مرشحة لنوع آخر من الترتيبات الأمنية والاقتصادية في البحر الأحمر". ويؤكد المشروع على ضرورة بحث انشاء مجلس جديد للأمن في البحر الأحمر يضم اليمن واريتريا ومصر والأدرن، وقد تشارك فيه إسرائيل، وان هذا المجلس سيعدد أيضاً جوانب التعاون السياسي والاقتصادي بين أعضائه محكوماً باتفاقات سياسية واقتصادية مع الولاياتالمتحدة. كما يؤكد المشروع "ضرورة وجود حلقات تنسيق وتعاون أمني جديد بين المجلس الجديد للأمن في البحر الأحمر وبين مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً أن البحر الأحمر يمثل تخوماً استراتيجية لدول الخليج". ولا يستبعد المشروع نفسه السودان من التفكير في الأطر الاقليمية الجديدة للشرق الأوسط، "إلا أنه على السودان انجاز العديد من الواجبات حتى يعود إلى مساره الطبيعي وفق الرؤية الأميركية". وتأمل الإدارة الأميركية من الانتهاء من بناء النظام الاقليمي الجديد في المنطقة في غضون الفترة الأولى من الولاية الثانية للرئيس بوش! المشروع الثاني: يؤكد على ضرورة "ضم مصر والأردن مع دول الخليج والعراق الجديد في منظومة أمنية واحدة تكون فيها الولاياتالمتحدة شريكاً كاملاً في الالتزامات والحقوق والواجبات مع هذه الدول. ويطلق على هذه المنظومة الأمنية الجديدة مسمى "مجلس الدفاع المشترك للشرق الاوسط ويترك فيه الباب مفتوحاً أمام انضمام دول أخرى ويرشح المشروع إسرائيل وتركيا للانضمام إلى هذا المجلس في مرحلة تالية". العلاقات العربية - الإسرائيلية المشروع الثالث: والذي عرضه الرئيس جورج بوش هدفه الأساسي "يركز على توسيع طبيعة المنظومة الأمنية لتشمل دول المغرب العربي، خصوصاً المغرب وتونس، وأن هذه المنظومة الواسعة سيكون هدفها بالأساس مكافحة الإرهاب واقتفاء أثر ومحاصرة نظم الحكم التي ترعى الإرهاب في هذه المنطقة". وبالإضافة إلى ما سبق، أعدت الإدارة الأميركية مذكرة تتناول العلاقات العربية - الإسرائيلية في مرحلة ما بعد عام 2005. "حيث الأمل في أن تمضي العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية بشكل يوحي بالثقة والصداقة والتعاون، وأن يكون الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي قد تخلصا من كافة المشاكل السياسية والعسكرية والأمنية وأن تكون الاتفاقات قد توجت بإعلان الدولة الفلسطينية". وهنالك مذكرة أخرى تتناول العلاقات السورية - الإسرائيلية وما يتعلق ب"انتشار الجماعات الإرهابية في سورية ولبنان". وترى الإدارة الأميركية بأن يكون المسار الفلسطيني - الإسرائيلي هو الحاكم في إعادة تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية. أما في ما يتعلق بالمسار السوري، فإن الإدارة الأميركية تصر على أن تفي سورية بالتزاماتها كافة تجاه عملية السلام، وأهمها عدم التعاون مع الجماعات الإرهابية والتدخل لحل "حزب الله" اللبناني، وأن تكون جادة في عملية السلام مع إسرائيل وفق المذكرة التي قدمها الوزير كولن باول إلى الجانب السوري في زيارته الأخيرة. وتشير المذكرة إلى أن الإدارة الأميركية ستطرح مشروعاً منفصلاً للسلام بين سورية وإسرائيل وبين لبنان وإسرائيل في حال التزام سورية بهذه الشروط. كذلك تشير مذكرة أخرى إلى أسس تحقيق التقدم في تطبيق "خريطة الطريق". وفي هذا المجال اقترح الرئيس بوش استعداد الولاياتالمتحدة لمساندة رئيس الوزراء الفلسطيني في القضاء على "الجماعات الإرهابية الفلسطينية". وسيطلب الرئيس بوش من مصر والأردن والسعودية مساندة الجهود الأميركية في هذا الصدد من خلال الدعم المالي أو دعم الأجهزة الأمنية العربية. كما يدعو الرئيس الأميركي الدول العربية "إلى مساندته في تحييد ياسر عرفات في عملية السلام اولاً ثم التأكيد على "ان عرفات شخص غير جدير بأن يحقق السلام مع اسرائيل ومقاطعته وعزله نهائياً عن مسارات الاحداث". كما يشدد الرئيس بوش على اهمية التعاون "المصري الاسرائيلي في المرحلة المقبلة، خصوصاً وان اسرائيل لديها تحفظات قوية عن السلوك المصري في عملية السلام". اذاً هذه هي بعض الخطط المعدة اميركياً لتغيير الخريطة السياسية للمنطقة. ومن له آذان فلتسمع. اما الحديثث عن الاحتلال الاسرائيلي في اتجاهي فلسطينولبنان فله مجال آخر في مقال آخر. فالبقية والتتمات كثيرة، والتداعيات لم تنته فصولاً بعد. * إعلامي لبناني.