تعددت الحوافز الدافعة للانفجار وتفاقمت حتى وقع الانفجار. كل حافز منها كان في حد ذاته وعلى امتداد سنوات وصفة ممتازة لصنع حريق هائل في الأراضي المحتلة وفي إسرائيل ذاتها. فعندما تكتفي الحكومات العربية ومن خلال مؤتمر قمة بإعلان انها اختارت السلام خياراً استراتيجياً من دون أن تضع تعريفاً واضحاً لهذا السلام الذي تريده، فإنها تكون خدمت فرص تجدد الانفجار ولم تخدم السلام. وقبلها كان اتفاق أوسلو نموذجاً لسلام ناقص ومزيف. وتناولته الأقلام والآراء بالتحليل والنقد، وتنبأ أكثرها بأنه سيجر المنطقة الى الانفجار، إذ أنه بعد سنوات من استنزاف النيات العربية في معظم العواصم العربية، تلك العواصم المشتركة مباشرة في التفاوض أو المشتركة من بُعد بالضغط على الفلسطينيين أو بالنفوذ، لاحظ الجميع، وبينهم القادة الفلسطينيون، أن السلام المعروض لا يزيد على مسيرة مفاوضات مستدامة، يكسب خلالها الإسرائيليون والاميركيون أرضاً وهيمنة، ويكسب العرب خلافات، حتى جاء يوم اكتشفوا فيه أن شعوبهم كانت على امتداد المسيرة تختزن الغضب وتنتظر الانفجار. كان قرار الخيار الاستراتيجي، ولا يزال، قراراً غير مكتمل البنود، وغير واضح المضمون، ولذلك كان حافزاً للانفجار لأنه كان يعني شيئين مختلفين عند طرفي المفاوضات، أو بمعنى أدق، عند أطراف السلام. والآن تأكد بالانتفاضة أن هذا القرار، بنصه القائم ومضمونه الناقص، غير مقبول لدى الشعب الفلسطيني، ومرفوض من الشعوب العربية التي خرجت إلى الشارع تطالب الحكومات بتبني مفهوماً للسلام يكون أقرب إلى العدالة والشمول والحقوق من القرار الذي تبنته قمة 1996. كانت رسالة الشعوب واضحة، وهي أنه ما لم يكن السلام عادلاً بما يتضمنه من عودة الحقوق، فلا سلام في أي بقعة من الأراض العربية. ويخطئ من يقلل من خطورة الرسالة، أو يفسرها على غير ما تعنيه حقيقة، وأخطأ فعلاً خطأ جسيماً كل من قال بالهمس أو بالصوت العالي إن ما حدث في شوارع معظم العواصم العربية وفي مدن كثيرة كان عملاً غوغائياً. الغوغائية هي أن ترفض تحكيم العقل في ما يطرحه الشعب، والغوغائية الأشد خطراً وتهديداً لكل المثل الديموقراطية هي أن يتعالى أهل النخبة السياسية على الجماهير وعلى كل ما يصدر عنها. كذلك كان التقدم على صعيد التطبيع مع إسرائيل وصفة أخرى ممتازة لصنع انفجار. حاولت القمة الماضية "عقلنة" التطبيع، ووضعت محاذير، تجاهلها بعض الدول العربية. وقع التجاهل لأسباب معروفة، اهمها غموض المقصود بالسلام الذي اختارته القمة ذاتها خياراً استراتيجياً. ولكن هناك ايضاً هذا الضغط الرهيب غير المسبوق من جانب الشريك الاميركي، والذي أخذ في أحيان كثيرة - حسب تعبير أحد كبار المسؤولين العرب - شكل الأوامر المباشرة. فالسلام عند اميركا يعني احتضان إسرائيل حتى لو استمرت تقتل الأطفال والشباب أو تقتلع عيونهم برصاص جنودها، وتهدم بيوتهم بصواريخ مروحياتها. وكلنا على ثقة، أن القمة حين قررت السلام خياراً استراتيجياً لم تكن تقصد هذا السلام. ومع ذلك فقد اثبتت السنوات الاربع الماضية أن هذا السلام الذي مارسته أطراف المفاوضات كافة، كان السلام الذي أشعل الانفجار. اصبح واضحاً الآن، أن الجماهير العربية كانت تتابع خطوات التفاوض. كانت تتابعها بشكل عظيم وإن في صمت. وبسبب هذا الصمت وجدت المرحلة من يطلق عليها تعبير الرقاد الطويل في العالم العربي. تصور البعض ان الشعوب تعبت من دوام الحال، وانهكها سوء أحوال المعيشة أو القمع الممارس ضدها بينما الشعوب الأخرى ترتقي وتتحرك وتشارك. تصور هذا البعض أن الشعوب من فرط التعب نسيت قضاياها العابرة للحدود. وكثيرون، بنيات طيبة أو غير طيبة، ناموا على هذه النغمة الهادئة، أو هذا الحلم الجميل. واستفادت إسرائيل والولايات المتحدة فاستمرت تنفذ أو تفاوض على السلام المنقوص، وليس السلام الحقيقي الذي لم يأت ذكره في قرار قمة 1996. ولعبت جماعات وأفراد دوراً كبيراً لنشر هذه الصورة على أوسع نطاق ضمن حملة الترويج للسلام الناقص والقبول بالأمر الواقع. ونشطت حركات وجمعيات أنصار السلام وتعددت فروعها، واستمرت تعرض اجتهاداتها ولم تشعر بخطورة ما يحدث بسببها أو من حولها. فقد بزغت في السر حركات وجمعيات أنصار إسرائيل، ثم نشطت حتى أصبحت تشكل جماعات ضغط نافذة ومخترقة ومؤثرة في قطاعات مهمة من البيروقراطية السياسية العربية. لم يدرك انصار السلام أن حركتهم كانت السبب غير المباشر في قيام هذا اللوبي الإسرائيلي الضاغط بشدة عليها وعلى الحكومات، وهو نفسه كان سبباً غير مباشر في اتساع نطاق الانفجار الجماهيري في عواصم بعينها. كذلك كانت الديبلوماسية الاميركية وصفة اخرى ممتازة لتخريب فرص تحقيق سلام حقيقي. إن أي تقويم موضوعي لأداء الفريق الاميركي سيتوصل الى أن المفاوضين الاميركيين تفوقوا على أنفسهم في ناحيتين على الأقل: الجهل بثقافة المنطقة واتجاهاتها العقائدية من ناحية، والانحياز لإسرائيل الى حد رفض تعلم الجديد عن الطرف العربي أو تقدير ظروفه ومراعاة حساسياته الداخلية من ناحية أخرى. وكلنا نعرف أن الانحياز الى هذه الدرجة وجه آخر للجهل أو لعله أقصر الطرق الى الجهل. وأظن أن التحليل النهائي لما جرى في قمة كامب ديفيد وما حدث بعدها وحتى كتابة هذه السطور يؤكد أن الاميركيين بأدائهم المتميز بالقصور الشديد بسبب قلة ما يعرفون، إما لجهل أو لإنحياز، كان سبباً من أهم الأسباب المباشرة للانفجار الشعبي في فلسطين وسائر الدول العربية. كثيرة هي الوصفات التي بامتيازها أوصلت الأمور الى درجة الغليان ثم الانفجار، تعددت الاسباب الى جانب اقتحام شارون الحرم الشريف، وعلى كل حال شارون باق معنا في الصراع ولمدة طويلة، بمعنى أنه ليس الوحيد. فقط تأكدت خلال الأيام القليلة الماضية، أي خلال العنف الوحشي الذي مارسه جنود إسرائيل والمستوطنون، تأكدت مقولات جديدة في الفكر السياسي الإسرائيلي، خلاصتها أن الصهيونية - كعقيدة سياسية لنخبة تحديث يهودية - فشلت في تحرير اليهود أنفسهم، أي فشلت في تحقيق هدفها الأول. كانت هذه الأيام الأخيرة كافية لتأكيد أن الصهيونية التي قامت لتحرير اليهود من ذاتيتهم التي تكونت وراء أسوار "الفيتو" وفي ظلامه سقطت مثل كل التجارب السابقة على الصهيونية والتي كانت تهدف الى تحرير اليهود من عقد الشك في الآخر والحقد عليه. اليهودية تعود الى أوضاع انغلاق أسوأ من كل سيئات الصهيونية وسلبياتها. ولا يقول قائل من أنصار هذا السلام، أو من جماعات عربية أنعمت على نفسها بأوسمة الاعتدال والعقلانية والواقعية، إن عودة اليهود إلى الانغلاق والحقد على الآخر والحاجة الى إفراغ ذنوبها فيه بأعمال القتل والتشريد في أطفاله وشبابه، أرجو أن لا يقول قائل إن علاج هذه الحال يكون بالتطبيع وتقديم التنازلات. لذلك تتطلع الأنظار الى القمة، وتتكاثر الاسئلة احياناً في شكل توقعات، المشكلة ليست في أن اميركا تريد قمة ببنود متعددة ولا تريد قمة البند الواحد، أي قمة بعنوان القدس. المشكلة تكمن في هذه العلاقة الشاذة بين اميركا و"مؤسسة" القمة العربية، وليس هذه القمة بالتحديد. لا أظن أن المطلوب جماهيرياً، في مواجهة هذه العلاقة، عنترية من جانب أهل القمة أو تهوراً، ولكن المطلوب إشارة، ولو رقيقة، الى اميركا بأن القادة العرب لا يحبذون بعض أساليب الديبلوماسية الاميركية، وأنهم غير مستعدين للدخول في مواجهة مع شعوبهم العربية التي أعلنت بكل وضوح انها تحمل اميركا مسؤولية المجازر في فلسطين وتدهور فرص السلام الحقيقي في الشرق الأوسط. وأمام هذه القمة فرصة تعلن من خلالها وتؤكد نيتها الصادقة في الانعقاد الدوري المنتظم. إذ لم يعد خافياً أن غياب "القمة" عن ساحات العمل والقضايا العربية لسنوات يتسبب في تفاقم المشكلات. ولم يعد خافياً كذلك، أن الشارع العربي يريد رؤية قادته يتصرفون جماعة حتى إن اختلفوا. كانت المفاجأة الكبيرة وسط الانفجار أن كثيراً من الحكومات العربية اكتشفت ان قضايا من خارج حدود الدولة ما زالت تحرك الشعوب العربية. بينما يقول الواقع إن الشعوب العربية لم تتحرك، على امتداد سنوات، الا وكان الدافع قضية من خارج حدود الدولة. الانتفاضة جاءت بالقمة. ولذلك يصبح الواجب الأول للقمة حماية هذه الانتفاضة، بمعنى التأكيد على اهدافها والالتزام بتعديل مسارات التسوية بما يخدم السلام الحقيقي ووضع بنية جديدة للمفاوضات تعتمد على قوة العلاقة بين الشارع العربي المنفعل عن فهم وعقل والقيادة السياسية المتعاملة مع أميركا عن ثقة بالنفس ورفض الإذعان. الأمل كبير في كل انحاء العالم العربي ان يكون طموح القمة على مستوى طموح الانتفاضات الشعبية. الأمل كبير في أن تنتفض القمة، وتقود. * كاتب مصري.