يعتبر خليل السواحري واحداً من رواد القصة القصيرة الحديثة في الأردن وفلسطين، فهو بدأ بالكتابة في بداية الستينات، وتمكن برفقة بعض القصاصين الآخرين من الانتقال بالقصة القصيرة من مرحلة النقل الحرفي للواقع، وإشباع القصة بالتعليمية والهيمنة الأخلاقية، الى مرحلة القصة الفنية، بعيداً من كل ما سبق، ومحاولاً الدخول الى شبكة العلاقات الاجتماعية، وكشف تفصيلاتها، ونقدها... اعتمدت بدايات السواحري على ما يمكن تصنيفه بالقصة الريفية، ونحن ندرك بالطبع أن هذا التصنيف ليس فنياً، بمقدار ما هو نوع من التوصيف للموضوعات والهموم والقضايا التي كانت قصصه الأولى تتناولها. ولعل الانعطافة الفنية التي حدثت في مشروعه القصصي، قد اتكأت على هزيمة حزيران يونيو! ففي أعقاب تلك الهزيمة، أخذ خليل السواحري يواجه الواقع الجديد بالكتابة، حيث تناولت قصصه موضوع الاحتلال الصهيوني وتداعياته على الانسان الفلسطيني والعربي. وأصدر في هذا السياق مجموعاته الثلاث: "مقهى الباشورة" و"زائر المساء" و"تحولات سلمان التايه ومكابداته"، علاوة على مشاركته في المجموعة القصصية المشتركة مع كل من فخري قعوار وبدر عبدالحق تحت عنوان "ثلاثة أصوات"... تضم هذه المجموعة الجديدة خمس عشرة قصة، من بينها ثلاث قصص كتبت في الستينات، ولا نجد مبرراً لنشرها في هذه المجموعة المختلفة، التي كتبت قصصها في التسعينات وأوائل الألفية الجديدة، حيث تختلف القصص القديمة عن تلك الجديدة من حيث الموضوعات والبنية القصصية والرؤية العامة! وهذا ما يجعلنا نتجاهل تلك القصص ونوجه اهتمامنا الى القصص الجديدة. تشترك هذه القصص في تركيزها على رؤية الحياة من زاوية جديدة غير مألوفة عند الكاتب من قبل، ويمكن القول ان هذه القصص معنية بهواجس الانسان العادي بعد أن يقطع شوطاً طويلاً في الحياة... وأهم هذه الهواجس في القصص هو هاجس الموت الذي بالكاد تنجو منه قصة أو اثنتان... وحتى في هذه الحال، فإن الهواجس الأخرى قد تبدو معادلاً موضوعياً للموت ذاته... ويتخذ الموت هنا أشكالاً عدة، وله أسبابه ومبرراته. ولكن اللافت هو أن أشكال الموت هذه تتفق على القتل أولاً، وعلى بشاعة القتل ثانياً... ففي قصة "الساحة" نقف على هذا القتل الجماعي، وهو قتل لا يبدو مبرراً للوهلة الأولى، ولكن مسحة التجريد العالية في القصة تجعلنا ميالين الى التأويل... فالساحة هي الحياة نفسها، والقتل هو هذا الظلم الذي تمارسه القوة العمياء على البشر والناس البسطاء، بغض النظر عن تحديد هذه القوة التي تتحول في القصة الى قدر اغريقي! ولربما يمكن القول ان رعب الشخصية في هذه القصة من الموت، هو الذي صور الموت بهذه البشاعة، ومنحه ذلك البعد الجمعي... فنحن في القصص كلها أمام بطل واحد، بل ربما كنا أمام المؤلف نفسه، حيث هنالك ما يشي بالكثير من ملامح السيرة الذاتية في القصص، ومنها مثلاً تلك القصص التي يمكن تصنيفها في خانة أدب الرحلات، على رغم الحرص الواضح من جانب المؤلف على الابتعاد من تلك الخانة قدر الامكان، وهو ما تحقق حيناً ولم يتحقق حيناً آخر. واللافت أيضاً أن الموت يأتي غالباً من دون توقع أو انتظار، كما هي الحال في: "قاعة الدوريات" و"دفتر الهواتف" و"الوليمة"... ففي "الوليمة" ما يعزز وصفنا للقوة بالعماء المطلق، حيث لا يفرق القاتل هنا بين الصديق والعدو... بين القريب والبعيد... انه قتل مجرد ينتظر الانسان في أي لحظة وفي أي مكان... وفي "دفتر الهواتف"، يكتشف الرجل أن الأرقام المدونة لم يعد لوجودها أي مبرر بعدما مات أصحابها أو رحلوا الى حيث لا يعلم... هنا يحل الموت في روح الرجل... فتبدأ أنفاس الموت بالوصول، ويقترب خبط أجنحته من مسامع الرجل... ولهذا ربما شعرنا أن الموت هنا أشد وطأة على المرء! أما في قصة "قاعة الدوريات" فقد اكتشف الرجل أن هنالك رجلاً عجوزاً أخذ يتردد في الآونة الأخيرة على المكتبة، وأنه غير معني الا بصفحات الأموات في الصحف، ثم يأتي ذلك اليوم الذي يغيب فيه العجوز، ولا ضرورة هنا لكي يخبرنا المؤلف أنه مات! المهم هو ثقل الموت على الرجل الوحيد هنا، وما يرتبه عليه من شعور باقترابه وتربصه به... في قصة أخرى هي "المدينة"، يبدو فعل الموت الذي يقوم به الأموات أنفسهم ضد المدينة، وكأنه انتقام للمهددين بالموت من قوة القتل العمياء التي تتمثل في المدينة ذاتها... أي أن فعل الموت هنا لا يتعدى الحلم الذي يراود المقهورين والمشردين. في القصص التي لا يرد فيها الموت، نتلمس هاجس الوحدة والعزلة وعدم القدرة على مد الجسور بين الرجل ومن حوله، بغض النظر عن أمكنة القصص والوقائع، كما هي الحال في قصص: "سيدة أثينا" و"ذات صباح ذات مساء" و"الساكن الجديد" و"تلك الأمسية". ففي قصة "ذات صباح ذات مساء" يلتقي الرجل برجل عجوز أجنبي في أحد المساكن الكبرى في بلدة سويدية، وينتبه الرجل الى أن الأجنبي العجوز يقوم برحلتين قصيرتين كل يوم... صباحية ومسائية... وحين يراقبه يكتشف أنه يهبط الى المرآب في الأسفل ويأخذ في التطواف حول احدى السيارات... يتلمسها بحب وحنين ودفء... ثم يعود حزيناً متألماً... وحين يسأله أخيراً عما يحدث، يخبره الأجنبي أنه من البوسنة، وأن أسرته أبيدت في الحرب، وأن هذه السيارة هي كل ما تبقى له من ذلك الوطن المفقود! ولا نحتاج الى عناء كبير لندرك أن الرجل يرى نفسه في حكاية الرجل البوسني العجوز، لولا أننا نستغرب كيف تمكن العجوز من احضار سيارته من البوسنة الى السويد! وفي قصة "سيدة أثينا"، تتاح الفرصة للرجل لتواصل حميم مع امرأة غريبة عنه... امرأة من بلده تزوجت رجلاً أجنبياً مات بعد حين، وظلت هي مقيمة في البرازيل حيث قضت مع زوجها أجمل أيام العمر... يلتقيان في الطائرة الى أثينا، ويقضيان الليلة أو نصفها في المدينة، ويلمح الرجل رغبة المرأة في اكتمال العلاقة الطبيعية بين رجل وامرأة... لكنه وهو في هذا العمر المتأخر يتردد كثيراً، وتضيع الفرصة وتغادر المرأة في الصباح الى البرازيل... وفي تلك الأمسية يلتقي الرجل فتاة في سهرة أصدقاء، ويبدو له أن الأمور تسير على ما يرام، لكنه حين يذهب الى مكتبها في الصباح يلمح فارقاً كبيراً بينها وبين ذاتها منذ المساء الفائت حتى الصباح، ويقرر أن الفتاة لا بد من أنها تراجعت عن اندفاعها نحوه بعد أن فكرت في الفارق الزمني بين عمريهما... وهكذا نرى أن هذه القصص مشحونة بالقلق الوجودي المطلق... الخوف من الموت، والشعور الحاد بالعزلة وانعدام التواصل بينه وبين الآخرين... ويلجأ القاص في سبيل الامساك بهذه الرؤية الى أسلوب سردي أفقي، غير معني بشيء قدر عنايته بفكرته... وهذا لا يعني سوى بساطة السرد وسهولة التعبير، بلغة سردية مباشرة ومكثفة... ولكن هذا التركيز على فكرته، يخلخل القصة أحياناً فتبدو ناقصة أو مفتعلة، كما هي الحال في "يحدث صباحاً يحدث مساء"... فإذا كنا ندرك أن الرجل البوسني هارب من الحرب في بلاده، واذا غضضنا الطرف عن وجود سيارته في بلدة سويدية بعد كل تلك الحروب والنزوح الجماعي، فإننا لا ندرك مبرراً واحداً لوجود الرجل - البطل - في تلك البلدة! واذا كانت الفتاة صغيرة في تلك الأمسية، فهي لن تكون في حاجة الى ليلة كاملة لاكتشاف الفارق بين عمرها وعمر الرجل! واللافت هو أننا لو استثنينا القصص الكابوسية الثلاث وهي: "الساحة والمدينة والوليمة"، والقصتين اللتين تؤشران إلى الموت بحكائية فنية عالية، وهما: "دفتر الهواتف وقاعة الدوريات، لوجدنا أن بقية القصص تتميز بالتسرع والتبسيط، وبسردية نمطية، وبأفكار عامة كما يحدث في الطريق الى استوكهولم مثلاً، حيث يبدي الرجل حزنه على امرأة عراقية بسيطة تذهب الى هناك بحثاً عن ولدها! ثمة خلط واضح بين حكايات السفر والقصة القصيرة، وهو ما أدى الى كثير من الهفوات والخلخلة في بعض النصوص التي كان ينبغي للكاتب أن يعيد صوغ الواقعية الموضوعية فيها، لوضعها في نسق فني آخر... أي أن يراعي ذلك الفارق بين السمات التي تفرض على المتلقي وضع ما يراه في النسق الصحيح، من دون اللجوء الى أدوات التعاطف النمطية كالغربة والنفي والوطن وآثار الحرب وما شابه ذلك... أي من دون أن تكون هذه الأدوات هي الأعمدة الأساسية في النص، كما حدث في قصص عدة... ولكننا لا نملك الا أن نرحب بعودة واحد من رواد القصة الى ساحته الفنية، ونرحب بتلمسه هواجس المرء الحياتية في قصص أخرى، بدا أنها أكثر قرباً الى الصدق الفني من سواها!