شهد عقد التسعينات من القرن "الماضي" ظهور عدد متزايد من كاتبات القصة القصيرة في سورية وفي مقدمتهن كوليت بهنا ومية الرحبي ونعمت خالد وأنيسة عبود وهيفاء بيطار وسلوى الرفاعي ورباب هلال... وبينهن من أسرعن الى الرواية الرحبي - بيطار - خالد - عبود وكتبن الشعر أيضاً عبود. وقد أضيفت في العام الماضي الى هذه السلسلة وفاء خرما وروزا ياسين حسن وسمر جابر يزبك في مجموعاتهن الأولى "الأجنحة المتكسرة: س وع" دار الحقائق، دمشق 2000، "سماء ملوثة بالضوء" و"باقة خريف" دار الكنوز الأدبية 2000: كيف بدت هذه الإضافة نظراً الى التجربة القصصية لهذا الجيل؟ وفاء خرما تظهر الأنثى في ثلاث من قصص وفاء خرما في مؤسسة زوجية معطوبة. ففي القصة الأولى "الباب المغلق" يتخلى الزوج عن زوجته إبان بتر ثديها جراء السرطان. وفي القصة التي حملت المجموعة عنوانها يتوازى هجس الزوجة المريضة بالمفارقة بين الطبيب المثقف الذي يستميلها، والزوج الذي كان يخشى ارتقاءها ويعيق ثقافتها وينفلت خابطاً بذكورته حياتها. وفي قصة "المراقبة"، تتلصص الزوجة على جارتها، وتغبطها على ما ترى من عيشها الزوجي، وتكتشف أخيراً ما بين زوجها هي وهذه الجارة، وتنهض القصة باكتمال المفارقة، بينما تنكسر بالقصتين السابقتين الخاتمتان الشارحتان. في قصتين أخريين تظهر الأنثى أرملة وأماً تغالب العطب الأكبر في العيش، وتكون الثقافة وسيلتها في قصة "أين أمي"، حيث تعمل وترى أبناءها في رملتها المبكرة، وتقرأ الكتب الممنوعة وتحاور الرجال وتنتقد مساوئ العيش. وفجأة تختفي. وحين تعود تكون مدماة، فهي اعتقلت وعذبت. أما في قصة "في بيتنا حب" فيكون الحب وسيلة الأم الأرملة في مغالبة العيش، ويضمخ الوفاء للمرحوم هذا الحب، سواء من المرأة أم من العاشق الذي كان صديق زوجها، وسوى هذا البناء المتميز للشخصية القصصية، تظهر الأنثى - معلمة وكاتبة - بمجاينة في الحكاية الثانية "الجريدة" من قصة "ثلاث حكايات غير شخصية"، وفي قصة "لا تنشروا قصتي" تنضفر بلطافة اللعب القصص السابقة الباب المغلق - المراقبة - أين أمي حيث تتسبب للساردة كل قصة بكارثة، فتصاب بالسرطان بدلاً من بطلتها، وتتحقق الخيانة المتخيلة بين الزوج والجارة، ويكسر تعذيب الاعتقال جمجمة الرواية. ولذلك تطلب من الجريدة الا تنشر قصتها الجديدة خوف أن يصح فيها اكتشاف بطلتها أن من تحب لا يبادلها الحب. وتتمحور قصة "الرأس" أيضاً حول المعلمة الريفية التي "تكوبسها" برأس جمل قراءتها قصة "الخدعة" ليوسف ادريس، و"يكوبسها" برأس حصان غلاف مجموعة زكريا تامر "صهيل الجواد الأبيض"، فيبدو لها جارها في الحافلة، برأس حصان، ومثله سائق التاكسي وناظر المدرسة. وبعد أن تفضي بها "الكوبسة" الى المستشفى، يقرر الطبيب أن في عينة دمها حصاناً يسمع صهيله. كما سيقرر في قصة "تلك البصمات" أن في دماغ المريضة الأيسر أثراً لرفسة حيوان خرافي، تغطيها بصمات إنسانية. فجوّانية المرأة في هاتين القصتين قد أعطبها ذكَرُ التاريخ. وإذا أضفنا الى ما تقدم تمحور الحكايتين الأخريين من قصة "ثلاث حكايات غير شخصية"، حول المرأة، فستبقى أربع قصص متمحورة حول الرجل، إن تركنا جانباً القصص القصيرة جداً. وبخلاف صورته في المؤسسة الزوجية، يبدو الرجل في قصة "الجار" ذلك الفنان المثقف الذي ملأ جارته ثقة بكيانها. لكن مساوئ العيش الأكبر ستعطب حبهما، إذ يختفي ثم يظهر مدمّى محفوفاً برجال الزمن. وسيصيب الرجل في قصة "ابتلاع" كابوس الهوة الذي سيصيب الطبيب النفسي أيضاً، بينما يكون الأخرس في قصة "الغريب" ذلك المفجر لهواجس الأسرة. وفي هذه القصة يتمفصل السرد بهذه العبار "ما هجس به... ما هجست به" فينفتح على حكاية جديدة، وهو ما يماثله تمفصل السرد بهذه العبارة ما حدث بعد... في قصة "الرأس" أو بهذه العبارة "ما تحدثت به... ما تحدث به" في قصة "ابتلاع". ولا يبعد عن ذلك بناء قصة "المراقبة" على جلسة مراقبة، أو بناء قصة "أين أمي" في شطرها الخاص بمذكرات رجل الأمن. ولئن كانت وفاء خرما تستثمر التناص مع مقروء لزكريا تامر ويوسف ادريس في قصة "الرأس، أو تستثمر الترميز بذبح زوج الحمام في قصة "في بيتنا حب"، فالمجموعة تبدو، في ذلك وفي ما تقدم، ترجّع مفردات من تقنية القصة القصيرة الحداثية قبل عقود. ولئن كان هذا التراجع ينفلش في قصة "ثلاث حكايات غير شخصية" ويدعها سائبة، أو يفتقد مبرر الترميز الرياضي لشخصيات قصة "الأجنحة المتكسرة" وعنوانات القصص في قصة "لا تنشروا قصتي"، فقد صح في هذه المجموعة قول شوقي بغدادي بشيوع الصوت الأنثوي الداخلي في معظمها، أو قول وليد إخلاصي باقتصادها، اللغوي غالباً. روزا ياسين حسن تُصدِّر روزا ياسين حسن مجموعتها بعبارة تفيد أن الفلكيين سموا سماء المدينة بما عنونت به هي المجموعة "سماء ملوثة بالضوء"، لأن الأضواء كانت تمنعهم من رصد النجوم. ويبدو ذلك إشارة الى ما ستنطوي عليه المجموعة من قصّ العطب الذي يعيق الألق. وأول ما يعيق هو الاعتقال الذي يجعل الساردة توقّع لسردها في قصة "تحقيق" بهذه العبارة "كنا أنا وأنت فقط"، فيما تفترض ما تجيب به على تعذيب المحققين. ومن إيقاع الى إيقاع تنجلي الشابة والشاب في الحب الغرير: "خططنا كانت أن ننتزع هذه الدقائق الصغيرة من هذه الغرفة، من هذا الشارع، من هذه العيون المراقبة، من هذا الزمن النتن، وبدون أي كلمة ننسى اللغات، نتكلم بجسدينا فقط". أما في قصة "ساخن يا فستق" فتقدم الساردة - مستعينة بفعل التذكر - شخصيتي المخبر بائع الفستق والعجوز التي أورثها اعتقال ابنها جنوناً يفجره سماعها نداء البائع ملء الحارة كل ليلة. ومثل الاعتقال في جلجلته تبدو المعوقات الأخرى، مجلجلة أو هامسة: الطالبة التي تزقو للحبيب في وحدتها بحياة أو موت الجارين العجوزين، كعصفورين: قصة: صباح دون رائحة القهوة، والكاتب الشاب الذي يعود بعد غياب الى العاهرة الخمسينية التي ماتت قصة: في المرة القادمة، والذبابة التي تنتقل بين شفتي الموظفة وشفتي جارها في الحافلة قصة: قبلة، والوحشة التي تلفع الشابة بالوحدة ليلة العيد قصة: رغبة والكبت الذي يصيب بهلع اللذة فتى إبان بلوغه، سواء في تلصصه مع قرينيه على الصور العارية، أو في ما فعلت به الجارة قصة: مكاشفة أو الجنس الذي يتحدد كغرض لصديق تشكو له الساردة الطالبة غدر صديقه بها قصة: عتمة... ويشغل أيضاً هذا العطب الروحي في الوحدة والوحشة والعشق والجنس والصداقة والخيبة قصص: فقدان ذاكرة، تقمص، جسد مخملي أحمر، أوراق أيلول، وجهان لورقة واحدة، صورة 2 والتي يفعل فيها، كما في ما تقدم العطب العميم الذي يتحدد بالفقر، ويستأثر بقصص: صورة 1، على دلعونا، جسد مخملي أحمر. عبر ذلك تلفع معظم القصص قارئها بحساسية خاصة، عنوانها الكبير هو: شباب الأنوثة، مما أسبغ على الكتابة نزقاً أو جرأة أو بساطة أو غرارة. ولئن كانت الكاتبة افتتحت مجموعتها وختمتها بذكريين من الطفولة في قصتي "صورة 1" و"صورة 2" فقد بدا فعل التذكر حاسماً في بناء معظم القصص، حيث تتردد مفردات هذا الفعل على لسان الساردة أو الشخصية القصصية، وتتميز بخاصة ذاكرة العشق، كما يتميز سعي الكاتبة الى استثمار ذلك في توطيد الحلف السردي مع القارئ، وهو ما يمضي الى مخاطبته مباشرة في قصتي "صورة 1" و"تقمص". بيد أن ذلك وسواه لم يخف تداعي البناء في أكثر من قصة تقمص - على دلعونا - صورة 1- جسد مخملي أحمر. سمر جابر يزبك هنا أيضاً تظهر الأنثى في ثلاث قصص، في مؤسسة زوجية معطوبة. ففي قصة "خديعة" تستعيد الساردة الخمسينية فصامها منذ الطفولة، منذ تعودت أن تخفي ذاتها الأخرى متمردة على ما يصوغ به الخارج الذكري الذات الأولى. وفي الزواج قررت الأولى قتل الأخرى، لكنها تعودت أن تطلقها في غياب الزوج. وبمثل هذا اللعب البديع والقاتل نرى الأخرى المتمردة أيضاً تخبّئ الأولى - الزوجة الخانعة. وبفعل الفصام تتضاعف غربة هذه، حتى يستولي الكابوس عليها، فترى مخلوقاً يخرج من زوجها، حتى يعمّ الفصام. وفي قصة "حب" يتلبس الحبيب الذي صار زوجاً، جسد المرأة التي تنوء به، فتقرر إخراجه منها. ولتداخله بها تقطّع جسدها، حتى لا يبقى منها سوى عينين معلقتين في الفضاء، ترقبان ظل رجل ينسلّ. وفي قصة "صديقتان" يجمع موت الزوج زوجته مع صديقة عمرها التي هي أيضاً حبيبة عاشت مع المرحوم حباً مكتوماً عشرين سنة، وهي تتساءل عن الخيانة والصدق والقيم الأخلاقية التي قد لا تكون غير "وهم اخترعه الآخرون لخنقنا". وبدعوة الزوجة لصديقتها ابقي معنا من الآن فصاعداً. كلانا وحيدتان ينكشف علم الزوجة بذلك الحب وصمتها - صبرها عليه. خارج المؤسسة العتيدة يأتي العطب أيضاً على الحب. ففي قصة "رحيل" نشهد الجلسة الأخيرة بين العاشقين: هو يبتر ما جمعهما، لأن الحب لا يعني الامتلاك، وهي التي علمها كيف تتقن "صناعة الأنوثة في عصر الاستهلاك"، والموسومة بالحزن وبوصايا أمها وأبيها، تدافع عما "هو حقيقي في داخليتي... وتلك هي حريتي..."، فالأمر ليس ضعفاً أو عدم كبرياء، كما تفند اعتراض صديقتها على تعلقها بمن يرفضها. وتطلق المرفوضة السؤال النادر: كيف تطالب المرأة بحريتها، والرجال مدى الدهور يتغنون بحب نساء لا يبادلنهم الحب، ويكون ذلك طبيعياً، بينما غير الطبيعي أن تحب المرأة رجلاً لا يحبها؟ في قصة تالية هي "شرف" يبدو العطب قدراً مجلبباً بالميلودرامية، فالعاشقان الشابان ينتحران على سكة القطار، ووالد الفتاة يضحك في العزاء لأن الطبيب أعلن عذرية الميتة. وفي قصة "سفر" يأتي العطب في هيئته الاجتماعية التليدة، وإذ يحبس الأب ابنته عشر سنين في قن الدجاج، مشيعاً سفرها وموتها، قبل أن يكشفها صياد، فيتلقفها الحبيب الذي مقت النساء بسبب اختفائها، ويتزوجها ويحاول أن يعيد تأهيلها، فيخفق. الى ما تقدم تتمحور حول الأنثى أيضاً قصّتا "صباحات ثلاثة" و"الأسود الفضفاض"، فتنتحر العاشقة أيضاً في الأولى، ملبية نداء البحر. وتجبه المعلمة في الثانية عجوزاً شحادة بالفقر الذي يسوغ التضحية بطفل من أجل البقية. أما القصص الأخرى فتتمحور حول الرجل، ويجهر فيها العطب أقوى مما في القصص السابقة. فالصبي اليتيم في قصة "جوع" ينقب في الحاوية ليطعم إخوته. ومن اصطدامه بجثة طفل مشوه الى امرأة مذبوحة يرتمي عند قبر أبيه الذي يخاطبه "ارم روحك قربي". ولعل الأولى كان أن تنتهي القصة هنا، لكن الكاتبة تجعل من الطفل - فجأة رجلاً يبتلع الجثث ويضاجع المذبوحات ويشغل صبياناً فيما كان يشتغل، ويتفاقم جوعه حتى يبلع أمه وإخوته وينفرد على الكون. وتستعيد الكاتبة لعبة الكوبسة والتحول هذه في قصة "سؤال" حيث يتحول الراوي الى جدار فنهر فامرأة. ولأنها مسألة متعبة "أن تكون امرأة" يتحول الى رجل ذي سلطان، ولأن داخله لا يرتوي يخرج الى الشارع ويمشي على أربع هاتفاً "يا لحرية الانحناء" ثم يفترس ما أمامه. على الوجه الآخر لعملة اليأس هذه ينشد المنتحر في قصة "وحدة" في قبره الدخول في العدم، حتى إذا غادرته الدودة الأخيرة صرخ بها راجياً ألا تتركه وحيداً من يذكر رواية مروان طه المدور: جنون البقر؟ وفي قصة "ليلة باردة" تفترس التماثيل نحّاتها الذي يدمدم: "أنام... أستيقظ... آكل... أتغوط... أقرأ... ثم ماذا؟" فلا شيء يستحق العناء في عالم يمضي الى الدمار. ضمّنت الكاتبة مجموعتها أيضاً عدداً من القصص القصيرة جداً، والتي أدعها جانباً كما كان مع مجموعة وفاء خرما، على الأقل بسبب الالتباس مع الخاطرة، وأساساً بسبب مجانية "التجنيس"، وهو ما يحف بمعظم ما تسنى لي أن أقرأه. وتميزت مجموعة سمر جابر يزبك، خارج ذلك حيناً في مضاهاة لغة سالفة في القصة القصيرة الحداثية المجاز والفخامة من أصداء لغة حيدر حيدر في قصة: رحيل وغالباً في نسج لغتها الخاصة، حتى وهي تكرر السعي الى توطيد الحلف السردي مع القارئ قصة بقاء، قصة حب. *** بهذه العين الجارحة نظرت الكاتبات الثلاث الى عيش المرأة بخاصة، والى عيش الآخر، الذكر والمجتمع، بعامة، لتعبر حيناً عن حساسية أنثوية خاصة، ولترجّع حيناً ما أنجزت القصة الحداثية، فلا يبدو من اجتراح أو اقتراح خاص ذي شأن يتميز عن الأخريات من جيل التسعينات، حيث لا يبدو أيضاً من اجتراح أو اقتراح خاص وذي شأن يتميز عن القصة القصيرة التي كتبها المجايلون أو السابقون والسابقات، من دون أن ينفي ذلك، سواء بالنسبة لوفاء خرما وروزا ياسين حسن وسمر جابر يزبك أو سواهن، الالتماعات التي تترجّح بين قصة وأخرى. * كاتب سوري.