قصص سمير اليوسف هي قصص أشخاص إذ غالباً ما يجد القارئ أشخاصاً أو أسماء أشخاص في بداية كل قصة من مجموعته "عشية الصمت" المؤسسة العربية، 2004. والأشخاص، في معظم هذه القصص، هم مقاتلون شبان في منظمات أو ميليشيا، أما الكادر الزمني والسردي الذي تتحرك فيه القصص فهو زمن الحرب. الزمن ليس محدداً بدقة ولكن إشارات عدة مبعثرة هنا وهناك تشي بمدن ومناطق في جنوبلبنان، في صيدا وجوارها على الأرجح. انها قصص مقاتلين، ولكنهم مقاتلون تُروى حياتهم من زاوية سرد منحرفة. انهم، غالباً، خارج المشهد التقليدي للحرب، الحرب بعيدة كصورة ضاغطة، أمزجتهم وهواجسهم وخيالاتهم هي التي تطفو على سطح القصص. انهم مقاتلون ولكن في فترات ضجرهم، انهم لا يقاتلون تقريباً وليس هناك معارك ولكنهم يتجولون بأسلحتهم الفردية محاولين تصريف شؤونهم كيفما اتفق والحفاظ على المنطق في رؤية ما يجري. تبدأ القصص، كما قلنا، بأشخاص أو بأسمائهم، فقصة "عشية الصمت" أطول قصص المجموعة يبدأها الراوي هكذا: "لم أعرف على وجه اليقين ما الذي عناه أحمد حين قال بأن كل شيء انتهى الآن". وهذا ينطبق على قصة "بقية الليل" التي تبدأ ب"حينما استفاق ابراهيم كانت الغرفة غارقة في ظلام دامس"، وينطبق، أيضاً، على قصة "حيطان مغسولة بالمطر" حين تبدأ ب"ترجّلنا من اللاند روفر بمحاذاة سياج أرض موحلة وقال إياد ان العربية لن تشتغل ثانية إلا إذا دفعناها بأيدينا أولاً". والأمر نفسه يحدث في قصص "رجل يلعق الاسفلت" و"الاشتباك" و"الزيارة" وغيرها. الأرجح ان هذه البدايات جزء من استراتيجية يتبعها سمير اليوسف في كتابته، حيث تخلّصه هذه الطريقة في الشروع بسرد القصة من الوقوع في أي صياغة تقليدية معروفة، وتخلّصه، كذلك، من التمهيد الذي يسبق الحدث أو جسم القصة الفعلي. قصص سمير اليوسف، بهذا المعنى، تبدأ من نفسها، تبدأ من ابطالها ومن أحداثها، انها ليست وصفاً وليست تعليقاً وليست تلخيصاً. انها القصص نفسها، أجسام القصص وجلدها الحقيقي. قصص تنشأ من الكتابة وتصحبها بحيث لا تكون الكتابة انجازاً لقصة سبق لها أن حدثت، ولا تكون القصة بنفسها الحامل الوحيد لمنطق كتابتها. الكتابة، بهذه الطريقة، لا تنقل الحدث أو ترويه فقط، بل تكتبه. الكتابة هي جزء من مزاج القصة وتأثيرها المحتمل في القارئ. لا تتلكأ القصص كثيراً، انها تبدأ فوراً، بل انها أحياناً تبدأ وكأنها تتواصل وتستمر من مكان غامض يسبق بدايتها الموجودة، وغالباً ما تكون العبارة الأولى معطوفة على حدث أو مشهد أو حوار سابق، وهكذا، إضافة الى تفاصيل وتكوينات أخرى عدة، ما يُبعد قصص الكتاب عن هويات سردية وحكائية سائدة ومحددة، ويمنحها، في الوقت نفسه، نكهة تأليفية وتخييلية محببة وخاصة. ولكن القصص التي تبدأ بسرعة لا تتقدم بالسرعة نفسها بعد ذلك. سمير اليوسف يورِّط القارئ بسرعة ويُدخله، من دون مقدمات مدبجة ووصفية، الى عوالم قصصه ولكنه يترك للأسلوب أو النبرة أو الايقاع أن يقوده لاحقاً. الأرجح ان الكتابة وحدها، أو، بالأحرى، النبرة الشخصية لهذه الكتابة هي بطلة قصص سمير اليوسف، هذه الكتابة التي تلمع في أكثر من موضع وأكثر من وصف وأكثر من تفصيل، كتابة حية لكثرة ما هي ممحوة مقتضبة ومقتصدة، وسيالة وفاتنة لكثرة ما هي طيعة وشغوفة. شيطان السرد موجود في تفاصيل قصص الكتاب وليس، فقط، في أحداثها وزاوية تناولها ومعالجتها. هناك في كل قصة، حتى في القصيرة جداً منها، تجربة كتابة جديرة بالمديح والافتتان. وربما كانت الصورة التي ترسمها وتمحوها في الوقت نفسه للشخصيات تأتي في صدارة هذه التجربة، كما هو الحال، مثلاً، في السِّيَر الناقصة والمجتزأة لشبان يتجولون في الكادر المقلوب للحرب. وتكاد قصة "عشية الصمت" التي حمل الكتاب عنوانها وهي أطول قصص الكتاب أن تكون مثالاً متكاملاً لمنطق كتابة يشكل البحث عن نبرة ذاتية وخاصة في السرد عصبها. اللغة، هنا، جلد وبيان ووسواس وخيال وابتكار شخصي. سمير اليوسف لا يقص قصصاً، انه يكتبها، ولذلك فإن هذه الكتابة ليست وسيلة تعبير، انها التعبير نفسه. السرد هنا قائم على تأمل ذاته والالتفات الى داخله ونواته، أما الالتزام بإبلاغ القارئ برسالة ما فهو ليس هم هذا السرد وليس من أولي أولويات لغته. أبطال القصة، وهم اثنان إضافة الى الراوي - المشارك، في طريقهم لدخول "بلدة في الضواحي كانت سقطت لتوّها" ويجدونها خالية بعد الاشتباكات التي دارت فيها، يفترق الراوي عن رفيقيه، أحمد وخالد، ويدخل واحداً من البيوت التي تصوّر "أن اصحابها قد اندفعوا هاربين من دون أن تؤاتيهم الفرصة لكي يوصدوا الأبواب خلفهم". ولكنه، هناك، يعاين أثر الحرب والموت على جثث أفراد العائلة، المرمية والمبعثرة في أنحاء متفرقة من المنزل، والتي لم يمض على قتلهم وقت طويل: "زجاج النافذة المحطم والدرفتان الخشبيتان الملطختان بالدم، بدا وكأن أحداً ما قد حاول الفرار قافزاً من النافذة... ودنوت ببطء ورأيت أربع أو خمس جثث "وفي غرفة الجلوس" كان هناك رجل جالس على الأريكة فيما مال رأسه على كتفه الأيسر ولولا قميصه الملطخ بالدماء لظننت انه نائم بسلام. كانت هناك أيضاً جثة عجوز وجثتا فتاتين صغيرتين..."، ومع ذلك يستلقي الراوي على سجادة وثيرة ويغلبه النوم! وبعد أن يخرج ليلتحق برفيقيه يجدهما في منزل آخر يتسليان بإرعاب امرأة وقتل قططها الكثيرة، وحين يحاول أحدهما اغتصابها يفكر: "رحت أقول لنفسي بأنني يجب أن أغادر الغرفة على الفور، بيد أنني عوضاً عن فعل ذلك التقطت الكلاشنيكوف الملقى على الصوفا واطلقت النار فوق رأسه". والبطل بعد مغادرة رفيقيه يقول: "فكرت في أنه يمكنني البقاء في هذه البلدة، لن أحتاج الى التكلم مع أحد. نعم سأبقى في هذا البيت وأعتني بما تبقى من القطط، سأمكث هنا مع القطط الى أن تنتهي الحرب...". الواقع ان هذا المقطع الذي تنتهي به القصة يكاد، وحده، يكشف فن سمير اليوسف الشخصي في كتابة قصة على هذا القدر من العبث والاسترسال والثرثرة النفسية الداخلية، ما يمنح نصه خيطاً مؤثراً، وغير مرئي، من نكهة الأسى والندم على زمن كان المصير فيه مربوطاً بأوهى الخيوط. مصير أفراد كانوا متطوعين أو مجبرين على الانضمام الى ميليشيات عسكرية وثورية، يوجدون في حرب أكبر من حضورهم وأوسع من خيالاتهم وأقذر من نزقهم ولهوهم. انهم هائمون على طرف الحرب وحافاتها، مصائرهم غير واضحة وكذلك منابتهم. وغالباً ما يكونون مجرد أسماء، إنهم يدخلون بلدة فرغت من أهلها وقتل الباقون أو يعودون الى المدينة التي نزحوا عنها هرباً من الاجتياح الاسرائيلي كما في قصة "الدار" المهداة الى شارل شهوان الذي يكشف سمير اليوسف عن علاقات قربى لمناخات قصصه مع قصص "حرب شوارع" التي تتحرك سردياً وزمنياً في الحرب نفسها ولكن من الجانب الآخر، أو يدخلون الى بيت خالٍ عنوة كي يحتلوه ويقيموا فيه كما في قصة "حيطان مغسولة بالمطر" أو يجبرون رجلاً على لعق الإسفلت لمجرد أنهم مسلحون كما في قصة "رجل يلعق الاسفلت" أو يجلسون على أكياس الرمل مدلين أقدامهم الى الخندق الضيق في الأوقات التي لا يكون فيها اشتباكات كما في قصة "الاشتباك". انهم رجال بفيلدات معاطف عسكرية وبناطيل مدنية، انهم، دائماً، موجودون بفضل لغة مسننة، غير رخوة وغير متبطلة، ولكنها، في الوقت نفسه، حيادية وباردة وغير عاطفية. والأرجح ان هذه الصفات من شأنها أن تخلخل هوية هذه اللغة وتقلق بنيتها، كأن هذه اللغة فيها مزاج أجنبي، لا أعرف مدى تأثير القراءات الشخصية لسمير اليوسف في نصه القصصي، ولكن استثماراً ما لهذه القراءات يتراءى في طريقة تأليف الجملة وفي نبرتها وفي ايقاع القصة بمجملها، ولعل ما يساهم في إشاعة هذا الاحساس انعدام الإلحاح على البلاغة التقليدية والوصف التقليدي باستثناء بعض الكلمات التي استخدمت لتمتين بعض العبارات ولكنها، في رأيي، ساهمت أكثر في جعلها تبدو ركيكة كما هو الحال مع كلمات مثل: جعل، طفق، أيما...، إضافة، طبعاً، الى انطواء هذه اللغة على نفسها وداخلية التجربة المكتوبة ببرودة وجفاف يخفيان السخونة ورطوبة في الأعماق، حيث يمكن الادعاء بأن معظم قصص الكتاب ما هي إلا نتف من سيرة حقيقية أو متخيلة، وقد عرف سمير اليوسف كيف يرويها بأقل قدر ممكن من السيولة العاطفية والبلاغية والسردية.