يكتب سليم البيك قصصه بعبث، أو هو يلعب مع الواقع بروح فيها الكثير من مغامرة الفن ومغامرة الشباب على حد سواء. سليم البيك في مجموعته القصصية الجديدة «كرز» أو «فاكهة حمراء للتشيزكيك» (منشورات الأهلية – عمان الأردن – 2012 ) يختار منذ البداية أن يكتب قصة «لقطة»، أعني بالذات أنه يختار لقصته أن تتحرك في فضاء مشهد واحد، مكثف ولافت. لعله بهذا المعنى يعيدنا إلى المفهوم الأصل والأساس للقصة القصيرة الذي يؤكد أنها سردية الموقف الواحد، المفهوم الذي تتنكبُ عنه غالبية قصص الكتاب هذه الأيام. مع ذلك، بل بسبب كيفيات كتابته بالذات نرى أن تلك العودة لا تأتي عند البيك تقليدية، هي إلى حد بعيد عودة مراوغة، ماكرة، تماماً كما هو فن القصة القصيرة الحقيقي والذي «يترفع» عن مجرد السرد منحازاً لرغبة الفن في إعلاء صورة المشهد. قصص سليم البيك في «كرز» (جائزة مؤسسة القطان للمبدعين الفلسطينيين الشباب) تعيش الراهن بصوره الأشد حداثة: قصص تتجول في عوالم شاب (يشبه شباباً كثراً) ينغمس في الحياة العصرية وأدوات الاتصال الحديثة، ويحمل في يومياته كثيراً من عاداتها وتقاليدها. القصة هنا تحكي – غالباً – حالات أقرب إلى العبث لمصادفات العلاقات العابرة مع نساء يتشابهن في كونهن أيضاً ينتمين تماماً الى العوالم ذاتها: قصص تنفتح على مشهد واحد ترفده الجزئيات والتفاصيل الصغيرة بما يجعله دوماً مشهداً مشحوناً بالغ التوتر والتشويق. في الجانب الأهم والأجمل من قصص سليم البيك «كرز» ننتبه إلى حيوية الكتابة التي تنطلق من زج شخصية القصة الرئيسة مباشرة في الحدث السردي، أو كما أشرنا سابقاً في المشهد، أي ترك تلك الشخصية توضح ملامحها وعالمها من خلال الحدث ذاته ومن خلال ردود أفعالها عليه. القصة هنا تبدو شغوفة بالجزئي الذي وإن حمل غرابة ما، إلا أنه يمنحنا متعة الإصغاء للصورة: سأقول إن «كرز» بقصصها كلّها تحتفل بالحياة أولاً وقبل أي شيء آخر، وهي لهذا تختار لها سياقات بالغة الأناقة. أتحدث هنا بالذات عن الجملة السردية الرشيقة، الخالية من أية زوائد أو ثرثرات، بل التي تبتعد بقصدية عن الوصف. فالأهم عند سليم البيك هو المشهد، أعني أنه يجتهد ما استطاع ليرسم، وليأتي الرسم مزدحماً برموزه وإشاراته وبحيويته أيضاً. تغريني قصص المجموعة بالابتعاد عن محاولة الحديث عن هذه القصة أو تلك للدلالة على ذلك. فقصص «كرز» تحمل جميعها الروح ذاتها، وتنتمي الى المناخات ذاتها. لعل بعضاً من أسباب ذلك يرجع في تقديري الى المكان الذي وإن اختلف بين قصة وأخرى، إلا أنه يظلُ غالباً مكان اللقاءات السريعة بل العابرة لرجل وامرأة يلتقيان «على عجل» من أجل الحب، ويفترقان على عجل بسبب الحب أيضاً. حين أكملت قراءة قصص هذه المجموعة توقفت طويلاً عند فكرة مفارقتها لتاريخ القصة الفلسطينية القصيرة منذ سميرة عزام وغسان كنفاني، مروراً بنماذجها الأجمل محمود الريماوي وبعض قصص يحيى يخلف، وهو تاريخ يؤكد في غالبه الحدث السياسي... وباستثناء الراحل جبرا إبراهيم جبرا في مجموعته القصصية «اليتيمة» والمدهشة «عرق»، لم أعثر على تجريب فني لافت أقدم على مغامرته كاتب قصصي فلسطيني، ما جعل القصص الفلسطينية أقرب الى المحافظة منها الى التجديد والمغامرة، وإن كنت أتذكر استثناء وحيداً بالغ الجمالية حققه رسمي أبو علي في مجموعته القصصية الشهيرة «قط مقصوص الشاربين إسمه ريّس». هنا في «كرز» بعض هذا، فسليم البيك يغض الطرف عن تلك السياقات القصصية، ويمضي نحو قصة مشاكسة... قصة إذ تختار عوالم جديدة إنما تختار معها بنائياتها المغايرة والمختلفة بالتأكيد. سليم البيك في «كرز» كاتب دخل مجموعته القصصية الثانية بروح المغامرة، ولكن بالاستناد الى موهبة لافتة وقراءات غزيرة تجعل قصص مجموعته قريبة من الروح وتستحق التحية.