يدشن الكاتب المصري أحمد الخميسي مشروعه القصصي بلا صخب، بحيث تتواتر نصوصه «قطعة ليل»، «كناري» ورأس الديك الأحمر» وغيرها وصولاً إلى مجموعته القصصية الجديدة «أنا وأنتِ» (دار كيان). وفي هذه المجموعة تشيع العذابات الإنسانية المستقاة من واقع الناس وحيواتهم، فالكتابة هنا بنت الضرورة الحياتية المعيشة، والنص يجدل بين الواقعي والرومنطيقي، وإحساسات الفقد والغياب والبحث عن الونس والألفة محددات أساسية لعالم قصصي يرصده الكاتب، يتجلى عبر خمس عشرة قصة تشكل فضاء النص. بدءاً من الموت الذي يختطف الأحبة، فيحيل الحياة إلى محض ذكرى، ووصولاً إلى تلك العوالم المنسية بتفاصيلها الصغيرة، واختلاس البهجات العابرة، تنطلق قصة «أنا وأنتِ»، بجملتها المركزية المتواترة في المتن السردي «أنا وأنت»، لتشكل الفضاء النفسي للنص، فالسارد/ البطل يوجه خطابه السردي إلى مروي له محدد/ متخيل (امرأة هي نصفه الآخر)، ما يجعله في نهاية القصة لا يعرف حقاً من فيهما قد مات: «فقط لو تقولين لي من منا الذي مات ولم يعد يرى الآخر»، ويوظف الكاتب هنا ضمير المخاطب في السرد، فيمنحه قدرة أكبر على مساءلة العالم، والتعبير الجمالي عن مساحات إنسانية ونفسية مقموعة داخل الروح. يرصد القاص أحمد الخميسي في «روح الضباب» عالماً يهيمن عليه ذلك المنطق المعكوس، حيث الحروب والمجاعات والأوبئة، والقتل والنفي والتشريد، ويصبح «الضباب» إطاراً خارجياً للحكاية القصصية، وتزداد الروح صقيعاً، وليس في المكان القصصي سوى رجل وامرأة يلتقيان بلا اتفاق في مصعد ضيق في إحدى البنايات الأسمنتية الضخمة، فثمة طبيبة نساء وولادة اسمها «هدى» يفترسها الهلع، تتعجب من حرص البشر على الإنجاب ومن ثم قدوم الأطفال لهذا العالم المستشري بؤسه من المستشفى الذي تعمل به إلى الفضاء العام، وثمة مراسل صحافي (حاتم) امتهن الحديث عن الآلام التي تعصف بالعالم، إلى حد أن صار منفصلاً عنها ومتصلاً بها في آن، في مدينة غيَّبها الضباب، والعواصف تخرق الآذان، وما بين جدل الحكاية الأم، والحكايات الفرعية المتكئة على تضفير السرد بالوقائع المختلفة، يتحرك النص، ومن ثم تأتي الإشارة الدالة إلى الحكاية الواقعية الخاصة بالمصور الصحافي كيفن كارتر الذي انتحر في الثالثة والثلاثين من عمره، بعد نحو ثلاثة أشهر من التقاطه صورة لطفلة في الرابعة من عمرها أثناء مجاعة عام 1993 في السودان، ثم حاز بعدها جائزة بوليتزر الشهيرة: «كانت تزحف ببطء شديد على الأرض هزيلة جائعة إلى مركز لتوزيع الطعام واللبن. سمع كارتر أنينها وهي تزحف وغير بعيد عنها نسر كبير يترقب موتها. ظل يتابع المشهد عشرين دقيقة من دون أن يتدخل. أخيراً طرد النسر والتقط الصورة. بعد عام فاز بأرفع جائزة في التصوير الصحافي عن الصورة». ص 22 يعود الكاتب إلى متن حكايته الرئيسية، حيث يلعب الحوار القصصي بين هدى وحاتم دوراً مركزياً في التقارب النفسي والروحي بينهما، وتوحدهما المأساة ، فيتلاقيان عاطفياً في نهاية القصة، ويقرران الخروج من المصعد ومواجهة العالم. ومن الصقيع الذي يسكن الروح إلى العتامة اللانهائية تنحو قصة «ليلة بلا قمر»، فالمشانق المعلقة تحوي تسعة عشر من الجثامين، بينما أتابك العسكر قد سلم الشخوص الثلاثة المركزيين في النص (العجوز/ القصير/ النحيف) عشرين جثة، فثمة جثة قد ضاعت، وليس من بد أمام الرجال الثلاثة للبقاء أحياء سوى قنص أول عابر طريق، حتى لو كان صبياً في السادسة عشرة من عمره. ليس هذا كل شيء في قصة الخميسي وهو كل شيء في آن، هو متن الحكاية ومفتاح تأويلاتها المتعددة. فالتعميم الذي يصاحب توصيف الشخوص «العجوز/ القصير/النحيف/ أتابك العسكر»، إنما يسعى صوب مساءلة القمع أينما حل وحيثما كان، كما بدا الاستهلال السردي للقصة مسكوناً بزمانية ما، تحيل إلى عالم قديم، غير أن بنية الاستبداد التي يدينها الكاتب تبدو عابرة لهذه الزمانية ولأية مكانية أيضاً، وبما يتسق مع التعميم المشار إليه. أما اللافت حقاً فيتمثل في محاولة تبرير القمع، والتسويغ المستمر للقتل عبر التوظيف اللانهائي للمقدس: «رفعوه إلى أعلى. تأرجحت الأنشوطة أمامه في الهواء. تهدم وعيه مثل حجارة بيت تساقط. قيَّد القصير يديه من الخلف بحبل غليظ قائلاً: «لو أنك مؤمن حقاً لألهمك إيمانك أن تتخذ طريقاً آخر» ص29. ثم تأتي النهاية مفتوحة على إمكانات قرائية مختلفة، فجثة الصبي أقصر من الجثامين الأخرى، ما يفتح شهية الثلاثة لقتل جديد، تبريراته جاهزة دوماً. يبدو الاستهلال السردي مراوغاً في «النور»، حيث يبدأ الكاتب بالواقعي ثم يلجأ إلى الأسطوري، فمن قصة المصباح الكهربائي الواقعية التي لم يأت على ذكرها السرد إلا على سبيل الإحالة إلى أسطرة المصباح ذاته، في نص مولع بالتخييل أكثر من أي شيء آخر. عن عوالم خبرها الكاتب جيداً، أمكنة مختلفة وفضاءات جديدة ينطلق أحمد الخميسي في قصته «بالميرو»، موظفاً تكنيك المفاجأة لا عبر المصادفات المفتعلة، ولا السرود المثقلة بالمبالغة، فثمة صحافي مصري يحضر مؤتمراً في داغستان، غير أن الكرنفالية التي تصحب تكريم أحد شعراء القوقاز الكبار ترهقه، فيخرج ليشرب فنجاناً من القهوة، ويرسل المادة الصحافية التي كتبها عبر الإنترنت، فيعثر على كافيه إنترنت «بالميرو»، غير أنه يخطئ في مدخل الكافيه، وبعد عدد من الممارسات الإنسانية المحضة يكتشف أنه في بيت قوقازي ليس أكثر. تتكئ هذه القصة شأن قصص أخرى في المجموعة على تقنية المفارقة الساخرة. في النص أيضاً توظيف للغات المختلفة للشخوص، وتنويع في الصيغ السردية المستخدمة ما بين السرد التقريري الذي يبدو في العبارات التي يرسلها الصحافي إلى جريدته، والسرد التحليلي الكاشف لذلك الجوهر الثري للشخوص. لم يكن الوجه المثقل بالإحباط والعجز والخيبة سوى وجه السارد/ البطل في قصة «وجه»، ولم تكن المرأة التي يقابلها السارد/ البطل بعد عشر سنين في قصة «آليونا» سوى الفتاة الصغيرة «آليونا» التلميذة الغضة ابنة الخامسة عشرة، بعد أن طاول التغيير كل شيء، الجسد والروح معاً، ولم تبق سوى بعض الذكريات. في «خطوبة» نصبح أمام نص ثري تقنياً وإنسانياً قائم على آلية الاستباق منذ الاستهلال، قفزا إلى اللحظة الراهنة، وفي «الصبي الذي يأكل الماء» نصبح أمام حكاية الطفل الذي سرق خمسة أرغفة وحكم عليه لمدة عام، وتحدث الموازاة بين المتخيل والواقعي، في نص يعتمد على التناص مع تقارير صحافية وتضفيرها في بنية السرد القصصي. تعد قصة «بيت جدي» بمثابة النص المركزي في المجموعة، حيث تشغل نحو خمسين صفحة من المتن السردي، هنا يلوح النضال، وبورسعيد، والثورة، والأحلام الكبار، والأماني المستحيلة، ويحضر شخوص متنوعون: عبدالجواد/ حسين/ محمود، والجد مدرس الابتدائي الذي تصفه الجدة بأنه «أستاذ في المريسة»، وتتحرك القصة المحكية بعين طفل شاهد كل شيء، فيحكي لنا الحدث القصصي من زاويته، وتصبح عينه بمثابة عدسة كاميرا تنقل لنا ما دار. وبعد... تعد مجموعة «أنا وأنتِ» واحدة من التماعات القصة المصرية الراهنة، تبرز أهميتها في نهلها من نبع إنساني صاف، فضلاً عن تنوع السرود، والعوالم المحكي عنها، ووعي صاحبها بإرث القصة المتراكم، وقدرته على الدفع به إلى أفق ثري متعدد الطبقات.