1 صباح 7 ابريل نيسان 2004 وصلتُ الى الدوحة، قادماً من الدار البيضاء. أثناءَ انتقالي من المطار الى الفندق، ناولني سائقُ سيارة الأجرة صحيفة "الرّاية". على الصفحة الأولى أخبارُ المآسي، في العراق وفلسطين. أخبارٌ مماثلةٌ عن السعودية واسبانيا. إشارةٌ الى الجدل حول تأجيل عقد القمة العربية. شذراتٌ من أخبار العالم. الصفحة الأولى دليل القارئ. وفي أسفل الصفحة ذاتها إعلانٌ عن صدور العدد 68 من "كتاب في جريدة" ضمن العدد ذاته من الصحيفة. هذا جميلٌ. قلت في نفسي. مع هذه المآسي، الى جانبها، ثمة نقطةٌ يمكن أن تجمع شمل من لا يجتمعون. العرب. عن طريق الأدب. والأدباء". كذلك كنت أنظر الى "كتاب في جريدة" عملٌ ثقافي يمسّ الفئات التي لا نراها من القُراء، وهم يتقاسمون قراءة عملٍ أدبيٍّ عربيٍّ حديث. تلك هي اللغة المشتركة التي يجب الدفاع عنها في زمن أصبح السياسي عارياً بعجزه عن لمِّ الشمل. عمل أبيّ. رواية. شعر. قصة قصيرة. مسرحية. عملٌ عربيٌّ قديم. يمكن أن يكونَ غير قابل للتّصنيف. لغةٌ مشتركة للإحساسِ بالزّمن الذي نعيشُ فيه وبالرّوايات التي تستحضرُه في العمل الأدبي، عبرَ بلاد عربية ذاتِ صحافة متضامنةِ في نشر "كتاب في جريدة"، موقِفاً من الثقافة ومن العروبة ومن الحداثة عن طريق الأدب. هذا الإنجازُ العربي، الذي سبق لليُونيسكُو قد اختبرته في أميركا اللاتينية، هو أجملُ ما يتحرّك بين أيدِي القراء وعيونهم. ولهم منهُ في أنفاسهم مشاهدُ وحالات. تلك هي فضيلةُ عمل ثقافي كبير يخترقُ الحدود التي تُغلَق عادةً في وجه الكِتاب، ويخترق الفئات الاجتماعية، التي لا تصلُ بسُهولة الى الاشتراك في قراءة أعمالٍ ذات قيمة أدبية رفيعة. كتابٌ أصبح في شكل جريدة. مطويٍّ في جريدة. ضمن عدد مطلَع كلّ شهر. يحصُل عليه قارئ الجريدة بالمجان. مصداقيةُ الاختيارات وجمالية الإخراج الفني والتقني وامتيازُ خلُو الطبع من الأخطاء تُعطي هذا الكتاب مكانه الاستثناء في الحياة الثقافية العربية. كل ذلك يشرف عليه الشاعرُ الصّديق شوقي عبدالأمير، بما يملك من خبرة ودراية بالعمل الأدبي والتسيير الإداري والعلاقات الدولية، ممثلةً هنا بثقة اليُونيسكو في قُدرته على ادارة مشروع "كتاب في جريدة". 2 كل هذا امتزج بحركة أصابعي الهادئة. "ليلَى مريضةٌ في العراق". اسم المؤلف زكي مبارك. العراق وليلى والمجنُون. لم أكن أعرف أن للدكاترة زكي مُبارك عنواناً كهذا. بل لم أعرف عنه أنه كتبَ رواية. مفرحٌ هذا الاكتشاف. في صباح هادئ. ثم قلبتُ الصفحة الأولى والثانية والثالثة. بحثاً عن بداية الرّواية. في الصفحة الرابعة معلومات عامة عن "كتاب في جريدة". أثَارني العمودُ الرّابع الذي يضمّ الهيئة الاستشارية. إنه أطولُ من المعتاد. اللائحةُ التي كنت أعرفها كانت محدودةً في عدد أعضاء الهيئة. بدأت أقرأ أسماءً لم تكن موجودةً من قبل. استمرت قراءتي للأسماء فلم أعثُر على اسمي الذي كان ضمن أسماء الهيئة. منذ فترة لم أطّلع على "كتاب في جريدة"، إما بسبب انشغالاتي أو بسبب أسفاري. وأنا في هذا لا ألومُ شوقي عبدالأمير. ليست مهمتُه إخبارَ أعضاء الهيئة بصدُور الكُتب. لكن أعضاء الهيئة ليس من واجبهم أيضاً أن يطّلعُوا على الكُتب الصادرة. أقصد بذلك أنني لا أعرفُ متى أصبحت الهيئةُ الاستشارية بهذه اللائحة الجديدة التي حُذِفَ منها اسمان هما توفيق بكّار واسمي. توفيق بكّار كان لا يحضر اجتماعات الهيئة وكان اعتذر في ما أعلَم. وعُرِضَ الأمر على الهيئة في اجتماع حضرتُه للبت في الأمر وكان الرأي هو الموافقة على طلب إعفائه من المهمّة مع شكره على وجوده من قبلُ فيها. ولكن اسمي. لماذا حُذِفَ اسمي؟ ظللتُ أنظر الى الصفحَة. والعمود الرّابع. واسمِي الغائب عن الهيئَة. فاجأني السائقُ بالوصول الى الفندق. طويتٍ الجريدة وانصرفت الى ما سافرتُ من أجله. مفاجأة هذا الصّباح العربيّ. مفاجأة صادرةٌ عن صدِيق. وقد تعودت على أصدقاء لم يعودُوا أصدقاء. لا رسالة. أو مكالمةً أو استشارةً. فقط. اسمُك الذي كان هنا لم يعُد هنا. حياةٌ بكاملها من الصداقة والحوار والتعاون تبدّدت. وتقرأ ما تقرأ في وسَط كلامٍ في الصحف والإذاعات عن تأجيل عقد القمّة العربية. والجدلِ بين المشرق والمغرب العربي. وهذا العملُ الجميلُ الذي يُحذفُ اسمكَ من لائحة هيئة استشارية حضرت اجتماعاتها، في أكثَر من مكان. عملت لإنجاز المشروع حسب ما أنتَ مُطالبٌ به. حرصتَ على العمل الى جانب أصدقاء أعضاء لتوضيح الرّؤية وتعيين حُدود في لائحة تنظيمية وتنفيذِ المشروع. وها هوَ اسمك محذوفٌ. حقاً. لا أفهم. أو أنّني أفهم أكثرَ ممّا يجب. 3 تذكرتُ للتّوِّ أنني كنتُ مزعجاً في اجتماعات الهيئة الاستشارية ل"كتاب في جريدة". وحذفُ اسمي جوابٌ على الإزعاج. وأعترفُ بأنّني مزعج. فكرتي عن الثقافة العربية مزعج. آرائي في الأدب العربي مُزعجة. وجهةُ نظري في العروبة مُزعجَة. وأنا بهذا أكونُ. مغربياً عربيّاً ينصت للزّمن وللحياة، للأدب وللفكر والفنون في العالم. لا أتخلّى عن فكرتي ولا عن آرائي ووجهَة نظري لمجرّد أن أكون مع صديق لا يُشاطرني الفكرةَ والرأيَ ووجهةَ النّظر. ليستِ المسألةُ تتعلّق بمجرّد الحقّ في حرية التعبير بل بالمسؤُولية تجاه اختيارات. كنت مُزعجاً في اجتماعات الهيئة أو في مُؤتمرات "كتاب في جريدة" بخصوص تحديد هدف "كتاب في جريدة" أو اختيار الأسماء والأعمال أو وضع اللائحة التنظيمية. معظم أعضاء الهيئة من أصدقائي. ولم نكن بحاجة للمُجامَلة بينَنا. مع ذلك كنتُ مزعجاً. ولربما كنت مزعجاً لصديقي شوقي عبدالأمير على نحو صَرِيح. كنت مزعجاً لأني كنتُ أدافع عن مستقبل الثقافة العربية والأدب العربي من مكان مُختلف. رأيي بهذا الخصوص هو أننا لا يمكن أن نعتمد الحُكم الذي كان شائعاً من قبلُ في تقويم الأعمال الأدبية واختيارها. نحنُ بحاجة الى تقويم ينطلق من المُستقبل. إنها فكرة بكاملها وبها يمكنُنا إعادةُ النظر في تاريخ أدبي عربي حديث أو قديم وفي أحكام ليست دائماً مصيبةً على أعمال وأسماء وأوضاع أدبية. وأخصّ هنا وضعية أدب المغرب العربي ووضعية الأدب الأندلسي ووضعية أدب المرأة في المشرق والمغرب. رأيي يشمل، من ناحية أخرى، اللائحة التنظيمية، التي تُفيد ضبطَ العلاقات والممارسات، كما هو الشأن في مُؤسسات اليُونيسكو وفي المؤسسات ذات المصداقية الدولية. مصدرُ الإزعاج هو أنّني كنتُ أتجاوز الدائرة الموضوعة لي، دائرةَ مُباركة ما يُطرح وما يقترح وما يقرَّر. حالاتُ من يتأفّفُون من حديثي. من يستغربون حضُوري. من ينظرون الى بعضهم بعضاً متفكّهين. هي حالاتُ الإهانَة التي كانت تُشعرني بالدائرة الموضوعة لي وأنا خارجها أواجهُ ما لم أكن أعتقدُ أنّه سيحدُث. تلك غفلَتِي. كان هناك من يربُط بين فكرتي وآرائي ووجُودي بين أعضاء الهيئة وبين مغربيتي. وأنا كنت أقول: نعم ولا. نعم، لأنني أحسّ بما يحسّه وضعٌ ثقافيٌّ بكامله في المغرب العربي. ولا، لأنني عربيُّ الثقافة وفكرتي دفاعٌ عن الثقافة العربية والأدب العربي، من وجهة نظر مُختلفة للثقافة والأدب والعُروبة والحَدَاثة. أما العضويةُ في الهيئة الاستشارية فلا علاقةَ بينها وبين التمثيلية القُطْرية. لا لُبسَ في هذا الأمر. إصرارٌ من هُناك على أنّني مغربيُّ لا يحقّ لي الحديث باسم العُروبة. وإصرارٌ من جانبي على أنّني عروبيٌّ على طريقتي الخاصة. وأنا في كلِّ هذا الجدل لم أكن أتوقّع أبداً أنّني سأجد نفسي وجهاً لوجه مع صديق لي تقاسمتُ وإيّاه آراءَ وكتابات. محنةٌ كبرى أصبحتُ فيها. أن أكونَ مدافعاً عن مُستقبلٍ مُختلف لماضٍ لم يؤدِّ إلا الى الهزائم والتمزُّقات. وأجدُ نفسي مطرُوداً، على غِرار المغضُوب عليهم من طرف أصحاب الجَاه. لا ليتني طُرِدتُ كما لو كنتُ موظّفاً في دائرة صديقي شوقي عبدالأمير عن طريق رسالة يُعفيني فيها من العُضوية في الهيئة! وله أن يبرّر فعلَه بما يشاء. عندها كنت على الأقل سأكون عليماً بما سأقرأه في الصفحة الرابعة من "كتاب في جريدة". 4 في اجتماع الهيئة الاستشارية بالشارقة ابريل 1999، الخاصّ بوضع اللائحة التنظيمية، كنت أحدَ المُنتبهين الى مسألة فقدان العُضوية من الهيئة الاستشارية لأهميته الأخلاقية والرمزية. فإذا كان التعيين ضمن الهيئة يتمّ عن طريق اليُونيسكو، فإن فقدان العضوية لا بُدّ وأن يكون مشروطاً. وتمّ التنصيصُ، في اللائحة التنظيمية، على شرطين هما تقدّم عُضو بطلب الاستقالة أو عدم حضوره ثلاثة اجتماعات. وهما شرطان لا ينطبقان على سبب حذف اسمي. بل هناك مَنّ لم يحضُر أي اجتماع منذ بدأتُ أحضر الاجتماعات وهو لا يزالُ يحتفظُ بعضويته. آخرُ اجتماع دُعيتٌ اليه ولم أحضر هو اجتماع صنعاء في يناير كانون الثاني من 2002. لم أحضر لأنني لم أتوصّل ببطاقة السفر. كنتُ آنذاك استغربتُ لكون صديقي لم يستفسرني، باسم الصداقة على الأقل، عن سبب عدَم سفري ولم يقلَق علي عدم وصولي. ظنَّ أنني توصلتُ بالبطاقة ولم أحضُر. وكان ما لا أعرفُ أنه كانَ. حذفُ اسم عضو من هيئة استشارية لأهمِّ مشروع ثقافي عربي حديث، دونما استناد الى حجّة قانونية أو أخلاقية، يعني أن هذه المؤسسة الثقافية العربية، وعلى يد أحد رُموز حداثتها الثقافية، لا تُعير أهميةً للقانون ولا للديموقراطية ولا لحُرية التعبير. مع من يمكن التكلم في هذا العالم العربي المُنهار؟ وأينَ هيَ الحدود بين الدّاعين الى الحداثة وبين المُناهضين لها فيما هُم يلتقُون، جنباً الى جنب، في سُلوك يُعادي الحداثة؟ سُؤالان يؤدّيان بي الى الصمت وحدَه. أنا عاجزٌ عن فهم كل هذه التمزّقات التي نعيشها. لا أريد الدخول في تفاصيل لها أهميتُها. إنّني، رغم كل شيء، أشكر شوقي عبدالأمير على ما يقوم به. ولكن هذا الذي يقوم به هو مجرد خطوة أولى، وهيَ في بعدها الأعمق تؤدي الى ما لا يتخيّلُه من المآسي في الثقافة العربية. ليس ما آلمني هو المنهجية الإدارية اللامبالية بالمسؤولية ولا العبث بالضوابط القانونية التي اتفقنا عليها وأقرها مؤتمر بيروت في مارس آذار 2001 ولا حتى أدب الأندلس والمغرب العربي. نعم، كلما كان تناولُ هذين الأدبين كانت السخريةُ والامتعاضُ هو ما يُقابلُ به موقفي. لكن ما كنتُ أدافع عنه هوَ الأبعدُ برأيي. إنّه رؤية مستقبليّة للأدب العربي لا يستطيع معظم أهل الثقافة والأدب في المشرق العربي قبُولَها. ما آلمني هو افتقاد قدرة مُنادين بالحداثة على تخيُّل قراءة مستقبلية للأدب العربي، فيما كتاباتُهم لا تكفْ عن ترديد اسم المُستقبل والاستنادِ اليه. إنّهم برأيي، في هذا الموقف، أصوليون بطريقة لا وَاعية، منشدُّون الى ماضٍ لا تاريخيِّ ومستقبل لا واقعيّ. 5 حذفُ اسمي من الهيئة الاستشارية ل"كتاب في جريدة" لا يختلف عن سُلوك السلطة العربية. فهذا المشروع، الذي سأظلّ أدافعُ عنه، لا يعِي، في جانب منه، المَاسي التي يجرُّ إلها أدباً وأدباء، بل انتماءً الى عالم عربي وأدبٍ عربي. ما أرادته اليونيسكو من هذا المشروع يتحوّل، في بعضٍ منه، الى ما يُريده شوقي عبدالأمير. ثمةَ فرقٌ كبير بين البحث عن لغة مشتركة للحوار والتّقاسُم وبين البحث عن تكريس رؤية هدَفُها الهيمنةُ على أدب وأدباء. وأنا في كل هذا كنتُ مع بداية مشروع ثم هَا أنا أقبَلُ، اليوم، هذا الموقِفِ، وقد اقتنعتُ فيه بأن الحداثة المعطُوبة متعددة، في العروبة وفي الثقافة.