لعل أشهر من اتُهما بالسرقات الأدبية عند العرب في العصر الحديث الأديبان إبراهيم عبدالقادر المازني من مصر وعلي أحمد سعيد الملقب بأدونيس من سورية، والأديبان محسوبان على الحداثة والتجديد. فمع أن المازني يُعتبر في الوقت الراهن أديباً كلاسيكياً مثله مثل زميليه في جماعة الديوان عباس محمود العقاد وعبدالرحمن شكري، إلاّ أنه اعتبر في زمانه أديباً مجدداً انفتح على الآداب الغربية وانتفع بها في تجديدة. أما أدونيس فهو أديب وشاعر مجدد أيضاً ونصف كتبه في النشر على الأقل هو عن الحداثة بالذات، ماهيتها وكيف تسلم لمن يحاولها وقد اشتهر كما اشتهر المازني بإيلاء الشعر الأجنبي بالذات وبخاصة الفرنسي منه عناية أخرى وتردد لهذا الشعر صدى واسع في شعره ونثره على السواء. ويبدو ان هذا المنهل الثقافي والأدبي الأجنبي الذي ورده كل من المازني وأدونيس كان مدخلهما إلى التحديث وإلى اللصوصية الأدبية في آن. فقد انبهر كلاهما أيما انبهار بما وجداه عند الافرنج من تقدم في آدابهم مقارنة بما عندهما في الساحة الثقافية العربية من تخلف على شتى الأصعدة. ووجدا ان أيسر السبل إلى تخصيب الأدب العربي وتحديثه هو بنقل ما أمكنهما نقله من أدب الغرب وشعره وثقافته بوجه عام. ولكن النقل هنا لم يكن نقلاً بريئاً مشاراً إليه على أنه نقل أو ترجمة عن الأدباء والشعراء الأجانب، وإنما ادعى كل منهما ان هذا الأدب الأجنبي الذي نقلاه، إنما هو ملك ذاتي لهما لا لسواهما. فهما اللذان ابتدعاه لا سواهما. وقد كان ما فعلاه قابلا لأن يمر لولا ان آخرين اطلعوا على هذا الأدب الأجنبي المنقول في مظانه الأصلية واكتشفوا ما فعله المازني وأدونيس، وكتبوا عنه. ولم تقتصر كتابتهم على أمر اكتشافهم للسرقات الأدبية، وإنما وضعوا النصوص الأجنبية إلى جوار النصوص المسروقة عنها ليؤكدوا فعل السرقة الموصوفة ويوثقوها. أدونيس بل إن الأمر تجاوز عملية التأكيد والتوثيق الجرمي عبر مقال أو دراسة في مجلة أو جريدة إلى تأليف الكتب عن هذه السرقات فالباحث سامي مهدي يؤلف كتاباً عن سرقات أدونيس اسمه «أفق الحداثة وحداثة النمط» والباحث كاظم جهاد يؤلف كتاباً آخر عن هذه السرقات اسمه «أدونيس منتحلاً» يقارن بين نصوص أدونيس ونصوص أجنبية ليثبت ان المرشح الدائم لجائزة نوبل العالمية يعترف من السرقات عن الأدباء والشعراء الأجانب، ما لا يمكن ان يقترفه طالب أدب مبتدئ أما سرقات إبراهيم عبدالقادر المازني من الأدباء والشعراء الانكليز فقد أشار إليهما بالتفصيل الباحث أنور الجندي في كتابه «صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر». وقد دافع السارقان الأدبيان عما فعلاه دفاعاً طريفاً. أضاف أدونيس إلى الطرافة عنصر الاستباقية أي توقع ان يهتم بالسرقة فدافع مسبقاً عن نفسه أو فعلته ما يشكل استغباء واضحاً للقارئ فقد كتب مرة يقول «إن العناصر كالنثر والوزن والأفكار إلى آخره ليست ابتكاراً لشاعر محدد، وإنما هي موجودة موضوعياً وجود الأشياء ولهذا فإن استخدامهما لا يكون سرقة أو تقليداً» فأدونيس اذن وبحسب هذه الجملة ليس سارقاً إذا أخذ ما يأخذ من نهل أجنبي فهذا المنهل مباح للجميع وبإمكان من شاء ان ينهل منه، وما ينهله لا يؤلف مادة سرقة أو تقليد بل هو عمل طبيعي ومألوف. ولا يعرف أحد ما إذا كان المازني جاداً أو هازلاً أو متهمكاً على نفسه وعلى الناس وهو يجيب عمن اكتشفوا سرقاته وسألوه عنها. وقبل ان نورد ما أجاب به نشير إلى زميله في جماعة الديوان عبدالرحمن شكري كان في عداد من كشف أمره وفضح سره. قال شكري: «لفتني أديب إلى ان قصيدة المازني التي عنوانها «الشاعر المحتضر» مأخوذة من قصيدة «أدوني» للشاعر الانكليزي شيللي. كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها «قبر الشاعر» منقولة عن «هيني» الشاعر الألماني. وعدد شكري قصائد أخرى قائلاً: لقد ذاعت هذه الأشياء ولو كنت أعلم ان المازني تعمد أخذها لقلت انه خان أصحابه بهذه الأعمال. ولكن لا أصدق أنه تعمد أخذها، ولو أني رأيت الآن عفريتاً لما عراني من الدهشة والحيرة قدر ما عراني لرؤية هذه الأشياء. ولا أظن أني أبرأ من دهشتي طول حياتي. ولا أظن ان أحداً يجهل مدحي المازني وايثاري إياه واهداء الجزء الثالث من ديواني إليه وصداقتي له. ولكن هذا لا يمنع من اظهار ما أظهرت ومعاتبته في عمله، لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله. وليس الاطلاع قاصراً على رجل دون رجل حتى يأمن المرء ظهور هذه الأشياء، ولسنا في قرية من النمل حتى تختفي». وواصل شكري اتهاماته للمازني فكتب في مجلة «المقتطف» في يناير 1917م: «لو كانت المسألة التي تعرضت لها تافهة لما تعرضت ولكنها تشمل قصائد ومقالات كثيرة تسيء ظن الناس بأهل العلم والابتداع وتبعث على الفوضى في العلوم والآداب. وقد شاعت حتى لم يعد يمكن كتمانها. على ان كل أديب حارس من حراس الأدب ومن واجبه الا يغفل عن حراسته على ان هناك دافعاً آخر دفعني إلى الكتابة واظهار هذه المأساة، وهو الرغبة من الخلاص من مظان الريب. فقد اعتاد بعض الناس ان يقرن اسمي إلى اسم المازني والعقاد للمودة التي بيننا. ولكنها مودة لا تحمّل كل واحد منا عيوب أخيه. فحسب المرء منا أن يحمل عيوب نفسه ولكن الجمهور لا يستخدم المنطق في كل رأي يراه. لقد نبهت المازني إلى هذه القصائد فاعترف أنها ليست له. ولكنه قال انه نظمها وهو يظن انها له. ذلك لأنه حفظ المعاني ونسي انها لغيره. فبينت له ان الأدبيات والمعاني متسلسلة والترجمة دقيقة جداً. فأصر على فكرته السيكولوجية وقال ان ذلك جائز في علم السيكولوجيا ولكنه وعد بأن يتجنب أمثال هذه المآخذ في المستقبل ولم يف.. ثم اطلعت على مقالات المازني في ابن الرومي والجزء الأكبر منها ليس في ابن الرومي بل في العبقرية والعظماء فإذا أجزاء كبيرة منها مأخوذة بعضها من كتاب عنوانه شكسبير تأليف فكتور هيغو وبعضها من مقالات كارليل الأدبية. وقد نبهت المازني إلى ذلك، فقال: ماذا أصنع إذا كنت اكتب الشيء ولا أعرف انه ليس لي هل أطوف على الناس اسألهم هل رأوه من قبل؟». هذا بعض ما قاله شكري في سرقات صديقه إبراهيم عبدالقادر المازني وقد رد المازني بعد 12 سنة على سوق هذه الاتهامات له في مقال مطول شرح فيه علاقته بشكري وكان مما قاله: «لم يثقل على نفسي اتهامه لي بالسرقة لأني أعرف من نفسي أني لم أتعمد سطواً ولم أغر على شاعر وإنما علقت المعاني بخاطري في أثناء المطالعة وجرى بها القلم وأنا غافل لأني ضعيف الذاكرة سريع النسيان». وضبط آخرون المازني في جرم السرقة ذكر أحد الضابطين ان قصة «إبراهيم الكاتب» للمازني مترجمة بتصرف من رواية «ابن الطبيعة» لميشيل ارتيز بياشيف. وذكر كاتب آخر ان قصة «غريزة المرأة» للمازني مستمدة من قصة «الشاردة» لجالسورزي. ورد المازني فقال ان من اتهموه بالسرقة وجدوا هناك عشرين سطراً متشابهة في روايته والرواية الأجنبية كأن الذي يكتب 96 صفحة يعجز عن كتابة صفحة واحدة ويحتاج ان يترجمها أو ينقلها.. فماذا تخسر أية رواية في الدنيا إذا حذف منها عشرون سطراً؟ وعن اتهامه بسرقة رواية «ابن الطبيعة» رد قائلاً: «إن أربع أو خمس صفحات علقت بذاكرتي من هذه الرواية دون ان ادري وذلك لعمق الأثر الذي تركته في نفسي فجرى بها القلم وأنا احسبها لي.. حدث ذلك على الرغم من السرقة التي قرأت بها الرواية الأجنبية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً ومن شاء ان يصدق فليصدق ومن شاء ان يحسبني مجنوناً فإن له ذلك. ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي. فما يعنيني هذا وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن ان تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر هائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط تعرفه ومن غير ان يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى ويغيب عنه الشيء ويحضر! ويرى سامي مهدي في كتابه آنف الذكر ان أدونيس كان عيالاً في مفاهيمه على التراث السوريالي ولا سيما تراث رامبو الأب الشرعي للسوريالية وبريتون معلمها الأول حتى أنك لا تجد بين تلك المفاهيم شيئاً آخر من خارج ذلك التراث. وجلي ان هذه المفاهيم التي تشكل جوهر السوريالية هي في الوقت ذاته العمود الفقري الذي تستند إليه الحداثة الأدونيسية وما يردده أدونيس من أفكار الرفض والقطيعة والتمرد والهدم والتجاوز والمغامرة ورفض كل ما هو عقلاني ومنطقي وتغير الحياة عن طريق الحلم وتحرير المكبوت وجدنا ان الأدونيسية ليست شيئاً سوى السوريالية. وينقل سامي مهدي كما ينقل كاظم جهاد فقرات كاملة بالأجنبية يقابلها نصوص لأدونيس ترجمها ترجمة حرفية أو شبه حرفية. كما ينقل نصوصاً لأدونيس يستنتج منها انه مجرد تابع ثقافي وحضاري لفرنسا منها: «أحب ان اعترف أني لم أتعرف على الحداثة الشعرية العربية من داخل النظام الثقافي العربي السائد وأجهزته المعرفية إن قراءتي لبودلير ونرفال وبريتون هي التي قادتني إلى الوصول إلى ما وصلت إليه». ويتضح من كل ما تقدم ان المازني وأدونيس بطلا الحداثة والتجديد لم يكن حالهما حال المنفتح على الآداب الأجنبية، بل كان كل منهما عيالاً على هذه الآداب، وناهباً لها ولو كان في الأدب العربي المعاصر والحديث «بوليس آداب» لوجب تقديمهما إلى المحاكمة لأن جرم السرقة الأدبية جرم متمادٍ لا يسقط بمرور الزمن!