أن تلتقي أطياف فكرية مختلفة الرؤى متباينة التصورات، دينية، وليبرالية، في حوار مشترك، وأن تجتمع النخب المثقفة على مطالب سياسية صريحة قد لا يبدو مثيراً في كثير من المجتمعات، لكن هذا الالتقاء والاجتماع للأطياف الدينية والنخب المثقفة برعاية الدولة في السعودية يبدو حدثاً جديداً ومثيراً، ومستقطباً لانتباه وتعليقات من مختلف الشرائح في داخل المملكة والإعلام في خارجها. ذلك ما تمثل في الحوار الوطني الذي عقد لقاؤه الأول في النصف الثاني من ربيع الآخر 1424ه في مكتبة الملك عبدالعزيز التابعة للحرس الوطني بحضور أكثر من ثلاثين عالماً ومفكراً دينياً من مختلف التوجهات: سلفية، صوفية، إمامية وإسماعيلية، ثم عقد لقاؤه الثاني في ذي القعدة من العام نفسه في جوار المسجد الحرام في مكةالمكرمة بحضور ما يناهز الستين شخصاً منهم نحو عشر نساء وبتنوع أكثر من خلال مشاركة المثقفين الليبراليين - كما يطلق عليهم في السعودية - وبعض رجال الأعمال. وسيعقد اللقاء الثالث قريباً في المدينةالمنورة لمناقشة موضوعين هما: قضايا المرأة السعودية والتعليم. وفي تصوري أن لا سبيل لنجاح حقيقي لمثل هذه المسيرة الحوارية في أن تكون خطوة نحو نهوض وطني وسبيلاً لحل المشكلات المزمنة إلا بإقامتها على مرتكزات، أهمها: أن يتجاوز الجميع بعض المقولات الخاطئة والضارة في بنائنا النظري وفي تعاملنا مع مجتمعاتنا من مثل مقولة قوة المجتمع المدني إضعاف للدولة مما يجعل الحكومة بصفتها ممثلة للدولة تقمع التجمعات الشعبية خصوصاً إذا تمثلت هذه في مؤسسات أهلية: نقابات وهيئات وجمعيات وغيرها خشية أن تكون قوتها وفاعليتها في الميدان الاجتماعي وبالذات السياسي سبيلاً لخلخلة الدولة وإضعافها. إن الشعب، وخصوصاً إذا تمثل في مؤسسات وطنية مدنية كلما فتحت له الدولة مجال الحرية، ودعمت نشاطاته وأشعرته بالأبوة الحانية، زاد في ولائه لها والتعاون معها في حل المشكلات والوقوف في وجه الأخطار المحدقة بالمجتمع. إن قطاعاً كبيراً من الشعب السعودي من شرائح مختلفة متخوف خوفاً جدياً مما وراء الحوار، أي من الأهداف التي ترمي إليها هذه النبتة المفاجئة التي لم يعتدها المجتمع، وبما أنه شعب متدين فإن ما يعنيه بالدرجة الأولى هو مرتكزات دينه التي يخشى أن يكون هذا المسلك الجديد الحوار الوطني مقدمة لإذابتها من خلال توصيات تنتهي إليها لقاءاته. هناك تخوف، والمتخوف يتلمس ما يدعم تخوفه ليجعله مبرراً، ومن ثم اعتراضه، ولهذا كان لكلمة أحد أعضاء الملتقى الثاني أمام ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في شأن المناهج الدينية والتطرف بحدة لهجتها انعكاس سيئ على الحوار بحسبانها نموذجاًَ لأطروحات جلساته المغلقة ودليلاً الى ما سيجره من ويلات على المجتمع السعودي، حتى ان ولي العهد في كلمته عن الحوار الوطني أكد نقاطاً لعلها مرتبطة بالمشاعر التي لمسها لدى الناس حول تلك الكلمة حينما أكد أن لا مساس بالعقيدة تحت دعاوى حرية التعبير، وأنه ينبغي أن يعي المحاورون وغيرهم أن الحرية مسؤولية وأن يلتزموا آداب الحوار ومنهجه السليم... مما يعد تطميناً للناس في ما يتعلق بالحوار الوطني الذي يدعمه الأمير بقوة. لكن الناس يحتاجون أيضاً الى بناء ثقتهم بالحوار، وشدهم نحو التطلع إلى تحرير مركَّز مبين لأهداف الدولة والمجتمع من هذا الحوار وتفريداً للأساسيات التي يرتكز اليها وينضبط بها سواء كانت هذه الأساسيات دينية: عقيدة وقيماً وتشريعاً، أو مصالح وطنية تدخل فيها محددات هذه المصالح مثل موروث الدعوة الإسلامية التي التزمها المجتمع السعودي خلال القرون الثلاثة الماضية، ومثل شمولية الإسلام لمفاصل الدولة قضاء وتعليماً ودعوة، وتعاملاً مع العالم، ومثل تقاليد الشعب التي لا تخالف شرعاً ولا تمنع تحضراً... إلخ. الحوار الوطني وإن كانت تشترك فيه أطياف لاتجاهات دينية سنية وشيعية وليبرالية وسواها إلا أنه ليس حواراً مذهبياًَ هدفه الدعوة من طرف الى الطرف الآخر إلى اعتناق مذهبه، أو المناقضات الفكرية على نحو حوارات السنة والشيعة في قناة المستقلة الفضائية. إنه حوار في القضايا الوطنية التي تعني الجميع كما تجلى ذلك في توصيات اللقاءين الماضيين كمشكلات المرأة والشباب والبطالة والمشاركة السياسية والعدل بين المناطق ومؤسسات المجتمع الأهلي ونحوها. هذا الجانب ينبغي أن يكون أساساً موضحاً للعموم فليس اللبس فيه لدى العامة وإنما وقع فيه أحياناً بعض من دعوا الى الحوار. وينبغي أن نتجاوز النظرة التقليدية في تهميش عموم الناس واستصغار رؤاهم ومواقفهم لحساب تعالي المثقفين وتفردهم في توجيه الحياة، فالناس لم يعودوا على أميتهم المطبقة وانشغالهم بالكدح المتواصل. لقد ارتفع السقف الثقافي لدى قطاع كبير منهم، وكثرت معايشتهم للحياة وأحداثها ولمختلف الاطروحات التي تكتظ بها وسائل الإعلام والاتصال ما جعلهم مهيئين للمشاركة الإيجابية في رسم مستقبل مجتمعهم مع روادهم العلماء والمثقفين، وهذا يقضي بأهمية إشراك الناس في لقاءات حوارية مختلفة المستويات، ولن يعدم مركز الحوار إيجاد السبل المحققة لهذا. ويرتبط بإشراك الناس في الحوار الوطني، خصوصاً في مثل المجتمع السعودي، ضرورة بث ثقافة الحوار وتعليم آدابها في مناهج التربية وتطبيقها في مثل المدرسة والنادي وقبل ذلك الأسرة، والارتقاء بهم عن أساليب النكت والسلق اللساني الانتقامي من المخالف، وعن أسلوب غمط الحقائق وحدية المواقف. وتفاعل الدولة الحي مع مسيرة الحوار ضرورة لنجاحه على المستوى الوطني. في السعودية وعلى مستوى ولي العهد بالذات هناك دعم معنوي ومادي واضح تجلى خصوصاً في اللقاءين وفي الموافقة على انشاء مركز الحوار واعطائه مبنى في الرياض لكن المطلوب أكثر، ومن أهم ما يذكر به هنا تشكيل لجنة في مجلس الشورى، أو وكالة في الوزارة المعنية بمجلس الشورى مهمتها تلقي منتجات مركز الحوار ولقاءاته لدراستها والارتقاء بها إلى مستوى تبنيها لدى مجلس الشورى، وكذلك السعي الى تطبيق ما يمكن تطبيقه من التوصيات إذا كانت لا تعارض تنفيذه مصالح أكبر، وأيضاً ينبغي أن تكون الدولة طرفاً في لقاءات الحوار لا ضاغطاً ومهدداً لحرية المناقشات وإنما للإجابة عن التساؤلات التي تعني الدولة مما يناقش، ولبيان معوقات ما يطالب به المشاركون ليدور الحوار ولتكون توصياته من ثم في إطار واقعي، وهذا يعني أن يشارك عن الدولة ممثل لوزارة التربية والتعليم في اللقاء الثالث الذي سيناقش قضية التعليم مثلاً. التخطيط الاستراتيجي لم يعد اليوم ترفاً بل هو ضرورة، فلا ارتجالية المواقف ولا التنفيذات الجزئية، ولا التعامل بردود الأفعال تنجح مساعي النهوض وبناء المجتمع. الحوار ليس مؤتمراً عابراً ولا تقليعة لا تلبث أن تنطفئ بل هو - أو هكذا يفترض - و كما يصرح ولي العهد دعامة حركة الإصلاح التي يتجه إليها المجتمع السعودي وهذا يُلزم أن ترسم له خطة استشرافية مبنية على محددات الاستشراف المستقبلي المعروفة. ما هو مشروع مركز الحوار ؟ ما موضوعات لقاءاته المقبلة خلال مثلاً خمس سنوات وما ترتيبها أولوياً؟ الحوار الوطني يعني شرائح المجتمع المختلفة التي ستتابع منجزاته لتعرفها وتتفاعل معها، فضلاً عن أن الحوار يتم بين أطياف فكرية مختلفة قد تتفاوت دلالات المصطلحات في ما بينها ما يقضي بأهمية الوضوح، ووضع النقاط على الحروف وبيان المصطلحات بتطبيقاتها العملية المرادة مثلاً الديموقراطية، الحرية الإعلامية، المشاركة السياسية، حقوق المرأة... إلخ. ومن الطبيعي أن يتخذ اثنان رأيين متضادين تجاه مصطلح في إطلاقه العام، فالديموقراطية يقول شخص إنها تطابق الإسلام، ويقول آخر إنها تناقض الإسلام، وبإمكان كل واحد أن يبرز من حمولات هذا المصطلح ما يدعم به حكمه ويزداد تشبثاً به، ومن ثم تباعداً مع الآخر، لكن إذا قيل: مشاركة الشعب في المسؤولية السياسية عبر انتخاب ممثلين له، حق الشعب في محاسبة مسؤوليه، حرية التعبير في إطار النظام العام... فإن المختلفين سيلتقون على ذلك. في اللقاء الأول تمنى المشاركون وجود دراسات في كل موضوع ينطلقون منه في حوارهم، وفي اللقاء الثاني الذي كتبت لمحاوره بحوث علمية امتعض بعض المشاركين قبل اللقاء خشية أن تكون البحوث إطاراً لتعليقات أكاديمية لا غنى فيها في مثل حوار وطني كهذا. أرى أن الأولى بين العدم الكلي والبحث الأكاديمي صوغ ما يمكن أن يشكل أساسات شرعية ووطنية يرتكز اليها تناول موضوع اللقاء على أن لا تضخم لتصبح كوابح لحرية الأداء. أخيراً فإن من السبل الجيدة لإنضاج أهداف الحوار الوطني منح المشاركين في اللقاء حق تشكيل لجان منهم، أو من خارجهم لإنضاج بعض المشاريع التي يتفق عليها وتحتاج إلى زيادة بلورة وتوصيف ولوضع ضمانات تنفيذ، كما يحسن بالمشاركين في كل دورة من دورات الحوار أن يستثمروا الصفاء النفسي، والتقارب الفكري، والتفهم المتبادل خلال اللقاء في ترتيب لقاءات حرة تستهدف التعاون على البر والتقوى في الإطارين الديني والوطني اللذين يظللان الجميع، ومن حقهم أن يقوم مركز الحوار الوطني بتسهيل مثل هذه اللقاءات الحرة التي هي جزء من وظيفته. الحوار الوطني في السعودية قمين بالتفاؤل خصوصاً إذا اكتسبت خطواته التي ستتابع قريباً ثقة الناس، وأنتجت ثمرات واقعية عامة النفع لكن ينبغي أن لا نفرط في التفاؤل كعادتنا في الاندفاع ضد أو مع المستجدات فالمشكلات التي تترسخ بمؤثرات قوية متعددة، والضغوط المحيطة لن يكون الحوار حلها السحري الذي يقضي عليها ويغلب الأوضاع فيها نحو الأحسن، لكن حسبه أنه خطوة جريئة نحو إشراك قيادات المجتمع العلمية والفكرية بالصورة التي تبدأ فيها، وأنه يهيئ لها تقديم رؤاها في بناء المجتمع وإصلاحه للدولة من دون توجس متبادل بين الطرفين وأنه فتح لأبواب يؤمل الخير في فتحها. * أستاذ الثقافة الاسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.