التاريخ خيال. هذه مفارقة يعرفها المؤرخون. في مقدمة "المتوسط وعالم المتوسط في عصر الملك فيليب الثاني" يقارن فرناند بروديل بين عمل المؤرخ وعمل الروائي. يرى بروديل عمله شبيهاً بعمل الروائي: انه يقف امام مجموعة كبيرة من العناصر المعلومات ويحاول ان ينظمها في سياق. يحاول ان ينسج علاقة بين هذه المعلومات الكثيرة وأن يتخيل عالماً. هذه العلاقة، هذا النظام، هو النص الذي ينتهي مدوناً ومطبوعاً امام العيون: نقرأه، وبينما نقرأه نوجد في عالمين معاً: العالم الواقعي هذا المكتب، هذه الغرفة، هذا السرير، هذه الكنبة الخ...، والعالم الخيالي سفن المتوسط القديم، سهول الحرب الأهلية الأميركية، حياة ايما بوفاري الخ.... ماذا صنع ادوارد غيبون 1737 - 1794 بينما يكتب تاريخ انحدار الامبراطورية الرومانية وسقوطها؟ كتب تاريخاً واقعياً للامبراطورية؟ ما هو التاريخ الواقعي؟ ما زال غيبون يُعتبر احد كبار المؤرخين الإنكليز. كتابه المذكور يُصنّف تحفة كلاسيكية. لكن القرن التاسع عشر باكتشافاته التي لا تحصى غيّر نظرة المؤرخين الى حياة الامبراطورية الرومانية وقصة انحدارها وسقوطها. النصوص التاريخية التي جاءت بعد غيبون لم تنقضه كاملاً. لكنها أظهرت مفارقات وشوائب. الرجل كان يحيا في القرن الثامن عشر. السنوات الآتية، العقود المتوالية، كشفت النقاب عن حفريات لا تعد، عن مدن رومانية متوارية، عن نصوص لم يعلم بها. العالم يتغير بلا توقف. بنى غيبون عالماً بين دفتي كتاب بعد جزء اول لن تلبث ان تظهر اجزاء اخرى. هل يتطابق عالم غيبون مع العالم الواقعي - عالم الامبراطورية الرومانية؟ ومن يجزم بمثل هذه الأشياء؟ لا نملك آلة ويلز 1866 - 1946 لنرجع في الزمن الى روما القديمة... وحتى لو امتلكناها ماذا كانت تنفعنا؟ لنتخيل بروديل او غيبون نفسه مسافراً في الوقت الى اسبانيا القرن السادس عشر القرن الطويل، بحسب والرستاين، أو الى إيطاليا البائدة: ايطاليا التي نُفي عنها مؤرخ غريب آخر، ألّف نصوصه منظومة، وكان يُدعى اوفيد. هل يستطيع بروديل الواقف في ميناء من موانئ المتوسط المندثرة ان يقول - ناظراً الى الأشرعة البيضاء تخفق بين سماء زرقاء وبحر أزرق - "هذا هو عالم المتوسط كما كتبت عنه بعد هذه اللحظة بحفنة قرون"؟ هل يستطيع احدنا ان ينظر الى مشهد العالم ويقول انه يتطابق مع المشهد المدون في الكتاب بين يديه؟ آلة ويلز الخيالية قد تحمل غيبون مع كتابه الى قصر نيرون. لكن ماذا ينفعنا هذا؟ المؤرخ لن يقول انه رأى العالم مطابقاً للعالم كما دوّنه في صفحات! العالم صعب معقد هائل لا متناهٍ... كيف توجزه في مجلد؟ واقفاً امام مشهد العالم يدرك المؤلف انه صغير، وأن الكتاب بين يديه صغير. هذا الكتاب ايضاً جزء من العالم الشاسع المتشعب. كيف يستطيع كتاب ان يعكس العالم وهو جزء منه... وجزء ضئيل؟ عمل غيبون أو بروديل يذكّر في طموحه الملحمي بهوميروس وفيرجيل. ما يفعله هؤلاء ليس سهلاً. لكنه ايضاً ليس مستحيلاً. صاحب "هاملت"، مثل صاحب "دون كيشوت"، كان يدرك هذا. والعملان، المسرحية والرواية، ظهرا سنة 1604. تلك صدفة كونية غريبة "مؤرخة"... انظرْ الطبعة الحادية عشرة من الموسوعة البريطانية الصادرة سنة 1910. ما يفعله هؤلاء محاولة تنظيم صورة شاملة لجزء محدد من عالمنا في فترة زمنية محددة ليس سهلاً. لكنه ايضاً ليس مستحيلاً. إنه يشبه إعداد الموسوعات. الأفضل ان تقدم عليه مجموعات، وليس افراد. لكن المشكلة تكمن هنا بالضبط: المجموعة لا تملك رأساً واحدة. المجموعة لا تملك رأس ادوارد غيبون. ليو تولستوي ليس عدداً من الباحثين. إنه رجل مفرد عاش في موسكو القرن التاسع عشر وظلّ حيّاً حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين. مطلوب رأس تتسع للعالم: هذا عمل المؤرخ الذي يقارنه بروديل بعمل الروائي. رجل يقف امام عدد لا متناهٍ من العناصر المعلومات ويحاول تنظيمها. هذا تعريف شوبنهاور القديم للفن. الإغريق أدركوا ذلك. وشوبنهاور يستعيدهم: على الكاتب ان يصقل مرآة الأعماق، ان يجلوها جيداً، لتنعكس في المرآة صورة العالم كاملاً. لكن التاريخ، كما يُفترض، ليس من نسج الخيال. اندلعت في الجبل اللبناني خلال القرن التاسع عشر ثلاث حروب اهلية بين الدروز والموارنة. هذا واقع. هل يمكن ان نقول انه ليس واقعاً؟ هناك نصوص موزعة على مكتبات في قارات العالم تشهد على هذه الحقيقة. هناك رسائل، وثائق رسمية، نقوش في رخام، أطلال وشواهد، مجلدات الخ... هذا تاريخ، نقول. وحين نلفظ العبارة فكأننا نقول: هذه حقيقة، هذا واقع. لكن هل هذا واقع حقاً؟ وكيف نفهمه؟ ان قراءة مدونات ابكاريوس الأرمني عن تلك الحقبة تطرح امامناً مشهداً للعالم لبيروت والجبل اللبناني بين 1840 و1860 ليس هو ذاته المشهد الذي تصنعه مدونات اخرى. رسائل المبشرين البروتستانت مثلاً، او بعض المخطوطات الدرزية. كل أثر من هذه الآثار يصنع صوره الخاصة للعالم الواقعي. والقارئ يقرأ هذه الصور ويستخرج منها صورة تخصّه. هذه الصورة الأخيرة "المؤلفة" ليست الواقع. نستطيع ان نفترض انها الواقع. إنها الحقيقة التي بلغناها بعد طول تنقيب. لكن هل هذه "الحقيقة" واقعية فعلاً؟ هل نسميها تاريخاً؟ لا احد يرى العالم كما يراه الآخر. يقف رجلان امام مشهد واحد: الأول يكلمنا عن الأشجار، والآخر يكلمنا عن حشرات تسعى على الورق الأخضر. المشهد يحوي كل هذا معاً. ثراء العالم غير محدود. الحشرات واقعية. والأشجار واقعية. لكن رؤيتنا واقعية وخيالية معاً. احد الرجلين لم يلفظ كلمة عن الحشرات. هل كان القزويني مؤرخاً؟ نقول ان الطبري مؤرخ وأن ابن الأثير مؤرخ وأن المسعودي مؤرخ في "مروج الذهب"، وربما في "اخبار الزمان" ايضاً وأن الخطيب البغدادي مؤرخ... هل نقول ان صاحب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، ذلك العلاّمة الفارسي الذي كتب بالعربية، كان مؤرخاً ايضاً؟ هل يُسمح لمؤرخ او جغرافي ان يكتب وصفاً لدابة ترعى في النار ويُصنع من جلدها ثوب لا يحترق فإذا اتسخ الثوب طرحناه في النار ليبيضّ وينظف ويرجع جديداً؟ ينقل القزويني الخبر عن كتاب قديم، او راوية اعترض دربه في السوق. ينقل اشياء وينسى اشياء. ينتبه الى امور ولا ينتبه الى اخرى. ألا يفعل المؤرخ ما يشبه ذلك ايضاً؟ التاريخ خيال. لأنه يُنسج في اعماق المؤرخ. يؤلف المؤرخ نصه مستعيناً بالوثائق، بما يراه ويسمعه، وبما رآه الأقدمون وسمعوه ودوّونه. يقارن بين النصوص، يذهب الى الأراضي ويتفحصها مثل ابن خلدون، يسرح ناظراً الى الفراغ الكبير، وبعد تأمل وتفكير يكتب ما يكتب. ماذا يكتب؟ يكتب العالم الواقعي كما يراه هو. يكتب إذاً خيالاً. يؤلف نصّه تأليفاً. أسلافنا عرفوا هذا: كانوا يؤلفون بين عناصر كثيرة، لينسجوا الأثواب النصوص. ننظر الى العالم ونكتب ما نراه وما لا نراه وما نود ان نراه. الواقع خيال ايضاً. لكن التاريخ ليس خيالاً. يبدو خيالاً وهو ليس كذلك. هذا اثر الوقت. الوقت يسحر الواقع. الأهرام ليست خيالاً. خوفو وخفرع ومنقرع وجدوا ذات صباح بعيد، ناموا وقاموا وأكلوا ونظروا الى جريان النيل والى غيوم تعبر السماء ثم قضوا واندثروا. الهكسوس ليسوا خيالاً. ويوليوس قيصر كذلك. هل كان مكبث خيالاً؟ والملك لير؟ الأدب يمزج الواقع بالخيال ويمحو الحدود. ذات مساء خريفي من تشرين الأول اكتوبر 1764 سار ادوارد غيبون بين أطلال رومانية في المدينة القديمة فخيّل إليه ان الريح تهمس كلاماً في أذنيه. بين أطلال رومولوس والقياصرة أحسّ غيبون انه يعرف هذه الأرض، هذا العالم الذي مضى وتبدد ولم تبقَ منه إلا الحجارة. قبل فترة كان يقيم في غرفة تطلّ على "بوند ستريت". كان يقضي النهار والليل قاعداً وراء النافذة، يتبحر في اللاتينية، غارقاً في بلينوس والكلاسيكيات، بينما طنين لندن يخترق الزجاج. الحياة هناك في الخارج، في متاهة لندن الحمراء، كان يفكر. ثم يفتح كتاباً آخر... يأكل خبزاً وجبناً، يشرب شاياً أسود، ويضيع في متاهة قديمة صفراء تضجّ بالمناظر والروائح والأصوات. السمندل الذي وصفه القزويني ثم الإمام الدُميري، رآه غيبون المتعب العينين بينما يقرأ بلينوس، رآه ساعياً بين الصفحات، فابتسم. الحياة الواقعية كانت "بوند ستريت" ولندن القرن الثامن عشر. الحياة الخيالية كانت التاريخ: كابيتول روما وكلمات يلفظها يوليوس قيصر تارة باللاتينية، وطوراً بالانكليزية. شكسبير المخرب يتسلل الى التاريخ فيغيّر الواقع ويبدله. كيف نبصر اليوم الخط الفاصل بين واقع غيبون وعالمه الخيالي؟ لندن القرن الثامن عشر الواقعية باتت اليوم خيالاً محفوظاً في مذكرات ولوحات ومجلدات يأكل العث أوراقها. ذاكرة "بوند ستريت" مثل ذاكرة "فليت ستريت"، لا تحيلنا - نحن أبناء آذار مارس 2004 - الى حياة غيبون بمقدار ما تحيلنا الى مغامرات شرلوك هولمز الخيالية والى شخصيات شارلز ديكنز. الوقت يسحر الواقع ويصنع التاريخ. ليس المستقبل وحده أرض احتمالات متشعبة. الماضي أيضاً مملوء بالاحتمالات. الذاكرة تخدع. وحده الحاضر يبدو حقيقياً، يبدو واقعياً. غيبون كان معجباً بهيوم. وأحد أصدقاء هيوم شكَّ ذات مرة ان العالم يولد في هذه اللحظة محملاً بذاكرة خيالية عن ماضٍ كامل خيالي. غيبون عاش في لندن حياة كرّرها هوتورن بعد عقود وراء الأطلسي، في مدينة سالم الأميركية، ثم دوَّن تفاصيلها المملة في مذكرات تبدأ ولا تنتهي. هل كان هوتورن حقيقياً؟ انه يبدو شبحاً! في المقابل يسبح "موبي ديك"، حوت صاحبه هرمان ملفل، حتى اليوم، في محيطات الخرائط ومياه مناماتنا.