هل نعرف الى أين تأخذنا هذه الحرب الجديدة؟ المعرفة لا تقطع الأطلسي بسهولة. ليست فرقاطة. ليست سيارة فورد. ليست رصاصاً. ليست سلسلة من الصور الملونة. نعرف عن أميركا أشياء ونجهل أشياء أخرى. ايمانويل والرستاين Immanuel Wallerstein يستحق أن يُعرف بين قراء العربية. لن يرسله الينا أحدٌ موضباً في علبة. ليس هذا نَفَسَاً عدائياً. لكن أسلوب والرستاين يفرض ذاته. الرجل صاحب علم وقدرةٍ على النقد التاريخي الصارم. يشكل في بلاده، منذ منتصف السبعينات، صوتاً مختلفاً عارم القوة. لكننا لا نعرفه. نذكر غور فيدال بين حينٍ وآخر. خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر. لكننا لا نعرف ايمانويل والرستاين. مع أن هذا الأخير صاحب تحليلٍ تاريخي صاعق البرودة، كاشفٍ، ومدعَّم بخلفيةٍ نظرية يجوز نعتها بالموسوعية بلا خوفٍ من الوقوع في المديح أو في المبالغة. بعد 11 أيلول 2001 نشر ايمانويل والرستاين حفنة مقالات في L.A.Times وForeign Policy عن حال أميركا والعالم الآن. في المقالات الأولى حاول التقاط أنفاسه. "أميركا والعالم: البرجان التوأمان كاستعارة"، بحث لا يبدأ بالكشف عن الأسباب المفضية الى الكارثة إلا بعد سؤالٍ غير مألوفٍ عن الهوية الشخصية والانتماء. يريد والرستاين أولاً ان يعلن انتماءً كاملاً الى أميركا. هذا وطنه، وهذه ثقافته. لكنه من قلب هذه الثقافة الأميركية وهو الباحث في جامعاتها يريد أن يصنع وأن يتابع نقداً لسياسة القوة، ولعنف السياسة. لا يكتب والرستاين نصاً أدبياً آخر في معارضة الحرب على العراق. يعارض هذه الحرب لكنه يفعل ذلك ضمن نسقٍ مختلفٍ، ونظام معرفي مختلفٍ عما يُكتب الآن وعما نقرأه. تلك نصوص يكرر بعضها بعضاً فكأنك تعبر بين مرايا. والرستاين يجيء من مكانٍ آخر. ينظر الى العالم كما ينظر الفلكي الى الكون. هذه الاستعارة المقارنة بين المؤرخ والفلكي ليست نافلة. فرناند بروديل وجدها قبل نصف قرن مثيرة للخيال. وبروديل الفرنسي واحدٌ من مُعلمي ايمانويل والرستاين. حين كتب بروديل "البحر المتوسط وعالم المتوسط في عهد فيليب الثاني" 1949 كان يؤسس لجديدٍ في علم التاريخ. مثله، قدّم والرستاين في المجلد الأول من "نظام العالم الحديث" 1974 وحدة شاملة للبحث التاريخي. رفض أن ينظر الى تاريخ كل دولة من دول العالم على حدة. بروديل، قبله بربع قرنٍ، قرر أن يوسع حقل بحثه من اسبانيا فيليب الثاني الى العالم المتوسطي في القرن السادس عشر. الإثنان أرادا أمراً واحداً. رؤية العالم كاملاً. النظر الى التاريخ بشمولية. نجد أصول هذه النظرة عند موسوعيي القرن التاسع عشر كما نجدها في مؤلفات الأقدمين. لكن والرستاين، أكثر من بروديل، صاحب التزامٍ سياسي معلن وخفي في آنٍ. كان أستاذاً شاباً في جامعة كولومبيانيويورك في حقبة 1968. اعتبر الثورة الطلابية التي عمَّت الغرب آنذاك اعلاناً عن التناقضات الداخلية التي تهزّ أركان "نظام العالم الحديث". بالنسبة الى والرستاين، "العولمة" لم تبدأ مع توماس فريدمان، ولا مع انهيار المعسكر الاشتراكي، ولا حتى مع رونالد ريغان الذي نسي أخيراً من يكون. بالنسبة الى والرستاين النظام الرأسمالي ليس شكل العالم منذ القرن التاسع عشر، أو منذ الثورة الصناعية. في عمله الموسوعي "نظام العالم الحديث" المجلد الثاني ظهر عام 1980، والثالث في منتصف الثمانينات، والرابع يعمل عليه الآن قدم والرستاين نظريته المثيرة للجدل: شكل العالم الرأسمالي تأسَّس في القرن السادس عشر، بل ابتداء من النصف الثاني من القرن الخامس عشر. منذ 500 سنة دخل العالم عصره الرأسمالي الحديث. في حقبة أولى كانت الغلبة لهولندا. في حقبة تالية أُعطيت بريطانيا أن تكون الأقوى. هذه القوة في الهيمنة على العالم، عند والرستاين، قوة اقتصادية أولاً. القوة العسكرية تلعب دوراً حاسماً بالتأكيد، لكنه دورٌ مرتبطٌ دوماً بالاقتصادي. الماركسية ليست غريبة عن والرستاين الذي يُفيد منها كما يُفيد من "امبريالية" لينين. "الحتمية" يقرأها والرستاين متحولة بينما يقرأ تاريخ العالم منذ القرن الخامس عشر حتى هذه اللحظة. بعد هولندا جاءت بريطانيا. وبعد بريطانيا بدأ الصراع مرة أخرى بين دول "المركز". ذلك حدث عند نهايات القرن التاسع عشر. والرستاين يرى الحقبة الممتدة بين 1870 و1945 كحقبة صراع طويلة بين المانيا وأميركا. حقبة تخللتها حربان عالميتان وانتهت بنصرٍ أميركي وهزيمة ألمانية. السيطرة الأميركية على العالم منذ الحرب العالمية الثانية لم يهددها المعسكر الاشتراكي. والرستاين يرى الى "يالطا"، كلحظة تقاسم نفوذ وتكريس للسيطرة الأميركية الاقتصادية على الجزء الأوسع من العالم. اعتكف ستالين وراء خطوطه وصعدت الموجة الأميركية الى قمتها. بعد ذلك بدأ الانحدار. هذه طبيعة التاريخ، يقول والرستاين. ثم يُظهر أدلته على هذا الانحدار الأميركي. القوي لا يحتاج الى أن يثبت قوته بالفعل. هكذا علَّمنا ماكيافللي. يكفي القوي أن يهدد باستخدام القوة كي يرتدع الآخر. يرى والرستاين ان قادة أميركا باتوا مضطرين لدفعها الى الحرب مرة تلو الأخرى لأنهم لا يرون أمامهم درباً آخر للبقاء في القمة، لإثبات قوتهم أمام العالم. سبب ذلك، عند والرستاين، الضعف الاقتصادي الذي يعصف بأميركا منذ سنوات. هذا الضعف الذي يدل الى صعود قوى "مركز" أخرى تنافسها على السيطرة: الاتحاد الأوروبي خصوصاً، واليابان طبعاً. يقدم دليلاً آخر لافتاً الى هذا "الضعف الأميركي". أحدث كومبيوتر ياباني الصنع يتفوق على قرينه الأميركي في سرعته عشر مرات. هذا بحد ذاته ليس مهماً. الأهم وجهة استخدام هذا الكومبيوتر: بينما تستعمله أميركا في مختبراتها العسكرية، تستعمله اليابان لرصد تبدلات المناخ. عند نهاية القرن التاسع عشر أظهرت أميركا تفوقاً صناعياً مشابهاً على بريطانيا. تحتفظ أميركا حتى اللحظة بالسيطرة العسكرية. لكن هذا غير كافٍ. القوة العسكرية تؤمن انتصارات في الحروب، وقد تؤمن مصادر جديدة للدخل، لإنعاش الاقتصاد، لدفع جميع العجلات الصناعة، التجارة الخ... دفعة واحدة. يعرف والرستاين كل هذا. لم يقرر أن ينظر الى العالم كوحدة متكاملة تجمع "المركز" الى "الأطراف" إلا بعد أن أقام في أفريقيا الكولونيالية. لم يكتب ما كتبه إلا بعد أن رصد عامل "التوسع الاستعماري" منذ الامبراطوريات القديمة، ثم اكتشاف أميركا عام 1492 في مد "المركز" بمزيد من القوة، مزيد من رأس المال. لكن هذا التوسع لم يعد يكفي. أين نتوسع بعد؟ أين نمضي؟ يرى والرستاين الانحدار الأميركي حتمياً. ما حدث في دول شرق آسيا من هزّات مالية أخيراً ليس إلا مؤشراً في هذا الاتجاه. يُحلل كل ذلك في كتابه "نهاية العالم كما نعرفه" 1999، ويقترح في كتابٍ آخر يلعب عنوانه Utopistics على كلمة "يوتوبيا" سيناريوات محتملة لشكل العالم بعد أربعين أو خمسين سنة. بعد خمسين عاماً لن يكون العالم شبيهاً بعالم اليوم. على الأقل لن يكون العالم أميركي الطابع. هذه نظرية والرستاين. ربما نرى صعوداً يابانياً - صينياً. والرستاين يعطي هذا التحالف "الشرقي" الممكن فرصة الانتصار على الاتحاد الأوروبي. يضع كل البيض في السلة اليابانية، لكنه لا ينسى السيناريو الأخير: أن يكون نظام العالم الحديث قد بلغ نهايته. كل نظام للعالم هو نظام تاريخي. هذا يعني أنه يولد، يحيا، ثم يحتضر ويموت. حدث هذا للامبراطوريات. ولا بد من ان يحدث للعالم كما نعرفه ذات يوم. هل بلغنا "نقطة التشعب"؟ يستعين والرستاين بعلوم الفيزياء والكيمياء الحديثة. يرسم صورة - تثير الخيال وتثير الخوف - لفوضى آتية. لكنه يرى أيضاً مثل دي كوينسي ان "المحتمل" أثرى من "الواقع". وأن هذا الثراء في "المحتمل" و"الممكن" و"الآتي" يُبعد عن المستقبل صفة "الحتمية" ويترك المجال مفتوحاً أمام مغامرات المعرفة ومغامرات الأمل ومغامرات الخيال البشري. يأخذ والرستاين عن الكيميائي حامل نوبل ايليا بريغوغين معرفة ضرورية. ينتظر معه عند "نقطة تشعب" ولا يعرف شكل الفوضى التي سيبلغها العالم في سنوات آتية. لكنه يعرف شيئاً واحداً، يعرف كلمات قديمة لا تفقد حكمتها بمرور الوقت: لا شيء يتغير. كل شيء يتغير على الدوام.