حين أنهيت قراءة رواية الكاتب المصري العَلَم، صنع الله ابراهيم "امريكانلي - أمري كان لي" القاهرة - دار المستقبل العربي، 2003، وعنّ لي أن أكتب عنها مقالة شارحة ومحللة، تمسك بزمامها ولا تتيه في تفرعاتها وتفاصيلها، الأساس فيها والنافل الرواية في 484 ص من القطع المتوسط، ألفيتني متجاذباً بين أكثر من منهج، ومشدوداً الى غير مقاربة، علماً بأن هاتين الأداتين ضروريتان منذ البداية وسيطاً للقراءة، ودليل سير لمتابعتها للقارئ عامة، والقارئ المحترف خاصة عوض المفاضلة بين اختيارات عدة ممكنة وقعت على كلام مفيد للكاتب الجنوب أفريقي جون مكسويل كوتيزي، في مقالة نشرت ببلاده سنة 1988 بمجلة يوبستريم ووردت مقاطع منها في "لوموند الدبلوماسي، باريس، تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 وضع لها عنواناً غريباً هو "تصفية استعمار الرواية"، ينطلق فيه من رصد حال الرواية في بلده، حيث يلاحظ وجود نزعة مهيمنة مرامها تصنيف الرواية في مقام دون التاريخ، وقراءة الروايات في شكل "تحريات متخيلة لقوى حقيقية وظروف تاريخية متحققة، وفي المقابل تتفيه الروايات التي لا تذهب في منحى البحث هذا". ويضيف رجل نوبل للآداب، هذا العام، قائلاً: "في زمن الضغط الايديولوجي الكثيف كما يسود اليوم، وحين يكاد الفضاء الذي تتعايش فيه الرواية والتاريخ ينعدم، فليس للرواية عندي سوى اختيارين: إما التكامل أو التنافس". بالاختيار الأول يعين النص السردي الذي يقدم للقارئ تجارب معيشة للمرة الأولى، في فترة تاريخية بعينها، تتخلل شخصياتها صراعات متنافسة، وهي تُغني تجربتنا نحن" أي تظهر فيها الرواية أن التاريخ ليس هدفها، فتبدو علاقتها به ثانوية. في حين "تتجلى المنافسة في رواية حائزة على قواعدها الخاصة، وتيماتها هي في اطار استنتاجاتها الذاتية، وليس تلك التي تعمل وفق قواعد التاريخ، وتخلص الى نتائج يمكن فحصها على ضوئه. وما ينشده كويتزي بصراحة هو: "رواية تكون قادرة على أن تبنى خارج مقولات الصراع الطبقي، والنزاعات العرقية، ومعارك الجنسين، أو كل تعارضات أخرى ينبني التاريخ انطلاقاً منها، وتبعاً له الشواغل التاريخية". وبما أن كويتزي يلاحظ بأن الخطاب التاريخي يستعمر الرواية في جنوب أفريقيا بوتيرة متسارعة منذر بالخطر فهو لا يتوانى عن الدعوة الى "تصفية هذا الاستعمار". تتجاور هذه النظرات الفاحصة تكوين الرواية في جنوب أفريقيا الغنية روائياً، وهي التي أعطت علماً نوبلياً آخر نادين غورديمر، 1991، لتثبت نقدياً ما ينسحب على الرواية بإجمال في أي مكان، خاصة في السرود الفنية التي يعد التاريخ - المادة والرؤية التاريخيتان، والصيرورة أيضاً - مكوّناً مركزياً فيها. وعندنا في أدبنا السردي العربي روائيون أصبح هذا المنهج ديدنهم، وجلّ أعمالهم تكتب ولا تقرأ إلا على ضوء وقائع وتواريخ معلومة، تتشابك بها ان لم تسيّرها من البداية الى النهاية، حسبي أن أذكر منهم، من بين الأعلام عبدالرحمن منيف وصنع الله ابراهيم وأحمد التوفيق. لننتبه الى ان كويتزي، باستعماله لصيغتي التكامل والتنافس، يقيم فرقاً واضحاً بين عمل يستوحي التاريخ وآخر يستنسخه أو يتكئ عليه. ومن الواضح هنا أننا، في مدخل مقاربتنا لرواية صنع الله ابراهيم الأخيرة، وبإشارتنا كذلك لصاحب "مدن الملح"، لا نقصد ضرورة من التيمة المعنية ما يتصل بحوادث الأيام أيام العرب، مثلاً ومصائر البشر. وما يجري به الزمان من تسلسله التعاقبي، وسوى ذلك مما يعدّ في صلب الرواية التاريخية في تمثيلاتها المتعددة نظن أن لوكاتش حسم فيها بآراء حصيفة في مؤلفه الشهير بالاسم نفسه" اننا نروم كيف تبنى الرواية على التاريخ بمفهومه العام كعمود فقري، فتكسوه بالسرد والخطاب السردي لحماً وشحماً، بالدرجة التي تجعلنا نستعيد الأولوية أيهما التي بنى عليها كوتيزي تقويمه الثنائي المذكور. كان الأمر سيبدو لنا خلواً من التعقيد، ومطلب التحليل فيه يسير المنال. لو انشغلنا بكاتب ناشئ، أو روائي رقيق الحال في فنه، ولكننا نختص لفحص هذا الرأي بروائي مشهود له، منذ ثلاثة عقود ونيف، بطول الباع في الابداع السردي، واكتساب قصب السبق في تطويع وتحديث مسالكه في أدبنا، أضف الى ذلك ما عُرف عنه من ابداء الرأي الشجاع، واتخاذ الموقف بغير مواربة، وقد أدّى في السجن ثمن التزامه الماركسي، وما نظن أن عريكته لانت من هذه الناحية. كما بات معلوماً رفضه الصارخ لجائزة الرواية العربية القاهرة، تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على رؤوس الأشهاد. هكذا، وقع هذا الكاتب بكمّ انتاجه ومضامينه والايديولوجية المعتنقة فيها، والمواقف الملتهبة الرائجة داخلها، مع الكيفيات الأسلوبية الفنية لنقل مجمل التجارب، تلزمنا بالنظر من زاوية مخصصة، كما تملي صرامة كتلك التي يعلنها الكاتب مع الحياة والكتابة. ماذا كان صنع الله ابراهيم في روايته الأم "نجمة أغسطس" منذ مطلع السبعينات قد شحذ أدواته الفنية، وأقام معمار الرواية على قاعدة واقع يريد ان يصعد صلباً السد العالي على رغم القهر، من منطلق رؤية موضوعية منقولة بالوصف والتشريح الدقيق، الحاف، فإننا واجدوه في أعماله اللاحقة، بدءاً من "اللجنة" يجهر بالرأي في ما يعوق الإنسان المواطن من العيش بحرية وكرامة بينما سيحقق في روايته "ذات" 1992 الانتقال النوعي الحاسم الذي سيغير مجرى كتابته، ومعها يدخل الرواية العربية في صورة الرسم الشامل للمجتمع، والاعتماد على التوثيق، ونصب مرايا التاريخ العاكسة أو المكملة للوجه الآخر للنص الروائي، ومختلف السنادات المنتجة للمعنى في العمل والداعمة له. تلك الطريقة التي نهجها للمرة الأولى في تاريخ الرواية الأميركي دوس ياسوس في روايته "الولاياتالمتحدة" 1936 ثم "مانهاتن ترانسفر". وماذا كانت "وردة" تنحو عموماً المنحنى ذاته وتؤكذه، فإننا مع "أمريكانلي" أمام ظاهرة نصية يكرّسها صاحبها، ويلتزم بها طريقة، كما يملي بالتالي، على القارئ نهجاً مغايراً في التلقي، تلقي الكتابة السردية بطبيعة الحال، وهذا بعض شكل هذه الرواية التي ما أن يتصور القارئ انها أسلست له القيادة حتى تتكالب عليه احالاتها ومرجعياتها واحصاءاتها ومرافعاتها من كل نوع. والحق ان القصة في مبتداها تدخلنا الى جوها مباشرة بالفعل، كما عند أي روائي محترف، نتعرف الى بطلها شكري أستاذ التاريخ المقارن، الذي يحصل على منحة تؤهله لدورة تدريسية بمعهد متخصص في الدراسات العربية ضمن جامعة سان فرانسيسكو. هنا سيقضي البروفيسور شكري فصلاً من السنة الجامعية يتعرف خلاله على عاصمة الساحل الغربي للولايات المتحدة، التي ستبهره بالنظام والشساعة والنظافة وسيادة القانون وغيره من ظواهر المدنية الغربية، منذ أن بهرت الطهطاوي وسجلها في "الإبريز...". عند السارد، في كل صورة مرصودة نقيضها أو وجهها القبيح المعكوس في مصر. من ثم فالرواية تُقرأ مضعفة بين صيغتي الاعجاب هنا - النص والمكان الحاضر والاستهجان هناك - متن الواقع الآخر. سيجعل البروفيسور المصري من حياته الشخصية والعلمية هذا القناع مادة تدريسه في فضاء جامعي متفتح وحر أي تنعدم فيه الاكراهات القائمة في الجامعة المصرية، وحيث المراحيض نظيفة للغاية، وسيسرد علينا في حلقات لحظات وحالات اقامة الأميركية يسرد على الطلبة والقراء معاً، وهي اقامة تجد مصدرها في رحلة للغاية ذاتها قام بها المؤلف فعلاً الى الديار الأميركية. ويقدم لنا عشرات الأطباق من مشاهداته في سان فرانسيسكو، وعلاقاته مع زملائه وطلبته وطالباته خاصة بما يسمح بإبراز الشبقية المشرقية وألوان من الهوس الجنسي، وتبلور العقدة الغرامية، المحبوكة جيداً على مدار الرواية، والتي تعتبر مناط تبئير في كل الأعمال السردية التاريخية أو المتوسلة بالتاريخ. وللأستاذ شكري، الباحث في التاريخ، سيرة شخصية وثقافية، كانت تصلح، لو أحكم تبئيرها، وضمّ سردها، بمحطاتها المتعددة، ومواقفها المشحونة، والمتباينة الوجوه، لأن ترسم مساراً سيرياً غنياً لرواية قناعية أو لما أراد المؤلف أن يجعله قناعاً وتعلة ليرمي في وجه مصر. وأميركا أيضاً، بكل ما يشينها وما هو مدبوغ على جلدها. تعتمد "أمريكانلي"، بدءاً من عنوانها، ناظم التناص كمبدأ توليدي للمعنى ليحيل على الدلالة الثاوية في "العثمانلي"، والى المعنى الثاني، النقيض والصريح بلا لبس في "أمري كان لي". سيقول شكري في جواب له لطالبة سألته عن رأيه في امريكا: "إني أستمتع هنا بالتعبير عن نفسي في حرية وأني أخشى أن هذا الأمر لن يستمر طويلاً" ص 383. وتكتب الرواية في صيغة جملة سردية تناصية، فتصبح البنية التناصية قوامها الأول من حيث الشكل - ولن نسهب هنا في شرح التراتبية الدلالية لهذه الاصطلاحية، من الشكلانيين الروس الى أبحاث كرستيفا، حسبنا القول انها موقع اللقاء داخل النص للملفوظات المأخوذة من نصوص أخرى، أو بعبارة كرستيفا "التداخل النصي الذي ينتج داخل النص الواحد"، وثانياً: وجود المجال التناصي كمجال حواري للنصوص، بالامتصاص أو التحويل. والتداخل والهدم والبناء والتدمير والنفي والإحالة. لكن التناص يستوجب حضور النص المركزي، الذي يحتفظ بعد ذلك بزيادة المعنى حسب پL.jenney، وبدون هذا الحضور ماذا يحدث؟ ينفي صنع الله ابراهيم في مطلع روايته عنها صفة التجنيس الذاتي بقوله السارد زعماً: "وليس الأمر بالطبع سيرة ذاتية، فهذه لا تهم أحداً غير صاحبها" ص 33. وبما ان الموضوع - شكلاً على الأقل - هو التاريخ الشخصي للمحاضر، فتكون "أمريكانلي" سيرة موضوعية، لتشتغل آلية التناص، الذي سرعان ما ينقلب الى وعاء يمتص ما عداه. ستهجم الإحالات والمرجعيات والتواريخ والشخصيات السياسية والفكرية من كل ناحية. ونقول للقارئ، ولا تعجب، إذا أراد أن يتعرف، مثلاً، على الوقائع والعناصر التالية: مجزرة دنشواي، مجزرة دير ياسين، حكم المماليك في مصر، لماذا تقدمت اليابان وتأخرت مصر، نظام الحمية وكيفية التخلص من الدهون، تفاصيل ما جرى للرئيس كلينتون مع سكرتيرة البيت الأبيض مونيكا، مناقشات مسئمة عن الصراع العربي - الإسرائيلي، عبقرية المكان المصري حسب جمال حمدان، عبقرية الفراعنة، تطور الحركة الطلابية الاجتماعية في أمريكا، الأعياد والمناسبات الأمريكية، المشهد الثقافي العربي حالياً... وان أراد القارئ، أيضاً، التعرف على شخصيات ومناهج هؤلاء الباحثين: طه حسين، عبدالعظيم أنيس، نصر أبو زيد، شهدي عطية، أمينة رشيد، صافيناز كاظم... وأزيدك خطباً كاملة، وتقارير عن أوضاع وعاهات مصر، وصكوك ادانة للفساد المستشري، وما شئت من هذا القبيل، فسيجده في "أمريكانلي" كشكول معلومات وأخبار وافادات وشعارات افترض المؤلف أنها، وهي تتناص بالسيرة الشخصية وغيرها ستنتج التاريخ الموضوعي، فإذا بها أمشاج ونُتف، لا أدركت السيرة - أتو بيوغرافية أو بيوغرافية - وهي تجنيس فرعي في الرواية، مخصوص بعلاماته. حين تعكف الرواية أمريكانلي على سيرة الفاعل فيها، نراها مكتوبة بلغة ترسم، وتضع الأشياء وهي تؤطرها تدريجاً لتراها العين ثانية، ثم تشرع لاحقاً في تحريكها ودفع القارئ للدخول معها في جدل النظر والإحساس والتفكير والإثارة. العين الواصفة فيها كاميرا مثبتة على المرئي، ومن يقع في وسطها يهرب منها الى استهواءاته وتلاعبه وفعله المحسوب بالزمن ووضعه المدروس في المكان حسب كرونوتوبية باختين" عندئذ نكون تماماً مع فن صنع الله ابراهيم، في سياق ما قبله، ومستحدثاً لما بعده. أما عندما ننتقل الى ما يسميه الباحث صلاح صالح ب"سرد الغزارة المعلوماتية"، المتجاوب مع عصر الصورة والتلفزيون والكمبيوتر، هذا الذي وجد ما يسوغه في رواية "ذات"، والذي يبلغ كتمثيل نقطة الذروة، فإننا سنصل الى ذروة القطيعة بين شاغلين ومنحيين السرد الفني، والتاريخ وهو سرد معقلن له نحوه الخاص. وبما أن صنع الله ابراهيم روائي محنك، أي يعرف ما يفعل، حتى بفعل الاعتباط، فمن الشطط والمجازفة الحكم عليه بالنجاح أو الفشل، ونكتفي بالعودة من حيث بدأنا، أي الى ذلك التنبيه الذي نادى به كويتزي حول "تصفية استعمار التاريخ" إذا أراد الكاتب أن يحتفظ بالرواية... اللهم، اللهم أن يقنعنا ص. ابراهيم على غرار الرسام السوريالي ماغريت بأن الغليون المرسوم بحذافيره في لوحته الشهيرة ليس غليوناً ceci nصest pas une pipe!