سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
دعوة السيستاني إلى الانتخابات تحرج واشنطن التي لم تهتم بملاحظاته واكتفت بردود الفعل على ما يصدر من النجف . اتفاق نقل السلطة في العراق بين الحرص على المصالح الفئوية وإيقاع الانتخابات الأميركية
تعتبر دعوة آية الله علي السيستاني إلى إجراء انتخابات عامة لاختيار ممثلي الجمعية الوطنية المقبلة التطور الأبرز في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، ما اضطر الولاياتالمتحدة إلى إعادة النظر في طريقة نقل السلطة بعدما كان اضطرها الصيف الماضي إلى التراجع عن إصرارها على أن يصوغ الدستور مجلس دستوري معين. وعكست الردود الأميركية ارتباكاً واضحاً في التعاطي مع هذه الدعوة التي لا يمكن للإدارة الأميركية أن ترفضها خصوصاً أنها لا تترك مناسبة إلا وتشدد فيها على التزامها إقامة نظام ديموقراطي في العراق. كما عمّق هذا الارتباك الأميركي الانطباع بخطورة مأزق الولاياتالمتحدة في العراق الناتج عن فشلها في إدارة البلاد بعد سقوط النظام. وأثارت هذه الدعوة ردوداً كثيرة، تمحور معظمها حول صعوبة إجرائها بسبب الأوضاع الأمنية قبل الموعد المحدد لنقل السلطة إلى العراقيين في حزيران يونيو المقبل كما نص اتفاق 15 تشرين الثاني نوفمبر بين مجلس الحكم الانتقالي والحاكم الأميركي للعراق بول بريمر. وأثارت الدعوة غباراً كثيفاً لتغطية حقيقة مواقف الأطراف التي تعرضت لهذه الدعوة بالرفض ليس لصعوبة إجرائها، كما يقال، بل حماية لمصالح معينة. كما كشفت حرص الولاياتالمتحدة على "برمجة" سياساتها في العراق على إيقاع الانتخابات الرئاسية آخر هذا العام، وتتويجها ب"إنجاز كبير" يسهم في إعادة انتخاب سيد البيت الأبيض لولاية ثانية. ومن المفيد التذكير بالأجواء التي سبقت الاتفاق، إذ كان مجلس الحكم العراقي يركز على مطالبة بريمر بتسليم العراقيين الملف الأمني "بسبب قدرة العراقيين على إدارة هذا الملف أفضل من قوات الاحتلال" كما كان يقال. وفجأة يطير بريمر إلى واشنطن مطلع تشرين الثاني ويعود بعد أيام حاملاً "برنامجاً متقدماً" أكثر مما ظن العراقيون أنفسهم، أنه خطة "نقل السلطة" إلى العراقيين. والاتفاق، كما بات معلوماً، ينص على أن يتم اختيار ممثلي الجمعية الوطنية من طريق المجمعات الانتخابية المحلية في المحافظات ال18. وأهم ما فيه هو لجنة الإشراف أو تنظيم الانتخابات وتتشكل من 15 شخصاً: خمسة يعينهم مجلس الحكم، وخمسة يعينهم مجلس المحافظة وخمسة من أكبر بلديات المحافظة. وإذا كان مجلس الحكم يمثل شرائح كبيرة من الشعب العراقي وقواه السياسية إلا أن كل مجالس المحافظات معينة من سلطات الاحتلال. وعلى رغم الاتفاق على وضع مواصفات محددة لكل مرشح تحتفظ لجان تنظيم الانتخابات بصلاحيات قبول المرشحين واستبعادهم. وتقول أوساط السيستاني إن "هذه العملية أقل ما توصف به أنها غير ديموقراطية"، ويؤكدون أن "أي انتخابات مهما شابتها نواقص تبقى أفضل تمثيلاً من التعيين". وجاء اعتراض السيستاني على هذا الاتفاق ودعوته إلى إجراء انتخابات منسجماً مع الخط العام الذي التزمه. فهو من ناحية لا يرغب في الدخول في التفاصيل السياسية على رغم متابعته لها، ويركز على الأمور السياسية في شكل توجيهي فقط. وهذا ما لم تلتفت إليه سلطات الاحتلال جيداً. فالسيستاني يعتبر أن طريقة تشكيل النظام الجديد بالقدر نفسه من الأهمية لتغيير نظام صدام. وهذا الاهتمام لم تقدره واشنطن جيداً أيضاً، لأسباب تراوح بين الجهل والاستعلاء، كأن يقول أحد المحللين الأميركيين: "لا نريد لأحد آيات الله أن يمارس الفيتو على ما نقوم به". ونسي هذا المحلل أن "ما تقوم به" واشنطن يحصل في... العراق وليس في الولاياتالمتحدة. لم تنتبه واشنطن إلى "الاهتمامات المشتركة" بينها وبين السيستاني. لم تقدر "مساهمته" في عملية إسقاط نظام صدام. لم تستوعب اعتراضه على إصرارها على صوغ الدستور وتحديد مهلة ستة شهور لذلك، ولم تنتبه إلى أهمية دعوته إلى انتخاب مجلس دستوري. كل هذه المعطيات كانت واضحة، لكن الولاياتالمتحدة تجاهلتها عمداً أو ربما جهلاً. وربما شكلت هذه المؤشرات فرصة كي تراجع أداءها في العراق. لكنها، بدلاً من ذلك، ازدادت تخبطاً وارتباكاً، واقتصرت سياستها في هذا المجال على ردود الفعل على ما يصدر من النجف. ويحيل البعض هذا التردد الأميركي إلى فقدان الحماسة لدى سلطات الاحتلال لخطوات كبيرة بعد اتخاذها إجراءات اكتشفت لاحقاً خطأها مثل حل الجيش. وجاء اتفاق نقل السلطة إلى العراقيين واعتراض السيستاني عليه ليتوج سلسلة الأخطاء الأميركية في العراق. وأهمية هذا التطور تنبع من أن السيستاني تطرق مباشرة إلى لب القضية الأساسية التي تهم الإدارة الأميركية في العراق بعد إسقاط نظام البعث، ألا وهي شكل الحكم المقبل في البلاد الذي سيكون له تأثير كبير ليس فقط في المستقبل السياسي للعراق بل في دول كثيرة، قريبة وبعيدة. على أن هناك نقطة إجرائية لا تقل أهمية، وهي توقيت نقل السلطة. إذ لا يخفى أن الإدارة الأميركية "تبرمج" سياساتها في العراق على وقع الانتخابات الرئاسية آخر هذا العام. ويبدو واضحاً حرص أركان الإدارة على "إنجاز كبير" في العراق يسهم في إعادة انتخاب سيد البيت الأبيض لولاية ثانية، يتمثل ب"نقل السلطة" إلى العراقيين في عز الحملة الانتخابية في حزيران المقبل. وإذا كان ذلك مفهوماً، لكن من غير المفهوم ولا المقبول أن يطغى هذا الاهتمام ويتجاوز مصالح الشعب العراقي كما يراها أبناؤه. لكن هل تعيد الدعوة إلى الانتخابات الجدل حول أولوية السيادة على الشرعية؟ بالطبع لا. فالقضيتان مترابطتان. فالذين يدافعون عن أولوية السيادة بعدم إمكان إجراء انتخابات نزيهة في ظل الاحتلال إنما يخفون مواقفهم الحقيقية التي تتعلق أساساً بالسعي إلى الحفاظ على مصالح معينة، فئوية في غالبها. ومجلس الحكم، الذي صوّت بغالبية 21 صوتاً لمصلحة اتفاق نقل السلطة، إنما غلّب بهذا التصويت مصالح أعضائه كما بات واضحاً، إذ لا يختلف اثنان على عدم فوز أكثر من نصف أعضاء مجلس الحكم في حال إجراء انتخابات عامة. وكان لافتاً أن مجلس الحكم لم يجر دراسة معمقة ولا تقويماً دقيقاً للموقف، بل رضخ لتهديد بريمر، بعدما علت بعض الأصوات المعارضة، بأن يصدر بياناً يتهم فيه مجلس الحكم بالامتناع عن تسلم السلطة بحجة معارضته الاتفاق. ولم يعكس الاتفاق، بالتالي، الرأي الحقيقي للعراقيين في كيفية نقل السلطة كونه جاء بصيغة أقرب إلى الفرض منه إلى القناعة. أما الأطراف الأخرى خارج مجلس الحكم فلا يختلف موقفها كثيراً. فهي تخشى من تكريس خسارتها من طريق صناديق الاقتراع. ولا تصمد الحجج التي تزعم الحرص على تمثيل صحيح للعراقيين واستحالة إجراء انتخابات في ظل الاحتلال أمام الصورة الأخرى لنقل السلطة التي تشي ب"تعيين" أعضاء الجمعية الوطنية. وضعف هذه الحجج ينبع أساساً من عدم الاهتمام بإجراء دراسة عن الأوضاع وتقويمها بغية التوصل إلى أحسن السبل لإجراء أفضل تمثيل للعراقيين في ظل الظروف الراهنة، والاكتفاء بترديد عبارات لا تقنع مطلقيها أصلاً بصدقها. وهناك جانب قصور آخر في هذه "الحجج" يتمثل بتجاهل الأطراف المعارضة للانتخابات أهمية دور الجمعية الوطنية المقبلة خصوصاً في تشكيل حكومة انتقالية من مهماتها التفاوض مع قوات الاحتلال لإنهاء الاحتلال والإشراف على انتخاب مجلس دستوري وانتخابات عامة. فكيف تفاوض حكومة "معينة" لإنهاء الاحتلال، وهي التهمة التي توجه يومياً إلى مجلس الحكم للطعن بشرعيته؟ وهذا يستدعي سؤالاً آخر يشير إلى ثغرة قانونية كبيرة، وهو: ما هي مرجعية الحكومة المعينة بعد حل مجلس الحكم وسلطة التحالف؟ وكان طبيعياً "لجوء" واشنطن إلى الأممالمتحدة لمحاولة الخروج من هذه الورطة. لكن اللافت أيضاً هذا التردد الأممي الذي يتهمه البعض بالتواطؤ مع الولاياتالمتحدة. ولا يخفي العراقيون مرارتهم من إحجام الأممالمتحدة، هي التي "اعتاشت" أكثر من عقد على المسألة العراقية، وحين يحتاجها العراقيون تتذرع بأسباب أمنية لتخلي الساحة العراقية أمام تفرد الولاياتالمتحدة بعد إقصائها أوروبا تماماً. ويقول العراقيون: لماذا أحجمت الأممالمتحدة في العراق فيما تقدمت في مناطق أخرى في العالم؟ وأي حاجة إليها في العراق بعد استتباب الأوضاع؟ وهل يقتصر دورها في أوقات السلم فقط؟ ويصفون بعثة الأممالمتحدة إلى العراق لتقويم إمكان إجراء انتخابات ب"مهمة رفع العتب". مسألة أخيرة: مسألة أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، التي اتخذتها واشنطن ذريعة للحرب على العراق، ولم يجد المفتشون أثراً لأي منها، هذه المسألة التي هددت حكومة توني بلير وإدارة الرئيس جورج بوش بالكاد يذكرها العراقيون في الداخل. وحين يسأل العراقيون عنها يقولون: نظام صدام حسين أسوأ أنواع أسلحة الدمار الشامل، مشيراً إلى مئات آلاف الضحايا في المقابر الجماعية وضحايا الحرب على إيران واحتلال الكويت. ربما اعتبرت الولاياتالمتحدة أنها كسبت رضا العراقيين بعدما خلصتهم من أعتى نظام ديكتاتوري في العالم جثم على صدورهم أكثر من 35 عاماً، لم يكن في مقدورهم وحدهم تغييره. والكثير منهم يقدرون لها ذلك. لكنهم يعتبرون أن بناء عراق جديد بأهمية إسقاط النظام الديكتاتوري نفسه، ويرغبون بإنجاز ذلك بالتفاهم والتوافق، إن لم يكن باستقلالية، لكن بالتأكيد ليس على إيقاع أجندة أميركية داخلية صرف، خصوصاً إذا تعارضت مع مصالح غالبية العراقيين.